أ. د. محمد ابوالفضل بدران يكتب : حكايا الحب فى التراث

أ.د. محمد أبوالفضل بدران يكتب: حكايا الحب فى التراث
أ.د. محمد أبوالفضل بدران يكتب: حكايا الحب فى التراث

الحب وجود وطريق للوصول إلى أخلاقيات التسامح التى ترى أن وجود الغيْر دليلٌ على وجود الذات وأن انتفاء وجود الغيْر فناء الذات

«لن تبلغَ من الدِّين شيئا حتى تُوقِّر جميعَ الخلائق» ابن عربي يا ساقيَ القَوْم من شَذاهُ/ الكلُّ لمَّا سَقيْتَ تاهوا تاهوا وبالسُّكرِ فيك غابوا/   وصرَّحوا بالهوى وفاهُوا يعد التراث الصوفى رافدا رئيسا فى تعميق الحب والتسامح وتقبّل الذات والآخر الغيْري؛ كالآخر الوجودى والآخر العقائدى والآخر الكائنى حتى ترى الكون كُلا منسجما فى ذَرَّاته وحركاته وسَكَناته، متسامحا معه ومتقبِّلا له، يراه من بْعدٍ فتتجلّى ذاتُه فيه ولا يرى كينونتَه دونه، يسعى فى طريق طويل للوصول إلى الحب، فالحب وجود وطريق للوصول إلى أخلاقيات التسامح التى ترى أن وجود الغيْر دليلٌ على وجود الذات وأن انتفاء وجود الغيْر فناء الذات، فمِن الاختلاف تتكون الوحدة، وديمومة الثبات تنشأ من تغيّر الذوات، هنا يتجلّى التسامح الدينى ليقضى على التعصّب الدينى وكراهية الآخر والتشدد والإرهاب ليصل البشر إلى مقام الحب الذى عبر عنه ابن عربى والحلاج والسهرودى والنّفرى وجلال الدين الرومى وابن الفارض وابن عطاء الله السكندرى وغيرهم.

إنهم يرددون ما قاله ابن عربى: «تأمنُ من كل شيء إذا أَمِن منك كلُّ شى» وهنا ينبغى عليك أن تمر بمرحلة التخلّى فالتحلى فالتجلي، فالصوفى الحق سيمر فى هذه المراحل الثلاث قد يصل أولاها دون أن يجتازها أو يصل للمرحلة الثانية متوقفا حيالها لكن قليلا منهم من يصل للمرحلة الأخيرة، يسعى إلى ثلاثة مستويات، هى التخلى والتحلى والتجلي.

اقرأ أيضاً| منى نور تكتب: روضة المعارف بالقدس جديد د.سيد علي

أولها التخلى عن الذنوب والأوزار هجرا إلى غير عودة، والثانية التحلى بالفضائل والأخلاق المحمدية، وثالثها التجلي، وهو مقام الإحسان، أى أن تعبد الله كأنك تراه، ولذا تتغير أحواله ساعيا للقاء المحبوب الأعظم، وكم أميل إلى تعريف ابن خلدون الصوفية بأن «أصلها الانقطاع إلى الله عز وجل، والإعراض عن زخرف الدنيا، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة...»

سأورد بعض الحكايا التراثية والمعاصرة عن الحب فى مقابل الكراهية والبغضاء، وها هى قطوف من تراث المحبة:

ابن دينار والحرامى

ويروى الذهبى فى ترجمة مالك بن دينار فى سير أعلام النبلاء : «وَقِيْلَ: دَخَلَ عَلَيْهِ لِصٌّ، فَمَا وَجَدَ مَا يَأْخُذُ، فَنَادَاهُ مَالِكٌ: لَمْ تَجِدْ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا، فَتَرغَبُ فِى شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ؟ 

قَالَ: نَعَمْ. 

قَالَ: تَوَضَّأْ، وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ. 

فَفَعَلَ، ثُمَّ جَلَسَ، وَخَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، فَسُئِلَ: مَنْ ذَا؟ 

قَالَ: جَاءَ لِيَسرِقَ، فَسَرَقْنَاهُ» 

عبدالقادر الجيلانى والمخمور

بينما مولانا الإمام عبد القادر الجيلاني، يسير مع بعض صحبه وتلامذته، فإذا بسكيّر يجلس منزويًا وبيده خمره، فصاح به «يا عبد القادر..» فاستدار الشيخ ينظر إليه، فاسترسل «أربك قادر، أم غير قادر؟» فأجابه الشيخ، «بلى قادر»، وأكمل، فصاح به الرجل ثانية وسأله ذات السؤال، فأجاب الشيخ ذات الإجابة، ومضى فى طريقه، فصاح به الرجل ثالثةً «يا عبد القادر.. أربُّك قادر أم غير قادر؟»، فأجابه الشيخ «بلى قادر يا أخي»، ثم أجهش بالبكاء ولهج بالشكر، فاندهش من حوله وسألوه ما الأمر يا إمام، فقال لهم.

ولما رأيته دار بخلدى لومٌ للرجل وقلت فى نفسى لو تاب! فنادانى أربك قادر على أن يتوب عليّ ويحجب نفسى عن المعصية فقلت بلى، ثم دار بخاطرى لو أنه سعى فى سبيل ذلك، فسألنى أربك قادر على أن يوفقنى للسعى فقلت بلى، ثم داخلنى شيءٌ كأنه شعور بتميز حالنا عن حاله، فكانت صيحته الأخيرة أربُك قادر على أن يجعلك فى موضعى وعلى حالى ويجعلنى فى حالك وموضعك، فقلت بلى وشعرت بتجاوز الأدب مع ربى حين أرجعتُ صلاحى لنفسى لا لتوفيق الله وإنعامه فبكيت.

ابن عربى :الحب ديني

أَلا يا حَماماتِ الأَراكَةِ وَالبانِ

تَرَفَّقنَ لا تُضعِفنَ بِالشَجوِ أَشجاني

تَرَفَّقنَ لا تُظهِرنَ بِالنوحِ وَالبُكا

خَفِيَّ صَباباتى وَمَكنونَ أَحزاني

أُطارِحُها عِندَ الأَصيلِ وَبِالضُحى

بِحَنَّةِ مُشتاقٍ وَأَنَّةِ هَيمانِ

تَناوَحَتِ الأَرواحُ فى غَيضَةِ الغَضا

فَمالَت بِأَفنانٍ عَلَيَّ فَأَفناني

وَجاءَت مِنَ الشَوقِ المُبَرِّحِ وَالجَوى

وَمِن طُرَفِ البَلوى إِلَيَّ بِأَفنانِ

فَمَن لى بِجَمعٍ وَالمُحَصَّبِ مِن مِنىً

وَمَن لى بِذاتِ الأُثلِ مَن لى بِنَعمانِ

تَطوفُ بِقَلبى ساعَةً بَعدَ ساعَةٍ

لِوَجدٍ وَتَبريحٍ وَتَلثُمُ أَركاني

كَما طافَ خَيرُ الرُسلِ بِالكَعبَةِ الَّتي

يَقولُ دَليلُ العَقلِ فها بِنُقصانِ

وَقَبَّلَ أَحجاراً بِها وَهُوَ ناطِقٌ

وَأَينَ مَقامُ البَيتِ مِن قَدرِ إِنسانِ

فَكَم عَهِدَت أَن لا تَحولَ وَأَقسَمَت

وَلَيسَ لِمَخضوبٍ وَفاءٌ بِأَيمانِ

وَمَن عَجَبِ الأَشياءِ ظَبيٌ مُبَرقَعٌ

يُشيرُ بِعُنّابٍ وَيَومى بِأَجفانِ

وَمَرعاهُ ما بَينَ التَرائِبِ وَالحَشا

وَيا عَجَباً مِن رَوضَةٍ وَسطَ نيرانِ

لَقَد صارَ قَلبى قابِلاً كُلَّ صورَةٍ

فَمَرعىً لِغِزلانٍ وَدَيرٌ لِرُهبانِ

وَبَيتٌ لِأَوثانٍ وَكَعبَةُ طائِفٍ

وَأَلواحُ تَوراةٍ وَمُصحَفُ قُرآنِ

أَدينُ بِدَينِ الحُبِّ أَنّى تَوَجَّهَت

رَكائِبُهُ فَالحُبُّ دَينى وَإيماني

لَنا أُسوَةٌ فى بِشرِ هِندٍ وَأُختِها

وَقَيسٍ وَلَيلى ثُمَّ مَيٍّ وَغَيلانِ»

