عمر هشام يكتب: يوم أن ضربني صاحب السينما

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

استيقظت لأجد نفسى داخل القاعة الوحيدة لسينما روكسى. عيناى بالكاد مفتوحتان وأمامى رجل عجوز يرتدى قبعة غربية قديمة من نفس طراز أفلام المافيا الأمريكية. هذا هو «مسيو عادل» مجدداً! يوجه لكتفى الأيمن عصاه الطويلة الغليظة من أجل يقظة كاملة. يقف أمامى الرجل الذى يدخل عقده العاشر ويمتلك دار السينما الأقدم فى حى مصر الجديدة. ينزعج لأننى أنام داخل العرض ولا احترم مهابة الفن السابع والسادة والسيدات المندمجين فى الأداء أمامى.

«أنت تانى؟ يا أخى روح نام فى بيتكم! أنا لازم أبلغ أبوك على الحالة اللى أنت وصلت لها دى»، وأقف فى حالة خجل شديد لأجد «محمود» عامل السينما الوحيد واقفاً يكتم ضحكاته. أحاول تدارك الموقف والاعتذار قبل أن ينفجر غضب المسيو أكثر من ذلك.

وطالما نبهنى محمود بأن أكثر ما يزعج الرجل العجوز هو النوم داخل قاعة العرض، وأنه منذ أن افتتح الدار فى منتصف القرن الماضى يدخل كل العروض ليفتش عن النائمين ويعيد لهم أموالهم ثم يطردهم بلا رجعة.

والرجل الصغير الذى ودّع المراهقة بالأمس عرف كل ذلك من لطفى «العامل السابق الذى لازم عادل لأكثر من ثلاثين عاماً قبل أن يتقاعد» كنت قد عدت من لبنان للتو بعد قضاء عامين ونصف. أحاول تنظيم أفكارى وإعادة ترتيب حياتى منذ عودتى.

اقرأ أيضاً| لؤى حمزة عبّاس يكتب : إسكافى الأندلس

ولأن كل حياتى كانت فى حى مصر الجديدة وشوارعها وسينماتها، قررت العودة إلى عادتى القديمة بدخولى السينما وحيداً فى منتصف النهار، وللأسف تحتوى هذه العادة على عادة أخرى بداخلها لم أستطع الإقلاع عنها؛ النوم داخل قاعة العرض!

السبب الوحيد وراء صبر مسيو عادل وعدم تنفيذ قرار طردى رغم نومى المتكرر داخل قاعة العرض هو معرفته القديمة بأبى منذ ثمانينيات القرن الماضى. افتتح أبى فى منتصف الثمانينيات مكتباً للدعاية والإعلان فى شارع محمد على. مع استخدام تقنيات الطباعة الحديثة التى يجلبها من الخارج الأصدقاء المغتربون.

واشتهر المكتب واًصبح يستقطب كبار الزبائن الراغبين فى تحسين مبيعاتهم فى المجالات المختلفة. فى هذه الأثناء، كان عادل يواجه أزمة كبرى وعلى وشك الإفلاس. ولكن قبل أن نعرف تفاصيل الأزمة قد يكون من الأفضل إلقاء نظرة على سيرة حياة السينما وصاحبها.

وعندما عاد عادل الشاب من أسفاره المتكررة إلى القاهرة فى نهاية الأربعينيات، قرر أن يستمع إلى قلبه ويفتتح دار سينما طالما حلم بها. الرجل كان مغرماً بالسينما والطبخ. ولكنه أدرك مبكراً أنه لا يمتلك أية مهارات تؤهله للعمل بالفن والأمر الوحيد الذى يجعله يلتصق بالسينما هو دخول عالم الإنتاج السينمائى أو امتلاك دار عرض.

فهم عادل أن محدودية الثروة التى ورثها عن أبيه لن تمكنه من أن يكون منتجاً سينمائياً يستقطب كبار نجوم هذا الفن، لكنها ستمكنه بسهولة من امتلاك دار سينما كبيرة فى ميدان هام وربما مطعماً لتجربة ابتكاراته المطبخية.

واشترى عادل الأرض بثمن زهيد من الإيطالى بيترو الذى كان يصفى كل أعماله فى القاهرة للالتحاق بإخوته فى نيويورك (بيترو هذا سيصبح صديقاً مقرباً لمجدى شقيق عادل الصغير، عندما يقرر الهجرة إلى الولايات المتحدة بعد عدة سنوات وسيتزوج «جوفانا» أخت بيترو الصغيرة . استمرت أعمال البناء حوالى سنة كاملة بسبب دقة عادل الشديدة فى اختيار كل التفاصيل المتعلقة بقاعة العرض، من السجاد ولون جلد المقاعد وحتى العطر الفرنسى الذى أصر على رشّه فى أول كل يوم داخل القاعة.

