فيصل الحبيني يكتب: أوحى الإنسان لنفسه

فيصل الحبيني يكتب: أوحى الإنسان لنفسه
فيصل الحبيني يكتب: أوحى الإنسان لنفسه

تلسعكَ البرودة وأنتَ خارجٌ من باب الفندق. إنها زيارتك الأولى لأوروبا، برفقةِ صديقٍ مثقّف، مُطّلعٍ على هذه البلاد جيدًا، والأجلُّ من كل هذا أنه يبجُّل الفن. يقترح عليك مباشرةً بهزّة رأسٍ متّقدةً وودودة: هاه، متحف؟ وتظنّ بأنها فكرة سديدة.

وإلا ما الذى يجعل هذه البلاد مغايرة؟ مطاعم ومقاهٍ وشوارع وسياح وساحاتٍ مزدحمة. الشيء ذاته. ولكن ستستطيع، إن زرت المتحف، بأن تتباهى بذلك أمام زملاء العمل، وستجد موضوعًا لتناقش به سارة، تلك التى لا تستطيع أن تغض البصر عنها، والتى تعلّق لوحةً فى مكتبها بدت لك غريبة، وأخبرتكَ لاحقًا بأنها لشخصٍ يدعى دالي، غير أنك لا تتذكر هذا الاسم الآن.

وتذهب. تعبر المدخل الضخم وتتنقل فى ردهة الاستقبال الشاحبة بخطواتٍ بطيئة، ثقيلة، وكأنك فى مكان عبادة، وتتساءل لم يبدو الجميع صامتًا، مع أن لا آلهة هنا لتقدّس، واللوحات لا تخاطبنا بالصوت كما تفعل الأفلام فى قاعة السينما. هنا تترك المظلة والحقيبة والمعطف.

اقرأ ايضاً| هشام البستاني يكتب: من قشور الأفكار المُسبقة إلى عمق الأدب: القصّة القصيرة فى الكويت

وكأن عليك أن تواجه الفن فى الداخل عاريًا، متحررًا. تشترى تذكرتين من آنسةٍ شقراء بصحبة صديقك الذى يبجِّل الفن، ثم تسبران المتحف، ذلك الفضاء الأبيض الذى يدعوك لأن تنشغل بكل ما فيه، كل ما يستعرضه، ويُلزمك باستحضار كل ما فى جعبتك من ثقافة وذكاء وحس.

ولكى تفكَّ ألغاز هذه اللوحات، فيكافئك بالمقابل بزهوٍ عميق ووهمٍ مؤّقت بأنك بدأت تفهم العالم. صالاتٌ وصالاتٌ وصالات، غير مسموحٍ لك أن تدُبّ بها متعجلًا، بل - وكما لو تقاعس الزمن –عليك أن تخطو مُثقلًا بذهنٍ متيقّظ وعينين متسعتين. ثم تستمع لعقب الحذاء وهو يضغط على الأرضية الخشبيّة بخجل، ببطء.

محاولةً لكتم الصوت الذى يكشفه، رغبة فى الاختفاء، وكأن لا شيء يستحق أن يصرّح بوجوده بجانب هذا الفنّ الزاخر المعلّق على الجدران. فهذا صرحٌ لا يأذن بوجود ضجيج، ومع ذلك تستطيع أن تستمع، إن أنصت جيدًا، لصوتٍ سميكٍ، داكنٍ، يشبه الصمت، بيد أنه ليس صمتًا، بل صوتًا ثقيلًا يشبه غمرة النّوم.

ولو كان الموت رجلًا، لأعلن بزهو: هذا هو صوتي. ومع ذلك ثمة أصوات لا يمكن أنتكبح نفسها، وجودها ضرورة، ستتدخّل فى المشهد لكى تربك هذا الشيء الشبيه بالصمت؛كحة رجلٍ عجوز يرتدى قبعة سائح مدورة، نداء فتاة صغيرة لوالدتها المتسمرة إزاء لوحةٍ فارغة مخافة أن تكون قد فقدت الأم صوابها، رنّة هاتف، تعليقٌ من زائرٍ مذهولٍ أو تذمّر من زائرٍ اكتشف متأخرًا نخبوية المكان.

تقفُ أمام لوحةٍ مبهمة. تصغى لل واو وال يا سلام وال أخّيه من صاحبك الذى يبجِّل الفن. تلاحظه وهو يرى بعينين حادّتين، فتقلدهما. يصالب ذراعيه، فتصالبهما. تستمع له وهو يخبرك عن معنى تداخل الأحمر والأصفر، ولكنك لا ترى إلا البرتقاليّ. يشرحُ لك أن اللوحة تمثّل يأس القرن العشرين.

ولكنك لا تشاهد إلا يأسك من رؤية ذلك. يقول إنها تمّثل أبناء جيله، ولكن لا يوجد فى اللوحة سوى رجلٍ سمينٍ واحدٍ فحسب. تشعر بغروره وزهوه، وهو يشرح ويَسبكُ ما يسمّيه بالبنيةِ التحتية للوحة، بصوتٍ لا يكاد يستطيع أن يكبح حماسته، ويتلبّس نبرةً رزينة، ملائمة للبوح بالحكمة والحقيقة.