ابن عربى : ليت شعري

قال محيى الدين ابن عربى فى كتابه ترجمان الأشواق:

كنتُ أطوف ذات ليلةٍ بالبيت فطابَ وقتى وهزّنى حالٌ كنتُ أعرفهُ، وطفتُ على الرمل، فحضرتنى أبيات فأنشدتها أُسمِعُ بها نفسى ومَن يلينى لو كانَ هناك أحد :

ليت شعرى هل دروا … أيّ قلبٍ ملكوا

وفؤادى لو درى … أيّ شعبٍ سلكوا

أتراهم سلموا … أم تراهم هلكوا

حارَ أربابُ الهوى … فى الهوى وارتبكوا

يونس إمره : صعدتُ

من قصائد يونس إمره الشهيرة:

«صعدتُ فوق شجرة برقوق،

لأجنى العنب

فسألنى البستاني:

أوَ تأكل ثمار الجوز؟»

وقد شرحت هذه القصيدة شروحا كثيرة ومن هذه الشروح التأويلية شرح الشاعر نيازى مصري«ت1697» يقول: «أراد الشاعر بهذه القصيدة أن يبين لنا أن كل شجرة من أشجار الأعمال لها ثمار خاصة... يشير الشيخ المبجل بذكر البرقوق والعنب والجوز إلى الشريعة والطريقة والحقيقة، فالذى يؤكل من البرقوق هو جزؤه الخارجي.

وليس نواته، وما يشبه البرقوق هو الجانب الظاهرى للأعمال... وبالنسبة للعنب فإنه يؤكل ويصنع منه أشياء كثيرة، مثل السجق الحلو والمربى والمخللات والخل ومثلها أشياء أخرى للأكل، غير أنه بسبب وجود بعض البذور الصغيرة من الرياء والفخر والكبر والاعتزاز بالنفس فإنها تسمى أعمالا باطنية غير أنها ليست هى «الحقيقة».

وأما الجوز فهو رمز تام للحقيقة، ففى قلب الجوز لا يوجد شيء ينبغى أن يرميه، فكل ما فى داخلها يؤكل، وهى دواء لكثير من الأمراض، والبستانى هو الشيخ الصوفى الكامل الذى يستطيع المرء بمساعدته فقط أن يفرق بين الثمار وأن يصل إلى الحقيقة».

وردة الشبلى للحلاج

يصور الشاعر بير سلطان مشهد مقتل الحلاج رميا بالأحجار من العامة وكيف ألقى عليه صديقه الشبلى وردة فتنهد الحلاج صارخا:

«حجارة هذا البلد لا تؤلمني

ووردة الصديق ألقتنى جريحا»

شطحات الصوفية

وقد يشطح الصوفى فى ملفوظاته وأفعاله وما يؤثر عنه من كرامات، ويُرجِعون هذا الشطح إلى حالة السُّكر التى تنتابهم وهى نابعة عن السُّقيا التى عبر عنها عز الدين المقدسى فى قوله:

فإنْ كنتُ فى سُكرى شطحتُ فإنني  حكمتُ بتمزيقِ الفؤادِ المُفَتّتِ

ومِن عجبٍ أنّ الذين أُحبُّهم وقد أَعْلَقُوا أيدى الهوى بأَعِنّةِ

سقَوْنى وقالوا :لاتُغَنّ ! ولو سَقَوا  جبالَ حُنَيْنٍ ما سَقَوْنى لغَنّتِ

هذه السّقيا هى المعادل الموضوعى للإلهام أوهى الإلهام ذاته الذى يجعل لغة المتصوفة لغة شاعرية ؛ لغة تمنح الأشياء مسمّياتها من جديد ؛ فهى غياب حضور اللفظ وحضور غياب المعنى.

الحلاج: نفسُ المحب على الآلام صابرة

كَم دَمعَةٍ فيكَ لى ما كُنتُ أُجريها

وَلَيلَةٍ لَستُ أَفنى فيكَ أَفنيها

لَم أُسلِمِ النَفسَ لِلأَسقامِ تُتلِفُها

إِلّا لِعِلمى بِأَنَّ الوَصلَ يُحييها

وَنَظرةٌ مِنكَ يا سُؤلى وَيا أَمَلي

أَشهى إِلَيَّ مِنَ الدُنيا وَما فيها

نَفسُ المُحِبِّ عَلى الآلامِ صابِرَةٌ

لَعَلَّ مُسقِمَها يَوماً يُداويها

اللَهُ يَعلمُ ما فى النَفسِ جارِحَةٌ

إِلّا وَذِكرُكَ فيها قَبلَ ما فيها

وَلا تَنَفَّستُ إِلّا كُنتَ فى نَفَسي

تَجرى بِكَ الروحُ مِنّى فى مَجاريها

زبيدة بشير: جمعتُ سطور الحب

قالت الشاعرة التونسية /الجزائرية زبيدة بشير«1938 - 2011»

جمعتُ سطور الحب من ألف عاشقٍ... وجئت أناجيكم بلهفة وامقِ

فمن أى سطر سوف أبدأ رحلتي... وأنتم معى أمنٌ لحيرة خافقي؟

سلكتُ طريقا ما استقامت لسالكٍ... وطوّعت بالإيمان كل البوائق

وتقول زبيدة: الأمر أمرك

تقول فى قصيدة على ضريح الهوى:

الأمر أمرك إن رأيت سعادتي

والرأى رأيك إن رضيت شقائي

أهواك دوما فى السعادة والشقا

لكن حبى لن يذل إبائي

قسما بحبك ما رضيت بذلة

لى فى التكتم لذة الإفشاء

الثورى وسر الحب

وسئل أبو الحسن الثورى عنه فقال

أوحى إليه سرّاً بسرّ من سرّ فى سرّ وفى ذلك يقول القائل :

بين المحبين سرٌّ ليس يفشيهِ / قولٌ ولا قلمٌ للخلق يحكيهِ

 سرُّ يمازجه أنسٌ يقابله/ نورٌ تحيّر فى بحرٍ من التِّيهِ

الجُنيد وعائلة الولي

أبوالقاسم الجنيد يلتقى بشاب فى الصحراء يبادره: «مرحباً بك يا أبالقاسم» فيتعجب من معرفته لاسمه، ويطلب الشاب منه أن يغسله ويكفنه لأنه ميت عمّا قريب ثم أوصاه أن يذهب إلى درب الزعفران ببغداد ليقرئ أمه وابنه السلام، ثم يموت الشاب ويقوم الجنيد بما أوصاه به.

وينادى للصلاة عليه فى الصحراء «وإذا بجماعة قد أقبلوا من كل فج عميق كأنهم البدور،فصلينا عليه، ودفناه. «ثم يذهب الجنيد إلى درب الزعفران ويرى أطفالاً يلعبون» فنهض من بينهم غلام صغير السن، حسن الوجه، فصيح اللسان فقال: يا أباالقاسم لعلك جئت تخبرنى بموت والدي؟ فتعجبت من كلام الغلام على صغر سنه ومكاشفته ثم سلم عليّ.

