«ميراث»

قصة قصيرة للكاتبة منى ماهر
قصة قصيرة للكاتبة منى ماهر

 

بدت بعينيها الملونة وشعرها الذهبي وثوبها الواسع كجزء من لوحة فنية تتحدث عن الريف الأوروبي، رغم عمرها المتقدم إلا أنها تحتفظ ببعض جمالها ورونقها، تأملتني طويلا قبل أن تتساءل بلكنتها الإنجليزية الواضحة: من انت؟

ترددت قبل أن أقول: أنا حفيد السيدة التى تمتلك هذا البيت.

ابتسمت بهدوء ومودة قبل أن تدعوني للدخول.

 

تأكدت من هويتي، تذكرت والدتي الراحلة ودعت لها بالرحمة، رسمت صليبا فوق صدرها، انهمرت بعض الدموع وهي تذكر جدتي وتتحدث عن لحظاتها الأخيرة، نظرت لي طويلا: تحمل الكثير من الملامح الشرقية لكن ألوانك من هنا .. هل كانت رحلتك سهلة؟

أجبت: نوعا ما

بعد حديث ممل تركتني لتعد الشاي، من المريح أن أبقى وحيدا بعض الوقت فلقد بدأت أشعر بالتوتر وأبحث عن الكلمات بحثا.

 

اقتربت من مدخنة رخامية، فوقها مباشرة لوحة زيتية ضخمة لسيدة شابة، ترتدى ملابس قديمة الطراز، كل الألوان داكنة ما عدا الوجه، مشرق كالشمس يدعوك لتامله، محاط بشعر ذهبي معقود لأعلى، ملامحه الدقيقة رُسمت بعناية فائقة، تحمله رقبة طويلة مزينة بعقد من اللؤلؤ، تجلس على كرسي عالي الظهر، شعرت بالدفء وأنا أتأملها، الملامح تحمل الكثير من أمي، إنها جدتي، لمحت صورة فى إطار فضي لفتاة صغيرة، تشبه ابنتي إلى حد كبير، كل الملامح التي تسكنني أجدها هنا.

 

رأيت جدتي مرة واحدة فقط، ما زال المكان يحمل بعض آثاره القديمة، كنت ألعب في مكان ما فى الخارج وزرعت شجرة صغيرة، قالت لي أمي وقتها: سيصبح لك جذور ممتدة.

 

لم  أكرر الزيارة، لم أعرف هل كبرت الشجرة أم اقتلعت من مكانها، تتغير الملامح والأماكن بمرور الوقت، منعني أبي من السفر مع أمى لأن جدى أصر على ذلك، لم أفهم وقتها، كنت أعشق جدي فرضخت لأمره، لا أنكر أنه ترك ثروة لا يستهان بها لكنني أشتاق أحيانا للشجرة التي زرعتها بيدي، أخبرته يوما بأمر هذه الشجرة فضحك قائلا: الشجر المصري أفضل من الشجر الإنجليزي .. شجرك هنا يحيا بقربك.

 

حاولت عيناى الوصول إلى الخارج بحثا عن شجرتي التي تركتها صغيرا، لكن الستائر المسدلة كانت عائقا، كلمات جدي جعلتني أعتقد أنها ماتت وحيدة.

سمعت وقع أقدام تقترب، كانت السيدة تحمل فنجانا من الشاي له رائحة طيبة وبعض الحلوى فوق صينية من الفضة لها بريق لفت نظري.

بعد أن انتهيت من شرب الشاي، صعدت السيدة للطابق الأعلى كي تحضر شيئا تركته الجدة من أجلي، جاب خيالي أنحاء الأرض، إنها الأمانة التي أصرت جدتي على حضوري شخصيا لاستلامها، ربما تكون مجوهرات قيمة تخاف ضياعها، ربما نقودا أجنبية ستتحول لمبلغ ضخم بالعملة المصرية.

عادت السيدة تحمل علبة لها شكل خاص، قامت بفتحها، بها كمان حقيقي من الخشب الداكن، ناولته لي وعلى وجهها ابتسامة.

كتمت غيظي، قطعت كل هذه المسافة من أجل كمان قديم؟

لم أكن يوما مغرما بالموسيقى ولن أكون، تظاهرت بالدهشة وإن كانت حقيقية، حاولت أن أحرك أوتاره فأصدر أنغاما مضطربة.

 

:اختارتك دون غيرك لتمنحك كمانها النادر.. كانت عاشقة له.. تعزف فيتوقف الزمن.. كانت تقول حين أسمع أنغام الكمان ارحل بعيدا  فيظهر الأحبة ويعود الغائب وتتبدد وحدتي .. ماتت وحيدة على الرغم من وجود الكمان.

لم تترك لي جدتى شيئا آخر، لم أر أحدا سوى هذه السيدة التى لم أعرف من تكون، لم تحاول أن تتحدث عن نفسها، أعرف أن لي أقارب من جهة أمى، لها  أخوة لكن المكان حولى يخلو من البشر.

 

غادرت عبر الفناء الإمامي، تحركت عيناي فى كل اتجاه تودع المكان، لم أحاول البحث عن شجرتي، لا أعتقد أنني سأعود مرة أخرى.

استسلمت للنوم فى الطائرة.

استقبلتني ابنتي ذات الإثني عشر عاما بشوق شديد، سألتني عما أحضرته لها، تداركت الأمر فأنا من هول الصدمة لم أحضر لها شيئا، ناولتها العلبة الأنيقة وأنا أداعبها :مفاجأة غير متوقعة.

قفزت فرحا عندما شاهدت الكمان: رائع.. كيف عرفت أننى أتمنى امتلاك هذه الآلة الموسيقية،

شعرت بالدهشة تملؤنى مرة أخرى:عرفت.

أصبح الكمان صديقا لابنتي، أتقنت العزف عليه، يقام لها الآن حفلات خاصة في الأوبرا، تأملتها وهي تجلس على المسرح في ثوب داكن وتمسك الكمان، تذكرت اللوحة الزيتية البعيدة التي كانت فوق المدخنة الرخامية.

بدأ العزف، الإضاءة خافتة، هالة من الضوء أحاطت بابنتى، أخذتنى الموسيقى بعيدا، لمست شيئا في قلبي فأعادت له الحياة، عاد كل الأحبة في لحظة، ابتسمت سعيدا.