«الولد للفراش».. تشريع فقهي أم قاعدة اجتماعية؟

الولد للفراش
الولد للفراش

عمرو فاروق

لم تتوقف حالة السخط والغضب التي انتبات الشارع المصري منذ إصدار محكمة الأسرة، حكمها أخيراً برفض الدعوى المقامة من أحد الأزواج لإنكار نسب أولاده إليه، بعد تورط زوجته في جريمة الزنا على مدار 11 عاماً متصلة، ومعاقبتها وشريكها بالسجن ثلاث سنوات، وعدم اعتمادها في حكمها على تحليلات البصمة الوراثي  DAN، التي أكدت عدم تطابق الحمض النواوي بينه وبين أبنائه الثلاثة، وذلك استناداً للقاعدة الفقهية «الولد للفراش».

الفتاوى

غالبية الفتاوى التي خرجت في إطار إثبات علاقات النسب، وبنى عليها الكثير من الأحكام، بعيدة تماماً عن الشرع والعقل والمنطق، في ظل استنادها على بناء غير سليم شرعاً ولغةً في فهم وتفسير قاعدة «الولد للفراش»، والتي تعني أن الولد للماء الذي تم تناقله عن طريق فراش اللقاء، أو لصاحب «الجِماع الذى حملت منه المرأة»، وفقاً لأقوال عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، ومعاوية ابن ابي سفيان رضوان الله عليهم، وليس لزوج المرأة الزانية، كما قدمتها شروحات واجتهادات المفسرين.

يتعلل المُشرع المصري باعتماده على قاعدة «الولد للفراش»، في إشكاليات «إثبات النسب» من قبيل الحفاظ على الأمن المجتمعي والقومي، وذلك من خلال الحد من مخاوف التفكك الأسري، والتهرب من «المسؤلية الأبوية»، وغلق الباب أمام تزايد ارتفاع قضايا إنكار النسب أمام المحاكم في ظل التطور العلمي، والإعتماد على التحليلات الجينية الوراثية في تحديد ماهية الأنساب وحقيقتها، في ظل وجود أكثر من 12 الف قضية منظورة أمام المحاكم.

توقيف قضية نسب الأبناء على «اللعان»، بين الزوجين، قياس غير صحيح يخرج عن الفهم السليم في تحليل الأزمة والمشكلة، إذ أن «اللعان» لم يُشرع لتحديد ابن الزنا، وإنما شُرع لمن يرمي زوجته بالزنا، ولم يكن معه بينة أو دليل، وذلك حفاظاً على الأعراض، وحمايةً للنساء من الإتهامات الباطلة.

جريمة الزنا

وفي حالة ثبوت جريمة «الزنا»، يكون الولد للماء الجاري من الزنا، إذ أن «الفراش» يقصد به في علوم اللغة، زَوْجَةُ الرَّجُلِ، ويُقَالُ لامْرَأَةِ الرّجُلِ: فِرَاشُهُ وإِزَارُه، و»الولد للفراش»، أي للماء الذي جرى في رحم المرأة، سواء كان الماء من زواج شرعي أو زنا، كما يحق للزوج في هذه الحالة نفى الأبناء عن نسبه، بناء على القرائن اليقينية والعلمية المعاصرة  (DNA)، ولا يجبر على ولايتهم، ولا يلزمه الشرع بذلك، فيقول الإمام أحمد، في رواية إسحاق بن منصور: «إنما يكون الولد للفراش إذا ادعاه الزوج، وهذا لا يدعي فلا يلزمه».

اعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم، في إشكاليات «إثبات النسب» على القرائن اليقينية والظنية، فاستعمل «القيافة»، (قرينة يقينية)، بعد «اللعان» (قرينة ضعيفة)، في قضية هلال ابن أمية، وقدمها على «الفراش» (قرينة ظنية)، في قضية تميمة بنت وهب، ومن ثم الاكتفاء بـقاعدة «الولد للفراش»، وعدم إقرار «البصمة الوراثية»، (قرينة يقينية) في إثبات النسب، كونها بديلاً لـ»علم القيافة»، يمثل صحيح الموروث النبوي.