وأخذ بيدى وأتى إلى باب دار وطرق الباب فخرجت لى عجوز عليها سيم الخير والصلاح فسلمت على وهى باكية العين حزينة القلب ؛ ثم قالت : يا جنيد أين مات ولدي؟» ثم «شهقت شهقة فارقت روحها الدنيا» ثم «نظر الغلام إلى السماء وقال : إلهى وسيدى ومولاى لا مع أبى أخذتنى ولا مع جدتى خلفتنى ؛ اللهم بهما ألحقنى ؛ ثم شهق شهقة فمات رحمة الله تعالى عليهم أجمعين، فأخذت فى غسلهما وتجهيزهما ودفنهما».

 جلال الدين الرومى والخمر

 جلال الدين الرومى فى مثنوياته يتحدث عن المريد الذى اعترض على شيخه لأنه أبصره يشرب الخمر فى حانة لكن الشيخ يأمره أن يتذوق الكأس، «فاقترب منها فرآها عسلاً صافياً» ولم يكتف الشيخ بذلك بل أمره: «اذهب والتمس لى خمراً ... فدخل ذلك المريد إلى غرفة الدنان، وأخذ من أجل الشيخ يتذوق من كل دنّ، فلم ير فى كل غرف الدنان خمراً، فكل دنان النبيذ كانت قد غدت ممتلئةً بالعسل».

إبراهيم بن أدهم ومناداة المحبوب

 «سئل عن بدء أمره فى التصوف كيف كان، فقال : كان أبى من ملوك خراسان، وكنت شاباً، فركبت إلى الصيد، فخرجت يوماً على دابة لى ومعى كلب، فأَثَرت أرنباً أو ثعلباً، فبينما أنا أطلبه إذ هتف بى هاتف لا أراه : يا إبراهيم، ألهذا خُلقت ؟ أم بهذا أُمرت؟ ففزعت ووقفت، ثم عدت فركضت الثانية، ففعل بى مثل ذلك ثلاث مرات، ثم هتف بى هاتف من قربوس السرج «أى مقدمه» : والله ما لهذا خُلقتَ، ولا بهذا أُمرت!.

 قال : فنزلت فصادفت راعيا يرعى الغنم لأبي، فأخذت جبته الصوف فلبستها،ودفعت إليه الفرس وما كان معى، وتوجهت إلى مكة.

السماع يذيب قلب العاشق

قصة موت أبى الحسين النووى التى نقلها الخطيب البغدادى فى «تاريخ بغداد» فحينما سمع النووى هذا البيت:

«لا زلتُ أنزل من ودادك منزلا  تتحير الألباب عند نزوله»

 فتواجد النووى وهام فى الصحراء ...ومات بسببه

 ويروى ابن العماد أن ذا النون المصرى سمع منشداً ينشد:

 «صغيرُ هواك عذبنى  فكيف به إذا احتنكا

 وأنتَ جمعت من قلبي     هوى قد كان مشتركا

 فتواجد ذو النون وسقط وانشج رأسه»

ويرى ابن تيمية أنه «لو سمع السامع بيتا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود، وأزعج قاطنه المحبوب، أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما ينهى عنه ؛ وكان المحمود الحسن حركة قلبه التى يحبها الله ورسوله إلى محبته التى تتضمن فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله...».

وقد يكون الشعر قد قيل فى مناسبة بعيدة عن التصوف لكن الصوفى يؤول الشعر إلى حاله فيرى فيه ما لا يُرى وينعكس عليه حال المعنى المؤول وليس المعنى الظاهر.

وربما كان كما ذكر عبدالإله نبهان «مما لم يكن يخطر من الشاعر على بال ! ولكن متى كان الصوفية يعبأون بمقاصد الشاعر، إنهم ينقلون شعره إلى ما لهم من المعاني»

يسمع أبو الفتح الأعور الصوفى هذا البيت:

«وجهك المأمول من حجتنا يوم يأتى الناس بالحجج

فتواجد وصاح ودق صدره إلى أن أغمى عليه وسقط فلما انقضى المجلس حركوه فوجدوه ميتا»

والجنيد يسمع جارية تغنى شعرا فصعق وصاح فوهبها له صاحب الدار فأعتقها الجنيد وزوّجها لبعض أصحابه،

ومالك بن ديناريقول هممت أن أدعو على جار سوء «فهتف بى هاتف يا مالك لا تدع عليه فإنه من أوليائنا»

وروى المقرى « إن بعض الصلحاء كان يتعبد بالليل وكان كثير التعبد، فهتف به هاتف، وقال له : يا هذا لو اطلع العالم على ما أعرفه فى فعلك لرجموك، فقال العابد : وعزتك وجلالك لو يعلم الناس ما أعرفه من كرمك ما عبدوك. فقال له : لا نقول وتقول ؛ أنت عندنا مقبول»

ذوالنون المصرى والمجنونة

فى ترجمة ذى النون المصرى النوبى فى تحفة الأولياء نجد أنه قد التقى فى سياحته كثيراً من الوليات اللواتى يعرفنه دون أن يعرفهنّ،كما يروى « بينما أنا أسير فى جبال أنطاكية وإذا أنا بجارية كأنها مجنونة، وعليها جبة من صوف، فسلمت عليها فردت السلام ثم قالت : ألست ذا النون المصرى ؟ قلت : عافاك الله كيف عرفتيني؟ قالت : فتق الحبيب بينى وبين قلبك فعرفتك باتصال معرفة الحبيب ... ثم مرت وتركتنى «ومرة أخرى يحكى عن أخرى علمته صدق المحبة: «ثم تركتنى ومضت»

* ابن الفارض :أنتم فروضى ونفلي

*يعد ابن الفارض خير مثال على البوح بما يرى والحكْى شعراً عما يشاهده، وقد يصرح بما يبدو أمامه كما فى قوله:

أنْتُم فُرُوضى ونَفلي

أنْتُم حَديثى وشُغْلي

يا قِبْلَتِى فى صلاتي

إذا وَقَفْتُ أُصلّي

جَمالُكُمْ نَصْبُ عَيني

إليهِ وجّهْتُ كُلّي

وسِرّكُمْ فى ضَميري

والقلبُ طُورُ التّجَلّي

آنسْتُ فى الحَيّ ناراً

لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي

قُلْتُ امْكُثُوا فَلَعَلّي

أجِدْ هُدايَ لَعَلّي

دَنَوْتُ مِنها فكانَتْ

نارُ المُكَلَّمِ قَبلي

نودِيتُ مِنها جِهاراً

رُدّوا لَياليَ وَصلي

حتى إذا ما تَدَانَى ال

ميقَاتُ فى جَمْعِ شملي

صارَتْ جِباليَ دكاً

منْ هَيْبَةِ المُتَجَلّي

ولاحَ سرٌ خَفيٌ

يَدْريهِ مَنْ كَانَ مِثْلي

وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني

مذ صارَ بَعْضِيَ علّي

فالموتُ فيهِ حياتي

وفى حَياتيَ قَتلي

أنا الفقيرُ المُعَنّى

رِقُوا لِحَالى وذُلّي

راعية الغنم مع الذئاب

الشيخ عبد الواحد - كما يحكى اليافعى - يسأل الله أن يريه رفيقته فى الجنة فقيل له :ميمونة السوداء فيمضى إليها وهى ترعى الغنم مع الذئاب فلما رأته «قالت :ارجع ياعبدالواحد ليس الموعد هنا» ويصور اليافعى ميمونة السوداء على أنها مكشوفة الحجاب ترى الأسرار ، ولذلك فقد أفلح التصوف فى خلق تعادلية بين المرأة والرجل.