وأصبحت دار سينما «روكسى» جاهزة لدخول الخدمة وعلى مدار خمسة وثلاثين عاماً تربع المسيو عادل على السوق كأفضل دار عرض فى الشمال الشرقى للقاهرة على الرغم من وجود منافسين أكفاء بالطبع، حتى ظهر المنافس الجديد كلياً وهبط على أرض «مصر الجديدة».

كان ظهور دار سينما «الحمراء» عند تروماى مصر الجديدة وعلى بعد خطوات من عادل حدثاً كئيباً. الرجل القادم من العدم بالنسبة لعادل والذى قام بتجهيز دار سينما فى أقل من شهر بشكل كامل بدأ يظهر فى كوابيس عادل التى لم تتحملها زوجته نادية الرقيقة.

مبيعات خيالية بسبب حرق الأسعار، السماح بدخول الأطعمة أثناء العرض وغير ذلك من الحيل التسويقية سمحت للمنافس الجديد بمهاجمة تربع عادل على القمة.

نصحت نادية عادل باستخدام الصيحات الجديدة كوكالات الدعاية لإنقاذ الموقف. بعد رفض استمر لأسابيع اضطر عادل للرضوخ لرغبة زوجته مع تدهور شبه كامل فى المبيعات. ذهب عادل بصحبة زوجته إلى مكتب أبى فى شارع محمد على.

سماسرة الإعلانات قدموا لأبى تقريراً وافياً عن أزمة السينما وأملاك عادل فى مصر الجديدة، حتى مطعمه الصغير الذى كان يطبخ فيه بنفسه لعدد محدود من الزبائن وضعه أبى فى خطته التسويقية المرتقبة.

وصل الزوجان إلى مكتب أبى، وبعد شرح وافٍ لم يكن أبى فى حاجة إليه من الرجل المتوتر رد بجملة واثقة: «طيب والمطعم يا مسيو عادل؟ مش عايز نعمل له حملة هو كمان؟».

اضطر عادل لشرح قصة المطعم إلى أبى، وكيف أن هذا المطعم الصغير كان السبب وراء غرام عادل بنادية وزواجه منها. بعد افتتاح السينما فكر عادل فى شراء مكان صغير يصلح لأن يكون مطعماً يجرب فيه وصفاته الخاصة، ويسترخى من عمل السينما ويأكل وجبة خفيفة. اشترى عادل مكانا صغيرأ بجوار دار الألعاب ذائعة الصيت «ملاهى أدهم» وقرر أن يعتمد على ساندويتش وحيد فى البداية هو خليط من تجاربه وأسفاره وسيكون اسماً للمطعم الوليد أيضاً.

وفى بداية شبابه كان عادل دائم التردد على بيروت وأثينا. أحب المدينتين وأحب الأكل فيهما وبالأخص الشاورما فى بيروت والسوفلاكى فى أثينا. بعد العودة للقاهرة حاول عادل أن يصنع شيئاً يجمع الطعمين معاً يستحضر به ذكريات المدينتين داخل فمه. أجرى تجارب على أمه وأخيه حازت قبولاً معقولاً وأطلق على اختراعه الجديد اسم «سوفلاورمة».

اسم غريب بالكاد يحاول التوفيق بين طعمين، لا مشكلة. أصبح هذا الاسم الغريب هو اسم المطعم الذى بدأ يجذب الناس أثناء قضاء عطلة نهاية الأسبوع فى ملاهى أدهم. فى يوم أحد شتوى مشمس، توقفت سيارة فارهة نزلت منها سيدة صغيرة جميلة ترتدى فستاناً أسود وقبعة وتتجه نحو مطعم عادل. بعد انتهاء قداس الأحد فى كنيسة البازليك والذى تواظب عليه السيدة الصغيرة منذ وفاة أمها، كانت تتجول بسيارتها لاستكشاف المحال الجديدة واستوقفها الاسم الغريب المكتوب أعلى المطعم. بعد أن شرح لها عادل فكرة الساندويتش الوحيد الذى يقدمه مع بطاطس مقلية وزجاجة «سباتس» لم تقتنع نادية بكلامه وظنته مهرجاً لا يعرف عن الطبخ شيئاً.

عادل كان يراقب السيدة منذ نزولها من السيارة وحتى دخولها المطعم وجلوسها بهدوء على الكرسى الخالى أمام الشمس. حاول عادل ألا تفضحه نظراته لنادية ولكن بنظرة خاطفة حاز على المعلومة التى يريدها، يداها خاليتان من أى خاتم للزواج.

