«مشاهد أيام السويس2» قصص واقعية للكاتب محمد نبيل

الكاتب محمد نبيل
الكاتب محمد نبيل

محمد الراوى... منجد عاطل، مقيم بالمسجد، ثم شهيد!

المطعم ... (2)

بعد أن استجمع قواه، واتكأ على مرفقيه، ثم كفيه، محاولا الوقوف، تلفت حوله يتوارى عمن حوله وهو ينفض عن جسده النحيف ما طاله من أرضية الفلنكات السيئة شكلا، ورائحة، وطعما (!) فقد تسللت أبخرة منها - جراء سقوطه من عليائه بجوار عجلات القطار- من أنفه وفمه إلى حلقه، وتذوق للمرة الأولى طعما للغربة، ليس مرا ولا هو بابارد، وكان أبعدما يكون من ملح العيش الذى طارده من الشرقية فهرب منه وظن أنه قد يكتشفه فى موانىء السويس ومصانعها وشركاتها أو حتى فى قراها السياحية.

ورغم أن أيد لم تمتد إليه لتنتشله من سقوطه، إلا إنه ظل يتفحص الوجوه من حوله وهو يسير ناحية نهاية المحطة عله يجد نظرة ولو واحدة تبرق له ومضات من الشفقة، وعندما خابت مساعى الغريق في طوق نجاه ينتشله من عتمة الغربة، وبحر الوحدة، رضى – مستسلما – بذاته يرافقها وهو يتعثر في خطواته الأولى بعد خروجه من شرنقة الشرقية، وأول ما خطر على باله كان أن يسد جوعه، ويسكت تلك التقلصات المنغصات عليه والواقفات سدا لطرق التفكير، فما أقسى الجوع فى الغربة على نحافة الجسد وفراغ الجوف والمعدة والعقل، فكر ببعض اللؤم فى أن يرمى بالسلام والتحية على الجالسين على رصيف المحطة، وكان يتوهم أنهم سيردون عليه السلام بعزومة على سندوتش أو كوب شاى، لكن حتى صدى صوته لم يرجع إليه.

قفز إلى ذهنه سؤال بديهي" ماذا حدث للمصريين؟!" وسقط من جديد فى هاوية اسمها "الهرطقة" وفى جدل لم يعلم من أين آتاه! لكنها عفوية المصريين المرتكنة على سبعة آلاف عام من التحضر، وبدأ يتعجب ، ماذا حدث لنا؟ ألم يدعوننى أحدهم؟ ألا أبدو لهم أننى غريب يستحق بعضا من الكرم؟...

وتوالت جدليات الأسئلة، لكنها فقط أسئلة لا تغنى ولا تثمن من جوع ولم يجد إجابة لا منه ولا ممن يسألهم فى واقعة الإفتراضى، هؤلاء الذين ينظر إليهم ولا ينظرون إليه، اقترب الليل بعد سماعه لأذان العشاء التى لم يدرك أنه آذان العشاء أو المغرب، فهذه الساعة الغريبة بين الآذنين مرت في كد الأسئلة والاستفسارات التى طائل منها أو من أجوبتها الغريبة هى الأخرى! ولم يسيطر عليه الآن سوى الجوع الذى بدأ ينهش فى جوفه، وشيئا فشيئا إحتل الجوع مساحات شاسعة وممتدة فى رأسه حتى غلب القرار النهائى وهو أن يسحب يده إلى جيبه ليخرج منه ما فيه من جنيهات عدة لم تبلغ بعد المائة في عددها وحسابها.

وبدأ الجرى والتفحص خلف لافتات المحلات التى وشت بجلاء عن استحالة تناول الطعام هذه الليلة لأسباب تتعلق باللغة التى كتبت بها ما بين الانجليزية والفرنسية والاختصارات من الأحرف التى لا تجد عنده ما دل وما صدق، فضلا عن الفرانكوآراب التى استعمرت المكتوب والمسموع، وهو بين كل هؤلاء لم يفرق بينها على الإطلاق فهو من حملة الثالثة الابتدائى، فقرر أن يبحث عن كشك أو عربة فول، وأيضا بعد نهاية شارع الأربعين ذهابا وعودة لم يجد مبتغاه من طبق فول أو قرصين طعمية، ولأنه الليل فلا فول هنا بالليل ولا طعمية، فبدأ يطلق غريزة الشم باحثا عن شرائح البصل المقلية والثوم المبلل بالخل، نفسه الجائعة الهائجة تريد طبقا من الكشرى وأيضا جيبه لا يريد أكثر من ذلك، فهو لا يعلم كم سيبقى وسط هؤلاء الناس الذين لا يعبئون بقدومه، وكم سيطول الوقت والأيام حتى يعثر على عمل، هدفه الأعظم، كما آمن بمقولة جحا" بلدك فين؟ ... اللى فيها اكل عيشى!".

