مبدعوها بدأوا خطوات الكتابة عبر البوابة المصرية .. رحلـة نضج الرواية السودانية

الـروايـة السـودانية
الـروايـة السـودانية

حسن حافظ

مع اشتداد الأزمة التى يعيشها شعب السودان حاليا، يتساءل البعض عن أحوال السودانيين وطبيعة ثقافتهم الغنية بروافدها المتعددة، فتكون الإجابة فى عالم الرواية، فالأخيرة هى عالم سحرى نلج من بابه إلى ثقافة الشعوب ونتعرف عليها ونحن فى مقاعدنا، فهل هناك سفير أفضل من الرواية لتعريفنا بجيراننا وأشقائنا فى الجنوب، وكشف مفاتيح ثقافتهم التى تعد امتدادا واستكمالا لثقافة المصريين؟ تبدو الرواية السودانية إذن رسول ثقافة ولاد النيل إلى العالم كله، "آخرساعة" تحاول إنارة هذا الجانب من جوانب التواصل الثقافى بين مصر والسودان، وتلقى الضوء على بعض مسارات تطور الرواية السودانية.

ولادة الرواية السودانية

وُلدت الرواية السودانية متأخرة مقارنة بوضع الرواية المصرية، لذا تأثرت الأولى بالثانية، فالرواية المصرية بدأت إرهاصاتها فى نهايات القرن التاسع عشر، بينما وُلدت الرواية السودانية فى العام 1948، عندما حول الكاتب عثمان هاشم أسطورة (تاجوج) الشعبية الشهيرة فى السودان إلى نص سردى طويل، واعتبر البعض أن هذا هو أول نص روائى سودانى، كما تعد الروائية ملكة الدار محمد عبد الله أول سودانية تكتب رواية، إذ كتبت روايتها (الفراغ العريض) فى النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، لكنها لم تُنشر إلا فى عام 1970، أى بعد وفاة مؤلفتها بعام واحد، وهى رواية تقدمية فى معالجتها لقضايا المرأة، بينما بدأ الروائى أبو بكر خالد فى نشر أولى رواياته (بداية الربيع) 1958، بينما كتب خليل عبد الله الحاج روايته (إنهم بشر) فى القاهرة العام 1955، ونشرها العام 1960، وتميزت هذه المرحلة من مراحل تطور الرواية السودانية بالتأثر بالرواية المصرية، خصوصا الرواية الاجتماعية، إذ ركز كلٌ من خالد وعبد الله الحاج وملكة الدار على الأوضاع الاجتماعية وتطور المجتمع السودانى فى تلك الفترة التى واكبت الاستقلال وميلاد الدولة السودانية، خصوصا أن خالد كان أول روائى سودانى ينشر خارج البلاد وتحديدا فى مصر.

الروائى الطيب صالح

ورغم البدايات الخجولة للراوية السودانية التى كانت تبحث عن هوية خاصة بها تعبر بها عن نفسها، فقد جاء العام 1966، ليشهد الحدث الأبرز فى مشوار الرواية السودانية، إذ نشر الروائى الطيب صالح روايته الأشهر (موسم الهجرة إلى الشمال)، فى مجلة حوار ثم نشرها فى كتاب مستقل وحققت انتشارا ونجاحا مدويا فى العالم العربى وبعد ترجمتها إلى اللغات الأخرى، وتندرج الرواية تحت خط روايات الصراع الحضارى بين الشرق والغرب، وكان للمصريين السبق فى هذا المضمار، فقد كتب طه حسين (أديب)، وتوفيق الحكيم (عصفور من الشرق)، ويحيى حقى (قنديل أم هاشم)، لكن الطيب صالح رغم تأثره بالروائيين المصريين إلا أنه لم يكتب على منوالهم بل شق لنفسه طريقه الذى خلده فى الأدب، فعمله يقوم على التحدى والمواجهة بين بطل الرواية والغرب.

