كنوز | مأساة صاحب «الليلة الكبيرة» سيد مكاوي.. «حلاق الصحة» سحب نور عينه

سيد مكاوي
سيد مكاوي

المصادفات جمعت بين رحيل صلاح جاهين فى 21 أبريل ورحيل رفيق دربه الموسيقار سيد مكاوى فى نفس اليوم مع اختلاف تاريخ الأعوام، جاهين رحل فى عام 1986 ومكاوى لحق به فى عام 1997، 26 عاماً غابها شيخ عموم المسحراتية الشهير بـ «سيد مكاوى»، ولكن إبداعاته مازالت حية تنسينا أنه فارقنا بالجسد. 


لم يترك سيد مكاوى لوناً من قوالب الغناء والتلحين إلا ووضع بصمة عبقريته اللحنية فيه، الكبار والصغار يحفظون عن ظهر قلب أوبريت «الليلة الكبيرة»، مازلنا ننشد «الأرض بتتكلم عربى» بفخر وأمل منتظر، نتسحر فى رمضان على صوت شيخ عموم المسحراتية الذى ترك خلفه ثروة تتزاوج فيها كلمة فؤاد حداد التى تهدف لإيقاظ الأمة التى ترجمتها نغمات مكاوى وروعة إدائه. 

اقرأ أيضًا| في ذكرى رحيل «شاعر المرأة» نزار قباني: لو كان في رأسي عقل ما كتبت الشعر


وُلد سيد مكاوى عام 1927 لأسرة فقيرة بحى الناصرية، من هذا الحى تشرب خفة الظل ومفردات أصحاب الحرف الشعبية، واستخرج مخزوناً فيما قدمه لنا فى ألحان شعبية ودينية وعاطفية بصياغات درامية تتميز بها مدرسته المكاوية.


أصُيب بمرض فى عينيه وهو فى الخامسة من عمره، ضيق ذات اليد جعل أسرته تذهب به إلى «حلاق الصحة» الذى سحب بصيص النور من عينيه بعلاجات بدائية، حتى فقد بصره فى العاشرة من عمره، رحل والده فى نفس السنة، وأصبح سيد مسئولاً عن أسرة مكونة من سبعة أفرادٍ، كان يطوف على منازل الحى لتلاوة القرآن الكريم مقابل قروشٍ قليلةٍ تسد القليل من متطلبات أسرته، إرادة الصبى سيد مكاوى الفولاذية جعلته يتحدى الظلام المحيط به، وصمم على أن يقهر كل ما يقابله من صعاب وتحديات. 


فى يوم من الأيام كان يسير بجوار والدته فسمع بائع «الروبا بيكيا» ينادى على مجموعة من الأسطوانات الغنائية لكبار المشايخ والمطربين والمطربات، تسمر فى مكانه طالباً من والدته أن تشترى له هذه الأسطوانات التى تشكل له كنزاً ثميناً، اعتذرت الأم لأن ما يعنيها ويشغل بالها هو لقمة العيش فقط، ترك سيد والدته وذهب ليبيع ساعة والده القديمة، عاد لبائع الروبا بيكيا وهو يقدم له كامل ثمن الساعة، البائع تعاطف معه عندما علم أنه كفيف، ذهب معه لمنزله بكنز الأسطوانات وهو يعده بأنه سوف يحضر له «جرامفون» بسعر رخيص، وأوفى الرجل بوعده، حفظ سيد كل الألحان المسجلة على تلك الأسطوانات التى تعلم منها الأدعية والتواشيح والغناء والدندنة بالأنغام.


القدر وحده جعل محمود بك رأفت وشقيقه إسماعيل بك يستمعان إليه وهو يتلو القرآن وينشد التواشيح والأدعية، وهما من عشاق الغناء الرصين، قررا على الفور احتضانه، أحضرا له مدرساً ليعلمه العزف على العود، وواصل سيد مكاوى تلاوة القرآن فى منازل الحى لتدبير نفقات الأسرة. 


الطموح ذهب به للالتحاق بالإذاعة عام 1942، اجتاز الاختبارات وتم قبوله واعتماده لتلاوة القرآن الكريم بأجر جعله يطير من الفرح وبعدها تم اعتماده مؤدياً للتواشيح والأدعية الدينية، وواتته الفرصة عندما طلب منه محمد حسن الشجاعى مستشار الموسيقى بالإذاعة الاتجاه إلى التلحين، فوضع لحن «باركيلى يا بت يا شلبية.. خدونى خلاص ع الجهادية»، واتجه بعدها إلى التلحين الدينى لكبار المشايخ ومنهم: محمد الفيومى ونصر الدين طوبار وسيد النقشبندى، وانتقل بعدها لمرحلة تلحين الصور الغنائية مثل: «يا أبو زعيزع قوم صلى - عمك شنطح جالك ينطح - وزة بركات كلها بركة - سهرة فى الحسين - دكان البقال - الأميرة والحريرى»، وكل هذه الصور الغنائية تكشف لنا روح المرح والفكاهة التى كان يتمتع بها، ولحن للمسرح: «الليلة الكبيرة - الصدفة - دائرة الطباشير القوقازية - الإنسان الطيب - مدرسة المشاغبين - هالو شلبى - العيال كبرت - الحرافيش - الفيل النونو الغلبان». 


لم يجرؤ ملحن مهما كانت قامته أن يتأخر على بروفة لحن يجريه مع سيدة الغناء أم كلثوم، ولكن سيد مكاوى فعلها عندما استيقظ متأخرا عن موعد بروفة لحن «يا مسهرنى»، لكن خفة ظله أنقذته من غضب «الست»، فما أن وصل به السائق إلى استديو 46 بالإذاعة وقبل أن تفتح أم كلثوم فمها بكلمة بادرها قائلا: «سامحينى يا ست على التأخير.. أصلى أنا اللى كنت سايق السيارة والطريق كان زحمة جدا»، وهنا انفجرت أم كلثوم من الضحك.


ما أكثر نوادره، روى لى حكاية مؤلف أغانٍ مغمورٍ كان يطارد كل الملحنين بما يكتبه من كلمات يعتقد أنها تُصلح للتلحين، وفوجئ به يعطيه كراسة ليختار منها ما يروق له من كلمات، وضع سيد الكراسة فى درج مكتبه عندما قرأ له مدير المكتب أول الكلمات الركيكة، وظل المؤلف المغمور يطارده فى كل مكان، وفى آخر مرة استوقفه على باب منزله طالباً منه معرفة مصير كراسة الأغانى التى أعطاها له، فتعلل سيد مكاوى بأن الكراسة ضاعت منه، فأخرج المؤلف اللحوح من حقيبته كراسة أخرى وهو يقول: «ملحوقة يا أستاذ.. دى نسخة تانية»، قرب الشيخ سيد الكراسة من نظارته وأخذ يقلب صفحاتها، ثم أعادها لمن يطارده فى كل مكان وهو يقول: «قريتها كلها.. ولحسن الحظ لم أجد فيها أغنية واحدة تُصلح للتلحين».