وتفكّر بأن هذا الزهو يكاد يجعل صاحبك يؤمن بأنه يقطن تحت عرش ربّ العالمين بمترين. وتستمر بهزّ رأسك كمن يئِس من الاستماع لمجنونٍ لا طائل منه، أو ربما كنت أنت المجنون فى نهاية الأمر، ثم تسلّم بأن لا فرق بين الاثنين على كل حال. ويعلّق صديقك: شوف شوف شوف.

وكأنه الوحيد الذى يملك عينين هنا. ينعتُ ويصفُ ويوضّحُ، وبدًلا من أن تتمعّن باللوحة، تنظرُ للجدار. والجدار احتجاجٌ معماريّ على شساعة الفضاء، ومرمى تنتهى عنده الأفكار. تطلق سراح ذراعيك من المصالبة، وتدسّ كفيك المتعرّقتين بجيبيك، وتفكّر؛ بعض الجدران أكثر حظًا من غيرها. وتبدأ بالتفطّنِ لغيرةِ سطوح الجدران الأصيلة، الفارغة من تعبيرٍ يدلُّ عليها؛ تشعرُ بغيرة هذه السطوح من اللوحات المتمكيجة، المستحمّة بأضواءٍ بيضاء حادة، مدّعية العمق، محاكية الواقع بتشوّهٍ حكيم يتّفق مع المعايير الجمالية السائدة.

وأو ربما غيرة جدارٍ يحمل لوحةً ما بعد حداثية غير مفهومة، من جدارٍ يعلّق عليه لوحةً لموندريان، حتى وإن كان الآخر هذا غير مفهوم، ولكنه مشهور. ثم ستتقصى أكثر بطبيعة هذه الحواجز الحجريّة، وتدرك أن بعض الجدران انطوائية، تكره الفلاشات من هواتف السياح، وبعضها الآخر مترفّعٌ، يزهو بلوحةٍ شهيرة معلّقةً عليه كما تتغنجُ آنسة بتعليق ماسةً نادرة على عنقها. تُنتشل من سرحانك وتعود لصديقك الذى يبجّل الفن وهو يولول: وَل! وكأنه يتمعّن بإعلانٍ لفيكتوريا سيكرت. وهكذا تقرّر أن تتركه، وتسبقه، فربما يكون لغطه هو مصدر انزعاجك من هذا كله.

وهكذا تتنقل وحيدًا بين الأعمال الفنيّة وأنت تمارس واجب التوقّف إزاء كل لوحة كحضرةٍ مقدسّة، دليلًا على احترامك لها حتى وإن كنت لا تدرى لِمَ تحترمها أصلًا، ولكنه الهدوء المهيمن وتمركزها فى فراغ الجدار من يعطيانها هذه السلطة، هذه الرهبة الساكنة.

وبالتالى تُحدّق، تحاول أن تنتمى للمكان، أن تغرز معنى فى اللوحة، أن تفهم. حاجبان مقتضبان ونظرات متلبّسة تدّعى تقدير الفن وإدراك المغزى. ذراعان متصالبتان مرة أخرى والإحساس فجأة بالترفّع والعلو، تسندُ ثقلك من قدمك اليمنى إلى قدمك اليسرى.

تشعر بالألم فى كعبك الأيسر وتتمنى أن تجلس أو تزاول المشى ولكن من المخجل أن تنسحب بهذه السرعة من أمام اللوحة، عليك أن تنتظر، إذ إن هذا ما قد يفعله من يقدّر الفن ويفهمه، ولذا تتابع النظر، والذى سريعًا ما ينعكس لنظرٍ لداخلك. تفكّر بأشياءٍ أخرى. بمرقةِ دجاجٍ ساخنة. بعلبة كولا باردة.

وبأصابع الآنسة التى قطعت لكما التذاكر، وتفكر لم أكثر ما يثيرك فى النساء هو أصابعهن. تتذكّر أمك فجأة، وشكل عباءة الرأس التى ترتديها، وتتأمل ما معنى كل هذا بجانب هذه العباءة؟ وهل لو علّقتها مشدودةً بسوادها المنطفئ على هذا الجدار الأبيض.

وأطلقت على العمل اسم: السماء، ألن يصفّق لك كل هؤلاء الزوار فى المتحف؟ وربما لو علّقت برقعها الأسود، بحيث تكشف فتحتا العينين عن الجدار الأبيض من خلفهما وأطلقت على العمل اسم: عيون الله التى تحرسك، ألن يكتبوا صفحة عنك على ويكيبيديا؟ ثم تبدأ باستعادة أشياءٍ عدة ندمت على فعلها، أشياء ستفعلها، أشياء تتذكرها ولا تدرى لم تذكرتها. اللوحة ذريعة جيّدة لأن تجعل توقّف المرء فجأةً والتفكير فى حياته أمرًا طبيعيًا ومباحًا.