«ها، إيه رأيك؟».

ردت نادية على سؤال عادل لها بغرور وأن الساندويتش «مش بطال» لكنه لا يمت لأى من المنتجين المذكورين بصلة. تردد نادية على المطعم كل يوم أحد بعد حضور القداس فى الكنيسة جعل عادل يفهم أن السيدة الصغيرة تمتلك من الغرور ما يسمح لها بتوزيعه على سكان مصر الجديدة كلهم. كانت تفصح له فى كل أسبوع عن معلومة جديدة وكأنه يصنع فسيفساء عن السيدة التى يريد أن يتزوجها. بعد سنة كاملة من الأكل والمشى فى شوارع مصر الجديدة والجلوس فى «جروبى» طلب عادل من نادية الزواج.

وعلى بعد دقائق من المطعم، ارتبط عادل بنادية برباط أبدى مقدس داخل كنيسة البازليك وسط حضور ما تبقى من العائلتين وبعض الأصدقاء. تعهد عادل فى تلك الليلة أمام نفسه على ألا يغلق المطعم الذى زوّجه من نادية مهما كانت الظروف حتى لو لم يكسب جنيهاً واحداً.

حققت الحملة التى خطط لها أبى نجاحاً كبيراً، صحيح أن عادل لم يعد المهيمن الوحيد على السوق لأن الزمن تغير. لكن استعاد توازنه بفضل الشاب الذكى العارف بمتطلبات السوق الجديدة. كتقدير إضافى لعمل أبى، أهداه عادل تذكرتين دائمتين له ولخطيبته لحضور العروض المسائية فى الصيف. أمى طارت من السعادة بذلك الخبر، ولم تدخل سوى سينما روكسى بعد هذا اليوم لمشاهدة الأفلام.

عدت من بيروت كما سافرت، وحيداً حزيناً لا أعرف من أين أبدأ. فى بداية حياتى فى بيروت تغلب حبى ل«ج» على معظم المتاعب المتعلقة بالحياة فى بلد غريب. عندما رأيتها لأول مرة أمام مقهى شهير فى مدخل «الأشرفية» قررت أن اجتهد وأصنع كلمات منمقة للحديث إليها. ظلت تسخر منى بسبب تلعثمى يومها، ولأننى كنت مفضوحاً تماماً!

وبعدما اكتشفت «ج» أننى أنام داخل السينما، ظنت أن مشاهدة الأفلام فى البيت سيكون حلاً جيداً. كانت تطلب منى دائماً ألا أنام قبل نهاية الفيلم، وأنها تأمل فى مشاهدة فيلم واحد على الأقل بشكل كامل معى. يشرح لى أخى عبر الهاتف أن الصورة تنقسم إلى أربعة مربعات أو كما قال نصاً «frames». من بعد هذه المعلومة، كنت أتخيل أن حبى ل«ج» مثل الصورة تماماً بداخله مربعات مختلفة تشكل صورة واحدة، الواحد من هذه المربعات هادئ، ناعم، والآخر وحشى تسكن فيه الغيرة والامتلاك الكامل المتبادل.

وأختار المربع الأكثر هدوءاً فى الأربعة، وأنام داخل إحداها. لم تفهم «ج» أبداً أن حبى للنوم جاء بعد خصام طويل لم أستطع فيه النوم لسنوات طويلة. النوم داخل السينما كان يشكل لى الصورة الأكثر وضوحاً فى حياتى على الرغم من سخرية أبى منى عندما كنت أشاهد الأفلام مرة أخرى فى البيت بتركيز شديد معلقاً: «طبعاً ما أنت كنت نايم فى السينما ومستخبى فينا عشان عادل ميشوفكش».

تركتنى «ج». ذهبت إلى كندا بغير رجعة لاستكمال دراستها وحياتها وعدت أنا إلى القاهرة. ربما تركتنى «ج» لأننى لم أستطع الوفاء حتى بأبسط وعودى لها؛ أن أشاهد فيلماً كاملاً بلا نوم.

أذهب مجدداً إلى سينما روكسى. أختار مقعداً قديماً يظهر منه الإسفنج الداخلى –لخوفى من كل الأشياء الجديدة- وأغرق فى نومٍ عميق. أرى نفسى داخل الحلم وأنا أشاهد فيلم «سجل اختفاء» لإيليا سليمان. استيقظت على صوت عادل وأنا أعتقد أنه صوت سميرة سعيد تغنى «أيوه، بشتاقلك ساعات!».