يااااه ... رددها طويلا وأطلقها فى زفير راح منه بعيدا حتى سبق خطواته التى بدأت تتعافى وتقوى فى سيرها تجاه اكتشافه ضالته المنشودة، قالها لنفسه بصوت أقرب للجهر منه من السر... الناصية القادمة، الحمد لله هذا محل كشرى مفهوم ومعلوم برائحته وشكله ولا احتياج لقراءة يافطته  والتعثر في القراءة المضنية كما سابقوه من المحلات المجهولة، دخل محمد رافع الرأس، فهو يملك ما هو مقابل العشرات من أطباق الكشرى، فبحث عن طاولة مناسبة ليحتلها، وهناك تحت التكيف بجوار الواجهة الزجاج الكاشفة لهؤلاء الناس المارة بالشارع أراد أن يتناول طعامه أمامهم ليعلن لهم قدرته على الاكتفاء بمقدراته وعدم العوز لهم، والمفاجأة أنه تفحص الوجوه من خلف الزجاج الملمع جيدا، هو يبحث عن أعين ترد إليه النظرة بالنظرة فلم يجد وكأن هؤلاء حتى لم يشعروا بوجوده هنا فى مطعم الكشرى.

لكن تكرم عليه القدر بأحدهم يطيل النظر إليه وكأنه يريد التحدث معه، واستغل صاحبنا هذه النظرة ليجد الفرصة فى التجاهل لواحد من هؤلاء الناس الذى إعتبره رسوله إلى كل هؤلاء ليحمل رسالته هو الآخر بالتجاهل لهم، نوعا من رد الاعتبار لذاته المجروحة بالتجاهل، لكن هذا الرجل بعد أن رفع يده ملوحا بالإشارة بالقدوم الى داخل المطعم، طأطأ محمد رأسه معلنا رفضه لطلب الرجل بالمشاركة فى طاولته وطعامه فهؤلاء منذ العصر لم يكترثوا به على الإطلاق ولم يقدم أحدا منهم له أى طعام ولو لقمة "ناشفة" وأمام الاجتياح الجريء من الرجل ناحيته، وقف محمد ليغادر المطعم، حتى لا يستضيف أيا من هؤلاء، وما أن هم بالمغادرة إلا وعاد مستردا أنفاسه بعد أن صافح الرجل القادم من الخارج زميلا له بالداخل، وضحك محمد بصوت عال بعد أن جلس القادم مع المقيم، وحمد الله على أن ظنه قد خاب، وطلب طبق الكشرى وما أن قدم له الصبى العامل بالمطعم هذا الطبق الذي التهمه محمد فى دقائق معدودات، لكنه توقف من تكرار رفع الملعقة من الطبق مغترفا الأرز والمكرونة والعدس إلى فمه الذى لم يكد يفرغ إلا ويمتلىء، ولم يختبر ضروسه فى مضغ الطعام، فكان الطعام سائغا سهلا للبلع، ... توقف محمد وسأل نفسه" ... إننى سلكت ذات المسلك الذي رفضته عندما قدمت إلى السويس، فأنا لم أتفوه ولو بكلمة كرم من باب عزومة المراكبية لهذا الرجل، همهم وأماء يمينا ويسارا معلنا أسفه للجميع فهو مثلهم تماما ويشبههم جوهرا وفعلا ، فلماذا عاتبهم مع نفسه وهو مثلهم ؟!.   

في القادم إن شاء الله نكتشف معا كيف استقبله سوق العمل، ولماذا قبع فى مسجد حمزة، ومن انتشله.