الخطاب النبوي في الكثير من الأحيان لم يؤسس لتشريع فقهي ثابت، وإنما لقواعد اجتماعية متفقة مع السياق العرفي السائدة في الجزيرة العربية، لا سيما أن مجتمعها شديد الخصوصية في عاداته وتقاليده وأعرافه، فضلاً عن أن القاعدة المتبعة «الولد للفراش»، (حديث آحاد ظني الثبوت)، كانت بمثابة حكم قضائي في نزاع بين طرفين حول نسب الابن وليس التهرب من مسؤوليته، في ظل بيئة حريصة على «امتلاك الولد»، ومن ثم لا بد من وضعها في إطار حيثيات استخلاص الحكم، وليس تعميمها كقاعدة يستدل بها في الإطلاق.

فقد نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد الزنا إلى أبيه من الزنا، في قصة هلال ابن أمية، حينما علم أنهُ للزاني وسماهُ به، وهو ما يوافق قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ  فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ )، فالذي لا يعرف أباه إما لقيط أو ابن زنا، فنسب المولى عز وجل ولد الزنا إلى أبيه، ومن ثم لا تعارض هنا بين الخطاب النبوي مع النص القرآني الذي كان صريحاً وحريصاً على تجنب خلط الأنساب.

فهناك الكثير من الأحاديث التي تنفي نسب الولد إلى غير أبيه، مثلما ورد في الشيخان، من قوله صلى الله علي وسلم، « وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أبيهِ، أَوْ انتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَاليهِ، فَعلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّه وَالملائِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ، لا يقْبَلُ اللَّه مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامةِ صَرْفاً وَلا عَدْلاً «، وقوله صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ نَسَباً لَيْسَ مِنْهُمْ ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَن يُدْخِلْهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ».

التوقف أمام تقليد آراء ومذاهب السابقين، ومحاكاة فتواهم التي تم انتاجها في ضوء فهمهم لبيئاتهم الاجتماعية المحيطة ومرحلتهم الزمنية، دون التفكر والبحث والتدقيق، وتقديم الاجتهادات الجديدة حول الإشكاليات الشرعية المتنازع عليها حالياً، يمثل جريمة في حق الإنسانية والدين ذاته، ما لم يتم تطوير قراءة النص الديني، والخطاب النبوي في إطار  مقتضيات الظروف الراهنة، في ظل تغير أنماط الحياة وسياقاتها وقيمها وهندستها الاجتماعية.

إصلاح الخطاب الديني يقتدى إعادة النظر في القوانين التي تخالف متغيرات العصر الحديث، مع ضرورة تجاهل دعوات الداعين بأن التشريع الفقهي ثابت ولا يتغير، ولايستند في ذاته على مقاييس التطور العلمي والتكنولوجي، إذ أن مقاصد الشريعة قائمة في الأساس على تحقيق مصالح الناس، وليس الإضرار بها.

تطويع الأحكام الفقهية القائمة على الاجتهاد في قراءة النصوص، منحت الأمة العربية والإسلامية مساحة كبيرة من مواكبة الأوضاع الراهنة وليس مجافتها، فقد أُلغى «حد السرقة» في وقت المجاعة، وأُلغى «سهم المؤلفة قلوبهم» عقب الفتوحات الإسلامية، وتم إلغاء الرق والعبودية، والجزية، بما يتفق مع متغيرات العصور المتعاقبة، والتي وجدت مبرراً لإنهاء تلك المظاهر.

وفي نهاية القول لماذا يُصر أهل الاختصام والتحاكم في قضية «إثبات النسب» إلى الاكتفاء بقاعدة «الولد للفراش»؟، وتجاهل الاستناد إلى قوله تعالي» فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، أي أهل المعرفة والتخصص والحقيقة، وكذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم « أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»، فالتقدم الطبي والعلمي والتكنولوجي يتوافق ويتكامل مع مقاصد الشريعة في خدمة المجتمع والحفاظ على قيمه وحقوقه

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 19/4/2023

أقرأ أيضأ : لرفضه الذهاب لكوافير شهير.. دعوى خلع أمام محكمة الأسرة