ولم يلجأ إلى التفريق بينهما طبقاً لعوامل بيولوجية بل المرأة تتفوق على قرنائها من الأولياء الذين يتوددون طالبين رضاءها ودعاءها فابن عربى يذكر أنه خدم بعض الوليات.

الموت عشقا

 صفات المرأة الولية كما تجىء فى التراث الصوفى هى التى شُغفت حباً وأنهك العشق جسدها ولذلك ففى إحدى الكرامات التى أوردها اليافعى وحللها المستشرق Daiber Hans «جارية مصفرة اللون متغيرة،... بكت بكاءً طويلاً ؛... ونزعت جميع ما كان عليها، ولبست جبة من صوف وخماراً من شعر.

وخرجت هائمة، وهى تنشد وتقول شعراً...؛ بصوت مقروح يخرج من كبد مجروح ...؛ امرأة كالخيال، ذاهلة العقل والبال ؛ بكت وانتحبت وهاجت واضطربت ... ثم صرخت ووقعت إلى الأرض، فحركتها فإذا هى ميتة» لكن ذلك لا ينفى أن تكون «امرأة حسناء ذات جمال بديع» و «مسفرة عن وجهها وهى تمشى من غير خمار»

 وتموت المرأة غالباً موتاً اختياريا دراميا تُحدد توقيته «ثم خرت ساجدة لله تعالى فحركتها فإذا هى ميتة» والجنيد يحكى عن أخرى «تشهدت وخرَّت ميتة فغسلناها ودفناها»

عبدُ رِقٍّ ما رَقَ يومًا لعِتقٍ

عاش ابن الفارض فى حالة حب ويكاد شعره يردد لفظة الحب ومترادفاتها، وتأتى قصيدته «تِهْ دلالا فأنتَ أهلٌ لذاكَ» على قمة هذا العشق، قال ابن الفارض:

تِهْ دَلاَلاً فأَنْتَ أهْلٌ لِذَاكا

وتحَكّمْ فالحُسْنُ قد أعطاكا

ولكَ الأمرُ فاقضِ ما أنتَ قاض

فَعَلَيَّ الجَمَالُ قد وَلاّكَا

وتَلافى إن كان فه ائتلافي

بكَ عَجّلْ به جُعِلْتُ فِداكا

وبِمَا شِئْتَ فى هَواكَ اختَبِرْنِي

فاختيارى ما كان فيِه رِضَاكَا

فعلى كُلّ حالَةٍ أنتَ مِنّي

بيَ أَوْلى إذ لم أَكنْ لولاكا

وكَفَانى عِزّاً بحُبّكَ ذُلّي

وخُضوعى ولستُ من أكْفاكا

وإذا ما إليكَ بالوَصْلِ عَزّتْ

نِسْبَتِى عِزّةً وصَحّ وَلاكا

فاتّهامى بالحبّ حَسْبى وأنّي

بَيْنَ قومى أُعَدّ مِنْ قَتْلاَكَا

لكَ فى الحيّ هالِكٌ بِكَ حيٌّ

فى سبيلِ الهَوَى اسْتَلَذّ الهَلاَكَا

عَبْدُ رِقّ ما رَقّ يوماً لعَتْقٍ

لَوْ تَخَلّيْتَ عنهُ ماخَلاّكا

بِجَمَالٍ حَجَبْتَهُ بجَلاَلٍ

هامَ واستَعْذَبَ العذابَ هُناكا

وإذا ما أَمْنُ الرّجا منهُ أدْنا

كَ فعَنْهُ خَوْفُ الحِجى أَقصاكا

فبِإقْدَام رَغْبَةٍ حينَ يَغْشا

كَ بإحجامِ رَهبْةٍ يخشاكا

ذابَ فلبى فَأْذَنْ لَهْ يَتَمَنّا

كَ وفيِه بَقِيّةٌ لِرَجَاكَا

أو مُرِ الغُمْضَ أَنْ يَمُرّ بجَفْنِي

فكأنى بِهِ مُطِيعاً عَصَاكا

فعسى فى المَنام يَعْرِضُ لى الوَهْ

مُ فيوحى سِرّاً إليّ سُراكا

وإذا لم تُنْعِشْ بِرَوْحِ التّمَنّي

رَمَقِى واقتضى فنائى بَقاكا

وحَمَتْ سُنّةُ الهوَى سِنَةَ الغُمْ

ضِ جُفُونِى وحَرّمَتْ لُقْياكا

أبْقِ لى مقْلَةً لَعَلّيَ يوماً

قبل مَوتى أَرَى بها مَنْ رآكا

أينَ مِنّى ما رُمْتُ هيهات بل أي

نَ لعَيْنِى بالجَفْنِ لثمُ ثَراكا

فبَشيرى لو جاء منكَ بعَطْفٍ

وَوُجُودى فى قَبْضَتِى قلتُ هاكا

قد كفى ما جرَى دماً من جُفُونٍ

بك قرحَى فهل جرى ما كفاكا

فأَجِرْ من قِلاَكَ فيك مُعَنّىً

قبلَ أَن يعرفَ الهَوَى يَهواكا

هَبْكَ أنَ اللاّحى نَهاهُ بِجَهْلٍ

عنك قل لى عن وَصْلِهِ من نَهاكا

وإلى عِشْقِكَ الجَمالُ دعاهُ

فإلى هجَرِهِ تُرى من دعاكا

أتُرى من أفتَاكَ بالصّدّ عنّي

ولغَيرى بالوُدّ مَن أفتاكا

بانْكِسَارى بِذِلّتى بخُضوعي

بافْتِقَارى بفَاقَتى بغِناكا

لا تَكِلْنِى إلى قُوَى جَلَدٍ خا

نَ فإنّى أَصْبَحْتُ من ضُعَفَاكَا

كُنْتَ تجْفُو وكان لى بعضُ صَبْرٍ

أحسَنَ اللهُ فى اصطبارى عَزاكا

كم صُدوداً عساكَ ترْحَمُ شكْوا

يَ ولو باسْتِمَاعِ قولى عساكا

شَنّعَ المُرْجِفونَ عنكَ بِهَجري

وأشاعُوا أنّى سَلَوْتُ هَواكا

ما بأحشائهِمْ عشِقْتُ فأسلُو

عنك يوماً دعْ يهجُروا حاشاكا

كيفَ أسلو ومُقْلَتى كلّما لا

حَ بُرَيْقٌ تلَفّتَتَ لِلِقاكا

إنْ تَبَسّمتَ تحتَ ضوءِ لِثَامٍ

أو تَنَسّمْتُ الرّيحَ من أنْباكا

طِبْتُ نفْساً إذ لاحَ صُبْحُ ثنايا

كَ لِعَيْنِى وفاحَ طيبُ شذاكا

كُلُّ مَنْ فى حِمَاكَ يَهْوَاكَ لكِن

أنا وحدى بكُلّ من فى حِماكا

فيكَ معنىً حَلاّكَ فى عينِ عقلي

وبه ناظرى مُعَنّى حِلاكا

فُقْتَ أهْلَ الجمال حُسْناً وحُسْنى

فَبِهِمْ فاقةٌ إلى معناكا

يُحْشَرُ العاشقونَ تحتَ لِوائي

وجميعُ المِلاحِ تحتَ لِواكا

ما ثنانى عنكَ الضّنَى فبماذا

يا مَلِيحُ الدّلالُ عنى ثناكا

لكَ قُرْبٌ منّى بِبُعْدِكَ عنّي

وحُنُوٌّ وجَدْتُه فى جَفاكا

عَلّمَ الشّوقُ مُقلتى سَهَر اللَّيْ

لِ فصارت من غيرِ نوْم تراكا

حبّذا ليلَةٌ بها صِدْتُ إسْرا

كَ وكان السّهادُ لى أشْراكا

نابَ بدرُ التّمامِ طَيْفَ مُحَيّا

كَ لطَرْفى بيَقْظَتى إذ حكاكا

فتراءيتَ فى سِواكَ لِعَيْنٍ

بكَ قَرّتْ وما رأيتُ سِواكا

وكذاكَ الخليلُ قَلّبَ قبلي

طَرْفَهُ حين راقبَ الأفلاكا

فالدّياجى لنا بكَ الآن غُرٌّ

حيثُ أهديتَ لى هُدىً من سَناكا

ومتى غِبْتَ ظاهِراً من عياني

أُلفِهِ نحوَ باطنى ألقاكا

أهلُ بَدْرٍ رَكْبٌ سَرَيْتَ بلَيْلٍ

فيه بل سار فى نَهار ضياكا

واقتباسُ الأنوارِ من ظاهري

غيرُ عجيبٍ وباطنى مأواكا

يعبَقُ المسْكُ حيثُما ذُكر اسمي

مُنْذُ نادَيْتَنى أُقَبّلُ فاكا

ويَضُوعُ العبيرُ فى كلّ نادٍ

وهْوَ ذِكْرٌ معَبِّرٌ عن شذاكا

قال لى حُسنُ كلّ شيءٍ تجلّى

بى تَمَلّى فقلتُ قَصدى وراكا

لى حبيب أراكَ فيه مُعَنّىً

غُرّ غَيرى وفيه مَعنىً أراكا

إن توَلّى على النّفوس تَوَلّى

أو تجَلّى يستعبِدُ النُّساكا

فيه عوّضتُ عن هُداى ضلالاً

ورَشادى غَيّاً وسِترى انهتاكا

وحّدَ القلبُ حُبّهُ فالتِفاتي

لكَ شِرْكٌ ولا أرى الإِشراكا

يا أخا العّذلِ فيمن الحُسْنُ مثلي

هامَ وجْداً به عَدِمْتُ أخاكا

لو رأيتَ الذى سَبَانيَ فيه

مِنْ جَمالٍ ولن تراهُ سبَاكا

ومتى لاحَ لى اغتَفَرْتُ سُهادي

ولعَيْنَيّ قُلْتُ هذا بِذاكا

الحب طريق التوبة

فقد ذهب أحد معاقرى الخمر للشيخ محمد الطيب ليأخذ عنه العهد ولم يكن الشيخ رآه من قبل وحينما يدنو من الشيخ يحدّث أحد أصدقاء المدمن نفسه : كيف يلقنه الشيخ الأوراد وهو على ما هو فيه؟ فيلتفت إليه الشيخ قائلاً «اعلم يا فلان لو أن صاحبك هذا جاء وبيده كأس الخمر وهو يريد أن يتوب ويرجع إلى الله تبارك وتعالى.

ما ترددت ثانية فى تلقينه أوراد الطريق لعل الله تبارك وتعالى يقبله ويفتح له ويهديه صراطاً مستقيماً... وتاب الله على صاحبى الشاب من تلك اللحظة» وهذا دور تربوى للشيخ.

 وقد اعترضت امرأة مغنية سكرانة طريق الشيخ بوسعيد متهتكة ومستهترة فاعترضها المريدون فقال الشيخ: «اتركوها لحال سبيلها، وأنشد شعراً:

 تأتين بكامل زينتك وتبرجك مخمورة من السكر والإدمان

 ألا تخافين أن تودعى السجن أسيرة؟

 فبكت المرأة وندمت متأثرة بكلام الشيخ لها، وتابت ودخلت المسجد وقدمت ما تحمله من أساور وحلى وعقود ذهبية وأعطتها لخادم الشيخ»

 أبو الحسن الششترى : يا ساقى القوم

قال: أبو الحسن الششتري

يا ساقيَ القَوْم من شَذاه

الكلُّ لمَّا سَقيْتَ تاهوا

عاتَبو وبالسُّكرِ فيك طابوا

وصرَّحوا بالهوى وفاهُوا

ما شِربَ الكاسَ واحتساهُ

إِلا محِبُّ قدِ اصطفاهُ

يا عاذِلى خلِّنى وشُرْبي

فلسْت تدرى الشراب ماهُو

قُم فاجتنِ قهْوةَ المعاني

من صفوةَ الكاسِ إِذ جَلاهُ

واسمعْ إِذا غنَّت المثاني

تقولُ يا هُو لبَيَّك يا هُوَ

واطْرب بذكْرِ الحبيب وافْرحْ

قد بلَغَ الشَّوق منْتهاهُ

ما قُلْتُ للقلْب أين حِبيِّ

إِلاَّ وقال الضَّميرُ ها هُو

جوته والحب

الشاعر الألمانى جوته Goethe قال فى ديوانه «الشرقى الغربي»

«هناك، حيث الحب والشرب والغناء

سيعيدك ينبوع الخضر شابا من جديد

إلى هناك حيث الطهر والحق والصفاء

أود أن أقود الأجناس البشرية

حتى أنفذ بها إلى أعماق الأصل السحيق »

حب الأم طريق الوصول

بلال الخواص يقول: «كنت فى تيه بنى إسرائيل فإذا رجل يماشينى، فتعجبت منه،ثم ألهمت أنه الخضر عليه السلام،فقلت بحق الحق من أنت؟ فقال أخوك الخضر، فقلت له أريد أن أسألك فقال سل، فقلت:ما تقول فى الشافعى رحمه الله؟ فقال «هو» من الأوتاد.

فقلت ما تقول فى أحمد بن حنبل رضى الله عنه؟ قال رجل صديق.قلت فما تقول فى بشر بن الحارث الحافي؟ فقال لم يخلق بعده مثله. فقلت بأى وسيلة رأيتك؟ فقال ببرك لأمك.»

 

لكن أجمل ما روى فى هذا المجال ما رواه القشيرى « أن بعضهم قيل له: ما أعجب ما لقيت فى سياحتك؟ فقال : لقينى الخضر، فطلب منى الصحبة، فخشيت أن يفسد عليّ توكّلي.»

ابن الفارض: زِدْنى بفَرْطِ الحُبّ فيك تَحَيّرا

زِدْنى بفَرْطِ الحُبّ فيك تَحَيّرا

وارْحَمْ حشىً بلَظَى هواكَ تسعّرا

وإذا سألُتكَ أن أراكَ حقيقةً

فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابى لن تَرى

يا قلبُ أنتَ وعدَتنى فى حُبّهمْ

صَبراً فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا

إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ

صَبّاً فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا

قُل لِلّذِينَ تقدَّموا قَبلى ومَن

بَعدى ومَن أضحى لأشجانى يَرَى

عنى خذوا وبى اقْتدوا وليَ اسمعوا

وتحدّثوا بصَبابتى بَينَ الوَرى

ولقد خَلَوْتُ مع الحَبيب وبَيْنَنَا

سِرٌّ أرَقّ منَ النسيمِ إذا سرى

وأباحَ طَرْفِى نَظْرْةً أمّلْتُها

فَغَدَوْتُ معروفاً وكُنْتُ مُنَكَّرا

فَدُهِشْتُ بينَ جمالِهِ وجَلالِهِ

وغدا لسانُ الحال عنّى مُخْبِرا

فأَدِرْ لِحَاظَكَ فى محاسنِ وجْهه

تَلْقَى جميعَ الحُسْنِ فيه مُصَوَّرا

لو أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورةً

ورآهُ كان مُهَلِّلاً ومُكَبِّرا

ويمضى ابن الفارض تاركا لسان حاله مخبرا عنه وكأنه لم يصرح بشيء.