وتحولت رواية الطيب صالح إلى عمل عالمى بامتياز واختيرت فى قائمة أفضل 100 رواية عالمية، كما أشاد بها المفكر الكبير إدوارد سعيد فى كتابه (الثقافة والإمبريالية)، إذ عدها خير رد على خطاب الاستعمار كما قدمته رواية (قلب الظلام) للروائى جوزيف كونراد التى نشرها العام 1902، فإذا كانت الأخيرة تحكى قصة السفر مع الاستعمار من دول الشمال الأوروبى إلى الجنوب حيث قلب القارة الأفريقى المستعمر، فإن رواية الطيب صالح تحكى عن مسار عكسى عندما يذهب بطل الرواية مصطفى سعيد من بلده المستَعمر أى السودان إلى مركز الاستعمار فى لندن، ويقدم البطل صورة المواطن المهموم والغاضب من اغتصاب الغرب لثروات بلاده، وطغت شهرة هذه الرواية على بقية أعمال الطيب صالح الروائية والقصصية.

الدكتور محمد المهدى بشرى

وبعد فترة الستينيات واصلت الرواية السودانية عملية نضجها وتخطى مرحلة الطيب صالح، عبر أجيال من الروائيين والروائيات الذين اهتموا بالعمل على سبر أغوار المجتمع السودانى والاشتباك مع قضاياه والنهل من تراثه الغنى متعدد الروافد بما فى ذلك الرافد الشعبى بما فيه من أساطير وخرافات، بحسب ما يرصد الدكتور محمد المهدى بشرى، فى كتابه النقدى (الرواية السودانية فى 60 عاما)، فظهرت روايات واقعية مثل رواية (أعمال الليل والبلدة) 1971 لإبراهيم إسحاق، و(التراب والرحيل) 1989 لإبراهيم بشير، و(الخرطوم وداعا) 1985 لبابكر على ديومة، و(مسرة) 1986 لبشرى هبانى، وشهد عقدا السبعينيات والثمانينيات نضج الرواية السودانية واكتمال أدواتها كأحد فروع الرواية العربية المستقلة.

وشهد عقد التسعينيات انفجارا روائيا بحسب الدكتور هشام ميرغنى فى دراسته عن (تحولات الرواية السودانية فى التسعينيات وما بعدها)، إذ يؤكد على أن هذ العقد شهد انفجارا روائيا كبيرا فى المشهد السوداني، إذ برز الاستثمار الواسع لتقنيات السرد الروائى المختلفة، والبحث عن كتابة مغايرة لا تعيد استنساخ الواقع رغم اشتباكها معه، وبروز السيرة الذاتية منهلا للروائى، فضلا عن الاشتباك مع الواقع السياسى والاقتصادى الصعب للبلاد فى تلك الفترة، بما فى ذلك أثر الحرب الأهلية، كما شهدت هذه الفترة ازدهار الرواية التاريخية التى تمكن الروائى من أن يفجر أسئلة المشهد الراهن من دون الوقوع فى شراكه، وربما يكون النموذج الأبرز هو رواية (فركة) للروائى طه جعفر، التى صدرت العام 2010، وتتناول ملف تجارة الرقيق الشائك، كما برزت الكتابة النسائية فى نهاية القرن العشرين وأصبحت من المكونات الثابتة لمشهد الرواية السودانية.

الروائى أمير تاج السر

وتشهد الرواية السودانية ثورة من حيث الكم والكيف فى السنوات الأخيرة، إذ نذهب إلى الروائى أمير تاج السر (وهو ابن أخت الطيب صالح)، الذى يعد حاليا زعيم الرواية السودانية فى المشهد العربى، وأحد المجددين الكبار فى سياق الرواية السودانية والعربية، إذ وصل العديد من رواياته إلى القائمة القصيرة فى جائزة البوكر العربية، وقد أقام تاج السر فى مصر طوال فترة الثمانينيات من القرن الماضى، حيث تخرج فى طب جامعة طنطا، وفى هذه الفترة كتب الشعر ونشره فى عدد من المجلات الثقافية القاهرية مثل: "القاهرة" و"إبداع" و"المجلة"، المدهش أن تاج السر أشار إلى أنه انتقل من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية بناء على نصيحة الروائى المصرى الكبير عبد الحكيم قاسم، الذى رأى أن شعر أمير تاج السر يذخر بالحكايات التى يمكن استغلالها روائيا.