والمهم أنك تفكّر فى أى شيء عدا اللوحة التى أمامك لأنها بدأت تتحول لمصدر إزعاج، تجسيد صريح لفشلك وجهلك فى الفهم والانتماء. وبالتالى تشعر بالتململ سريعًا من هذا العذاب. جهنّم تشبه أن تتمشى فى هذه الصالات إلى ما لانهاية، إذ إنك لا تتوقف عن المرور إزاء لوحاتٍ مبهمة وغامضة كما الحياة نفسها، لا تفتأ أن تذكرك بكم أنت جاهل، وفاشل، وأقل قدرًا من كل أولئك الذين حولك، ولم تكن حياتك حتى هذه اللحظة سوى مضيعة للوقت.

وتشعر بكعبك متورّمةً مرةً أخرى، وبمعدتك خاوية. تلتفت ناحية المقاعد المخصصة لراحة الزوار فى وسط الحجرة، ولكنها ممتلئة بالسياح. تترامى إليك أصواتٌ ترطن بلغاتٍ مختلفة من زوارٍ من بقاع الأرض، كلمات لا تفهمها، تحاول أن تقبض على اسم لغتها، وإرجاعها إلى هويّة محدّدة. ثم تنظر لهيئتهم فقد تساعدك فى التخمين، ولكن جميعهم متشابهون؛ أشخاص من طبقة متوسطة، تحمل حقائب ظهر، يرتدون جينزًا وحذاءً رياضيًا. يعتذرون إن مشوا فى المساحة بينك وبين اللوحة.

كما يعتذر أحدهم فى المسجد إن مرّ أمام مصلٍ آخر. ترتفع موبايلاتهم تجاه اللوحة، يريدون أن يلتقطوا صورةً لها، رغم وجودها على شبكة الإنترنت بوضوحٍ أفضل، ولكنها الخصوصيّة. قد تكون الصورة الملتقطة سيئة، ولكنها على الأقل صورة تخصّهم. ثم يتمعّنون بالصورة المُلتقطة أكثر من تمعّنهم باللوحة نفسها.

وهل أتقنوا نقل شعورها؟ ماذا يكتبون تعليقًا قبل نشرها؟ ولكن كيف يعرفون شعورها بالضبط أو يكتبون عنها أى شيء إن لم ينظروا للوحة نفسها بعد؟ فالهواتف أضحت تنظر للمشهد قبل أن ننظر نحن له. وسريعًا ما يدركون فداحة فعلتهم، ويركبهم الخجل. يدسّون الموبايل بسرعة فى جيوبهم كمن ارتكب خطيئة، ويُرجعون النظرَ للوحة مرةً أخرى بعينين تائبتين تسألان المغفرة.

مُشوّشٌ، تحوّل بصرك تجاه الناس بدلًا من اللوحات. تدرك أن الفن لا ينتهى عند برواز اللوحة، بل يمتدّ للصدور والرءوس من حوله. يغرز بذرةً أقوى من الفيروس، من الفكرة، من الشعور. تتأمل الأوجه المذعنة، المنصتة، المنضبطة. قطيعُ السياح وطوابير تلاميذ الرحلات المدرسية وكبار السن بمقاعدهم.

أناسٌ من بقاعٍ بعيدة أتوا ليحجّوا هنا ويلتمسوا بركات الفن الذى سيجلّهم ويدفعهم لمواجهة الحياة بيقينٍ أعمق. إنه دينٌ جديد. ذاتيّ. متجدّد. قابل للتأويل. يُنقذ لا يدمر. معابده بيضاء. له رسلٌ لا يكفّر كلٌ منهم الآخر. والأسمى من كل ذلك أنه عالميّ، لم يظهر من بقعةٍ جغرافيةٍ محدّدة، بل انبثق فى العالم أجمع دفعةً واحدة. وإن سأل أحدهم من أوحى لكل هؤلاء الرسل؟ سيقولون: أوحى الإنسان لنفسه.

وتستغفر فى سرّكَ. ثم تُقرّر على غفلة أن تترك كل هؤلاء، وترجع لصديقك، فقد يكون هدأ من صرعته الآن، فتتلفّت وتلمحه بمشقّة وقد تخلّف عنك بمقدار ثلاث صالات. هذا هو مقدار جهلك إذًا. إن سألك أحدهم لاحقًا عن مدى جهلك، قُل: ثلاثُ صالات.

وبالتالى تتراجع عن العودة. تصرّ على المحاولة مرةً أخرى. تقف أمام لوحة قد وقفت إزاءها مسبقًا، علّها تكشف عن نفسها الآن لك. ولكن لا شيء. يتكرّر ألم الكعب بالقدم اليسرى، والشّرود بمرقة الدجاج، أصابع النساء، عباءة أمك، والإحساس بالهزيمة، ثم مواصلة الكرّة للوحة التالية، والصالة التالية، والمتحف التالي، كرغبة أبديّة للانتماء.