ابن المستوفى: رأتْ قمر السماء

يحلل عبدالقادر الجزائرى بيْتيْ ابن المستوفى:

«رأت قمرَ السماءِ فأَذكرتني ليالى وصلِنا بالرقمتينِ

كِلانا ناظرٌ قمراً ولكنْ نظرتُ بعينها ورأتْ بعيني

قوله «رأت» يريد به حقيقة الغيبية التى بها هو هو، وإنما أسند الرؤية الحقيقية الغيبية دون صورته الشهادية لأن رؤية هذا القمر لا تكون بالأبصار الشهادية وإنما تكون بالبصائر الغيبية ...وقوله «نظرتُ بعينها ورأتْ بعيني» فجاء بالنظر فى حقه وبالرؤية فى حقها لأن حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة نحو الشيء طلباً لرؤيته مع تأمل، بخلاف الرؤية فإنها مجرد إدراك، فنزّهها عما تقتضيه لفظة النظر وهذا غاية الأدب»

العشق ماء الحياة

ظل حافظ شيرازى ينادى «أدرك أرواحنا الصادية الظامئة، ولو بجرعة واحدة، حينما يصبون* زلال الخضر* فى قرارة كأسك.»

يطور نجم الدين كبرى ماء الحياة الذى شربه الخضر فلا يراه سوى العشق فيقول:«إن العشق باقة شجيرة الشباب

والعشق رأس مال الحياة الخالدة

وإذا أردت ماء الحياة كالخضر

فإن ينبوع ماء الحياة هو العشق»

يقول محمد إقبال:

عدوتُ للطِلاب فى البراري مرتديا بالنفع والإعصارِ

بغير خضرٍ أبتغى المنازلْ  يحمل رحلى للخيال كاهلْ

وتأتى قصيدة فريدالدين العطار «مجنون الله» وحواره الفلسفى مع الخضر، يسأل الخضر فيها مجنون الله:

 أيها الرجل الكامل هل تحب أن تكون صديقي؟

 أنا وأنت لا نتفق

 فإنك شربت جرعات كبيرة من ماء الخلود

ولذلك ستعيش أبدا

أما أنا فإننى أتمنى أن أسلم روحى لله»

فلو أنه خرق السفينة فلا تنبس بكلمة. وإذا قَتل الطفل فلا تقتلع شعر رأسك.»

وقد ذكر ابن الجوزى فى اللطائف:».

أَرقى قَد رَقّ لى مِن أَرقى وَرثى لى قَلقَى من قَلَقي

وَبُكائى مِن بُكائى قَد بَكى وَتَشَكَّت حُرقى مِن حِرقي»

 ألف ليلة وليلة والحب

يعدّ كتاب ألف ليلة وليلة من أهم كتب التراث الإنساني، وسنأخذ قصة واحدة تبين تحول التراث الشعبى الشفاهى إلى تراث مدوّن، يعتمد على العجائبية والخيال ويمنح الحب منزلة عظيمة بها:

ففى حكاية عبدالله بن فاضل نائب البصرة مع أخويه حكاها للخليفة أنه بعدما تُوفى والدهم قسم الأموال بالعدل ؛ كلٌّ أخذ ثلثه، وفتح لكلٍّ منهما دكانا لكنهما كانا يحنان للسفر فأغرياه بهذا فوافقهما وملأ مركبا بالقماش من سائر الأصناف النفيسة، وأبحروا من مدينة البصرة فى البحر العجاج.

ونزلوا فباعوا وكسبوا ثم أبحروا فتاهَ البحَّار عن الطريق وفرغ الماء الحلو، فبكوا وباتوا فى كرب عظيم وفى الصباح لاح جبل عالٍ فنزلوا بحثاً عن الماء، فلم يجدوا ماءً، واشتدّ العطش بهم ولكن عبدالله بن فاضل لمحَ عن بُعْدٍ «مدينة عالية البنيان، مشيدة الأركان» فنادى أخويْه وقال لهما لقد وجدنا ما نبغى ولكنهما حذراه فربما يكون أهلها كفاراً فيأسرونهم أو يقتلونهم، ورفضا المضيَّ معه، فسار بمفرده صوب هذى المدينة، فوصلها ووجد أناسها واقفين وجالسين لا يتحركون فسلم عليهم فرآهم أحجاراً.

وأخذ ينتقل من قصر لقصر وكل سكانه جالسون أو واقفون متحجّرين، وحمل من الذهب والجواهر قدر ما يستطيع ثم دلف إلى قصر الملك ثم سمع صوتاً أنثوياً رخيما يتلو القرآن فتقدم منها وأقرأها السلام فردت «وعليك السلام يا عبد الله بن فاضل، أهلا وسهلا بك ياحبيبى وقرة عينى، فقلتُ لها : ياسيدتى من أين علمت اسمى ومن أين تكونين وما شأن هذه المدينة حتى صاروا أحجاراً ... ومن كونها لم يوجد فيها إلا أنتِ؟...فقالت لى :إننى بِنت ملك هذه المدينة، ووالدى هو الذى رأيته جالساً فى الديوان على الكرسى العالى والذى حوله أكابر دولته وأعيان مملكته وكان أبى ذا بطش شديد ...وعنده من الأموال والذخائر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.

وكان يقهر الملوك ويبيد الأبطال والشجعان فى الحرب وحومة الميدان، وتخشاه الجبابرة وتخضع له الأكاسرة، ومع ذلك كان كافرا مشركا بالله يعبد الصنم دون مولاه، وجميع عساكره كفار يعبدون الأصنام دون الملك العلام.

فاتفق أنه كان يوما من الأيام جالسا على كرسى مملكته وحوله أكابر دولته، فلم يشر إلا وقد دخل عليه شخص فأضاء الديوان من نور وجهه، فنظر إليه أبى فرآه لابسا حلة خضراء، وهو طويل القامة ويداه نازلتان إلى تحت ركبتيه، وعليه هيبة ووقار، والنور يلوح من وجهه فقال لأبي: يا باغى يا مفترى إلى متى وأنت مغرور بعبادة الأصنام، وتترك عبادة الملك العلام؟

قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وأسلم أنت وقومك، ودع عنك عبادة الأصنام فإنها لا تنفع ولا تشفع، ولا يعبد بحق إلا الله رافع السموات بغير عماد، وباسط الأرضين رحمة للعباد، فقال له: من أنت أيها الرجل الجاحد لعبادة الأصنام حتى تتكلم بهذا الكلام؟ أما تخشى أن تغضب عليك الأصنام؟ فقال له: إن الأصنام أحجار لا يضرنى غضبها ولا ينفعنى رضاها، فأحضر لى صنمك الذى أنت تعبده وأْمر كل واحد من قومك أن يحضر صنمه.

فإذا حضر جميع أصنامكم فادعوهم ليغضبوا عليّ، وأنا أدعو ربى أن يغضب عليهم، وتنظرون غضب الخالق من غضب المخلوق، فإن أصنامكم قد صنعتموها أنتم وتلبّست بها الشياطين، وهم الذين يكلمونكم من داخل بطون الأصنام، فأصنامكم مصنوعة وإلهى صانع، ولا يعجزه شيء، فإن ظهر لكم الحق فاتبعوه وإن ظهر لكم الباطل فاتركوه.