ونجحت رواية تاج السر الأولى (كرمكول) 1988، التى كتبها فى مصر، فى لفت الأنظار له على صعيد العالم العربى، ثم عمل بالطب فى دولة قطر، وهناك بدأت رواياته فى الظهور تباعا، وأبرزها: (مهر الصياح) 2009، التى حققت نجاحا جماهيريا ونقديا كبيرا، و(توترات القبطى) 2009، و(العطر الفرنسى) 2010، و(زهور تأكلها النار) 2016، و(سيرة الوجع) 2019، ويصدر له قريبا رواية (فوتوغرافى: غليان الصور)، وفازت رواية (366) 2013 بجائزة كتارا للرواية العربية العام 2015، وهو يقدم فى رواياته عالما قائما على الواقعية السحرية التى يستعرض من خلالها الثقافات المتعددة فى السودان، فتقدم رواياته نافذة حقيقية عن الثقافة السودانية وأوجه تفردها.

ومن نفس جيل تاج السر، تأتى الروائية ليلى فؤاد أبو العلا، التى وُلدت فى القاهرة العام 1964، وهى تكتب بالإنجليزية لإقامتها فى بريطانيا لسنوات طوال، وقد حصلت على جائزة كين العالمية للأدب الأفريقى، وقد ترجمت العديد من أعمالها إلى العربية منها رواية (المترجمة)، و(مئذنة)، و(الهدد إن حكى)، وهى تناقش فى رواياتها فضلا عن أوضاع بيئة السودان والمرأة السودانية، العلاقة بين المواطن الأفريقى والمجتمع الغربى، ولا تعد ليلى أبو العلا وحيدة فى ميدان الكتابة النسائية، إذ يمتلك السودان كتيبة من الروائيات القديرات منهن بثينة خضر مكى، صاحبة روايات (صهيل النهر)، و(أغنية النار) و(حجول من شوك)، والروائية والشاعرة كلثوم فضل الله، صاحبة رواية (الصدى الآخر للأماكن)، أما الروائية السودانية سوزان كاشف فتطل من خلال دور نشر مصرية، إذ نشرت روايتيها (توابيت عائمة) و(إيرات)، فى القاهرة.

الروائى حمور زيادة

أما من جيل الشباب فنجد فى المقدمة، الروائى حمور زيادة، الذى رسخ وجوده فى المشهد الروائى السودانى والعربى برائعته الروائية (شوق الدراويش) 2014، التى حصلت على جائزة نجيب محفوظ للأدب فى نفس العام، كما دخلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، وهى رواية تدور أحداثها فى نهاية القرن التاسع عشر حول شخصية بخيت منديل المشحون بتجارب صوفية، وتعد الرواية هى الثانية لزيادة بعد روايته الأولى (الكونج) 2010، ثم أصدر روايته الثالثة (الغرق: حكايات القهر والونس) 2018، كما أصدر مجموعتين قصصيتين، وهو يعيش فى مصر منذ العام 2009، ويشارك فى الحياة الثقافية المصرية كأحد جسور التواصل الثقافى بين شعبى وادى النيل.

الروائية رانيا مأمون

ومن جيل الشباب أيضا نجد الروائية رانيا مأمون التى كتبت رواية (الفلاش الأخضر) 2006، و(ابن الشمس) 2013، فضلا عن مجموعة قصصية بعنوان (ثلاثة عشر شهرا من شروق الشمس)، وكذلك الروائية سارة حمزة الجاك، الحاصلة على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائى عن روايتها (خيانتئذٍ) 2013، كما أصدرت رواية (السوس) 2017، فضلا عن ثلاث مجموعات قصصية، وهناك صباح سنهورى التى فازت بجائزة الطيب صالح للقصة القصيرة، وهى فى الثامنة عشرة من عمرها، وقد أصدرت روايتها الأولى (بارادايس) 2019. وبهذه الأسماء الشابة تواصل الرواية السودانية رحلة ازدهارها وتعبيرها عن ثقافة السودانيين وتجربتهم الحياتية وخصوصيتهم الفريدة وهويتهم الثقافية، فإذا كانت الثقافة السودانية عالما مسحورا فإن بابها الأكثر بهاء هو الرواية السودانية.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 10/5/2023

اقرأ أيضًا : وزيرة الثقافة التونسية: مصر حاضرة دوما في المحافل الدولية وعلاقات شعبي البلدين تاريخية