فقالوا له: ائتنا ببرهان ربك حتى نراه، فقال ائتونى ببراهين أربابكم، فأمر الملك كل من كان يعبد ربا من الأصنام أن يأتى به، فأحضر جميع العساكر أصنامهم فى الديوان.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمرى ؛ فإنى كنت جالسة فى داخل ستارة تشرف على ديوان أبي، وكان لى صنم من زمردة خضراء، جسمه قدر جسم ابن آدم، فطلبه أبى فأرسلته إليه فى الديوان، فوضعوه فى جانب صنم أبى من الياقوت وصنم الوزير من جوهر الألماس، وأما أكابر العساكر والرعية فبعض أصنامهم من البلخش وبعضها من العقيق، وبعضها من المرجان، وبعضها من العود القمارى وبعضها من الأبنوس، وبعضها من الفضة، وبعضها من الذهب وكل واحد منهم له صنم على قدر ما تسمح به نفسه. وأما رعاع العساكر والرعية فبعض أصنامهم من الصوان، وبعضها من الخشب، وبعضها من الفخار.

وبعضها من الطين، وكل الأصنام مختلفة الألوان ما بين أصفرَ وأحمرَ وأخضرَ وأسود وأبيض.ثم قال ذلك الشخص لأبى : ادع صنمك وهؤلاء الأصنام تغضب عليّ، فصفوا تلك الأصنام ديوانا وجعلوا صنم أبى على كرسى من الذهب، وصنمى إلى جانبه فى الصدر، ثم رتبوا الأصنام : كل منها فى مرتبة صاحبه الذى يعبده، وقام أبى وسجد لصنمه وقال له يا إلهى : أنت الرب الكريم وليس فى الأصنام أكبر منك.

وأنت تعلم أن هذا الشخص أتانى طاعنا فى ربوبيّتك مستهزئاً بك، ويزعم أن له إلها أقوى منك، ويأمرنا أن نترك عبادتك ونعبد إلهه، فاغضب عليه يا إلهى، وصار يطلب من الصنم والصنم لا يرد عليه جوابا ولا يخاطبه بخطاب، فقال له: يا إلهى ما هذه عادتك لأنك كنت تكلمنى إذا كلمتك، فمالى أراك ساكنا لا تتكلم، هل أنت غافل أو نائم، فانتبه وانصرنى وكلمنى، ثم هزه بيده فلم يتكلم ولم يتحرك من مكانه.

فقال ذلك الشخص لأبي: مالى أرى صنمك لا يتكلم؟ قال له : أظن أنه غافل أو نائم، فقال له: يا عدو الله كيف تعبد إلها لا ينطق وليس له قدرة على شيء؛ ولا تعبد إلهى الذى هو قريب مجيب وحاضر لا يغيب، ولا يغفل ولا ينام ولا تدركه الأوهام، ويرى ولا يرى وهو على كل شيء قدير، وإلهك عاجز لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه.

وقد كان متلبسا به شيطان رجيم يضلك ويغويك، وقد ذهب الآن شيطانه، فاعبد الله واشهد أنه لا إله إلا هو ولا معبود سواه وأنه لا يستحق العبادة غيره، ولا خير إلا خيره، وأما إلهك هذا فإنه لا يقدر على دفع الشر عن نفسه، فكيف يقدر على دفعه عنك؟ فانظر بعينك عجزه.

ثم تقدم وصار يصكه على رقبته حتى وقع على الأرض، فغضب الملك وقال للحاضرين: إن هذا الجاحد قد صك إلهى فاقتلوه، فأرادوا القيام ليضربوه فلم يقدر أحد منهم أن يقوم من مكانه، فعرض عليهم الإسلام فلم يسلموا فقال: أريكم غضب ربي؟ فقالوا: أرنا، فبسط يديه وقال: إلهى وسيدى أنت ثقتى ورجائى فاستجب دعائى على هؤلاء القوم الفجار الذى يأكلون خيرك ويعبدون غيرك، يا حق يا جبار يا خالق الليل والنهار، أسألك أن تقلب هؤلاء القوم أحجارا فإنك قادر.

ولا يعجزك شيء وأنت على كل شيء قدير. فمسخ الله أهل المدينة أحجارا وأما أنا فإنى حين رأيت برهانه أسلمت وجهى لله فسلمتُ مما أصابهم.ثم إن ذلك الشخص دنا منى وقال: سبَقَتْ لك من الله السعادة، ولله فى ذلك إرادة، وصار يعلمنى وأخذت عليه العهد والميثاق، وكان عمرى سبع سنين فى ذلك الوقت، وفى هذا الوقت صار عمرى ثلاثين عاما، ثم إنى قلت له : يا سيدى جميع ما فى المدينة صاروا أحجارا بدعوتك الصالحة.

وقد نجوت أنا حين أسلمت على يديك، فأنت شيخى فأخبرنى باسمك ومدنى مددك وتصرف لى فى شيء أقتات منه، فقال لي: اسمى أبو العباس الخضر، ثم غرس لى شجرة من الرمان بيده، فكبرت وأورقت وأزهرت وأثمرت رمانة واحدة فى الحال فقال: كلى مما رزقك الله تعالى واعبديه حق عبادته، ثم علمنى شروط الإسلام وشرط الصلاة وطريق العبادة وعلمنى تلاوة القرآن وصار لى ثلاثة وعشرون عاما وأنا أعبد الله فى هذا المكان.

وفى كل يوم تطرح لى هذه الشجرة رمانة فآكلها وأقتات بها من الوقت إلى الوقت ؛ والخضر عليه السلام يأتينى كل جمعة، وهو الذى عرفنى باسمك وبشرنى بأنك سوف تأتينى فى هذا المكان، وقد قال لي: إذا أتاك فأكرميه، وأطيعى أمره ولا تخالفيه، وكونى له أهلا ويكون لك بعلا، واذهبى معه حيث شاء، فلما رأيتك عرفتك، وهذا هو خبر هذه المدينة وأهلها والسلام.ثم إنها أرتنى شجرة الرمان وفيها رمانة فأكلت نصفها وأطعمتنى نصفها، فما رأيت أحلى ولا أزكى ولا أطعم من تلك الرمانة.

ومن ثم قلت لها: هل رضيت بما أمرك به شيخك الخضر عليه السلام بأن تكونى لى أهلا وأكون لك بعلا، وتذهبى معى إلى بلادى وأمكث بك فى مدينة البصرة؟ فقالت: نعم إن شاء الله تعالى فإنى سميعة لقولك مطيعة لأمرك من غير خلاف. ثم إنى أخذت عليها العهد الوثيق ؛ وأدخلتنى إلى خزانة أبيها وأخذنا منها على قدر ما استطعنا حمله.

وخرجنا من تلك المدينة ومشينا حتى وصلنا إلى أخوى فرأيتهما يفتشان على، فقالا لي: أين كنت فإنك أبطأت علينا، وقلبنا مشغول بك، وأما رئيس المركب فإنه قال لي: يا تاجرُ عبدَ الله إن الريح طاب لنا من مدة وأنت عوَّقتنا عن السفر، فقلت له: لا ضرر فى ذلك ولعل التأخير خير، لأن غيابى لم يكن فيه غير الإصلاح وقد حصل لى فيه بلوغ الآمال».

وأضفى التراث الشعبى على الخضر صفات النور، وأن عليه هيبة، وأنه طويل القامة و يداه نازلتان إلى تحت ركبتيه «تغيّر فى الخلقة، وهذا يضفى على الشخصية المغايرة» وأنه ذو حلة خضراء قد يكون اللون الأخضر رمزاً للحياة والتجدد، كما أنه مستجاب الدعوة ولديه قدرة على المناظرة.

ولا يخفى على المتلقى تناص الحكاية مع قصة إبراهيم عليه السلام من جهة وتناصها من جهة أخرى مع قصة موسى عليه السلام «يوم الزينة» وأثر الطبقية، والبطلة الحقيقية هى الفتاة الولية راجحة، وهذا يضفى على المرأة دوراً بطوليا فى الحكاية الشعبية، كما أوضحت آنفا.

ولم تنته القصة بل حسده أخواه وكادا أن يقتلاه إذ رمياه فى البحر وبعد قصص وأحداث يلتقى امرأته التى يطلق عليها اسم الشيخة راجحة التى اشتهرت ببركتها «فدخل بواب الخان حتى وصل إلى الستارة وقال: دستور يا شيخة راجحة خذى هذا المريض أدخليه من داخل هذه الستارة، فقالت له: ادخل فدخل ونظر إليها فرأى زوجته التى جاء بها من مدينة الحجر، فعرفها وعرفته وسلمت عليه فقال لها: من أتى بى إلى هذا المكان؟ فقالت له: لما رأيت أخويك رمياك فى البحر.

وتخاصما عليّ رميت نفسى فى البحر فتناولنى شيخى الخضر أبو العباس وأتى بى إلى هذه الزاوية وأعطانى الإذن بشفاء المرضى ونادى فى المدينة: كل من كان له داءٌ فعليه بالشيخة راجحة وقال لي: أقيمى فى هذا المكان حتى يؤون الأوان ويأتى إليك زوجك، فصار كل مريض يأتى أكبسه فيصبح شافيا وشاع ذكرى بين العالم وأقبل الناس على بالنذور وعندى من الخير كثير وأنا فى عزٍ وإكرامٍ وجميع أهل هذه البلاد يطلبون منى الدعاء.

ثم إنها كبست الرجل المريض فشفى بقدرة الله تعالى وكان الخضر عليه الصلاة والسلام يحضر عندها فى كل ليلةِ جمعةِ وكانت تلك الليلة التى اجتمع فيها ليلة الجمعة، فلما جن الليل جلست هى وإياه بعدما تعشيا من أفخر المأكول ثم قعدا ينتظران حضور الخضر، فبينما هما جالسان إذا به قد أقبل عليهما فحملهما من الزاوية ووضعهما فى قصر عبد الله بن فاضل بالبصرة ثم تركهما وذهب.

فلما أصبح الصباح تأمل عبد الله فى القصر فرآه قصره فعرفه وسمع الناس فى ضجةٍ فنظر من الشباك فرأى شقيقيه مصلوبين كل واحدٍ منهما على خشبةٍ ... بعدما أقرّا أمام الخليفة تحت الضرب على بعضهما فغضب عليهما الخليفة وقال: خذوهما إلى البصرة واصلبوهما قدام قصر عبد الله، هذا ما كان من أمرهما.

وأما ما كان من أمر عبد الله فإنه أمر بدفن شقيقيه ثم ركب وتوجه إلى بغداد وأفاد الخليفة بحكايته وما فعل معه أخواه من الأول إلى النهاية فتعجب الخليفة من ذلك وأحضر الكاتب والشهود وكتب كتابه على البنت التى جاء بها من مدينة الحجر وأقام معها فى البصرة إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحى الذى لا يموت»

فدور الخضر لم ينته عند مساعدته لعبدالله حتى يلقى تلك الفتاة لكنه يساعد الفتاة المؤمنة لتقوم بدورها الإيمانى تعبد الله وتمكث سنوات فى انتظار عبدالله الذى بشرها به الخضر، ويقوم الخضر فى القصة بدور النبى مستجاب الدعوة، وينقذ راجحة مرة أخرى من الغرق ويدبر لها حياتها ويزورها كل ليلة جمعة، ويعمل على أن يتزوج الحبيبان.

وقد جاء تصوير مدينة الحجر تصويرا رائعا جمع بين ثبات الحركة وحركة الثبات، بين الفناء والبقاء، كما قام الخضر بدوره المشهور فأنبت شجرة رمان لراجحة تتقوى من ثمرها، وربما أبطأ الراوى فى مجيء عبدالله بن فاضل إلى مدينة الحجر حتى يجد متسعاً زمنيا للحكايا، وحتى تبلغ راجحة الثلاثين عاما فتؤهل للزواج.

والخضر هنا لا يختلف عن أدواره الأخرى فى قصص الصوفيين، وهذا يلقى الضوء على تأثر كاتب ألف ليلة وليلة بكتابات الصوفيين عن الخضر فى عصره، وما مقولات «شيخى ومدّنى مددك وتصرف لى فى شيء أقتات منه، فقال لي: اسمى أبو العباس الخضر، ثم غرس لى شجرة من الرمان» إلا صدى التصوف فى ألف ليلة وليلة.

يقوم السرد فى القصة السابقة على تشويق المتلقى الذى سرعان ما يجد نفسه شريكا فى العملية السردية، وتعتمد شهرزاد على «الفلاش باك» فى السرد فالمدينة الحجرية تحكى بعد تجوال ابن فاضل فى هذى المدينة بعد تحذير أخويه له من هذه المغامرة والقارئ هنا يبدى تشوقه لمعرفة لغز الأحجار التى ارتسمت على شفاهها علامات الحياة الصامتة دون أن تنطق، ويبدأ فك اللغز المحير بصوت مجهول يفاجئ المتلقى « سمع صوتاً أنثوياً رخيما يتلو القرآن فتقدم منها وأقرأها السلام فردت «وعليك السلام يا عبد الله بن فاضل.

أهلا وسهلا بك ياحبيبى وقرة عيني» فحاسة البصر المتأملة للسكون فى صمت تتحول إلى حاسة السمع وتتداخل الحواس إلى بُعد غريب مفاجئ عندما يتحول الصوت إلى صوت مُحب « ياحبيبى وقرة عيني» ويأتى السؤال الذى يحبس المتلقى أنفاسه شوقا لسماع الإجابة.

وتبدأ فى سرد قصة المدينة الحجرية متجاهلة الإجابة عن السؤال الموجه إليها «ياسيدتى من أين علمت اسمي؟»ولا تجيب متعمدة لأنها لو قالت الخضر لوجب على المتلقى أن ينفض عن سماع تتمة القصة لكنها تسرد قصة المدينة وتبدأ فى فك طلاسم الحجر.

وبعد افتتاحية ممهدة تحرص من خلالها على إظهار الطبقية فى مجتمع ما قبل الأحجار وتصوير المدينة قبل العدم الذى ألم بها، والجمل التشويقية فى النص لا تحصى، والأسئلة هنا تعبير عن تشوق للإصغاء وهذا يتطلب سرد الحكاية أى سرد النص مقلوباً، إن النص لا يكتمل إلا بافتتاحية موصلة إلى النهاية غير المتوقعة.

ومع مسرحة الحدث الذى ينقل المتلقى من الماضى إلى الحاضر، ويبدأ فى تشخيص الحدث وتحريك الأحجار من خلال وصف راجحة للمآل العدمى الذى آلت إليه المدينة بعدما جاءها هذا الشخص الداعى إلى الله فلم يستجيبوا، والشخصيات الرئيسة فى القصة أربعة عبدالله بن فاضل وأخواه وراجحة وتبهت شخصيتا الشقيقين حسبما يركز الأضواء على عبدالله وراجحة بل يموت الشقيقان صلبا فى مشهد مأساوى فى الوقت الذى يتزوج فيه المحب عبدالله من محبوبته راجحة.

ولكن يظل الخضر هو البطل الرئيس فى القصة فهو مبشر راجحة بالزوج وهو مُدبر الطعام من خلال شجرة الرمان وهنا يأتى دور الخضر الإنمائى فى إنبات الخضرة حيثما حل،وإن دور الخضر فى إنبات شجرة الرمانة «غرس لى شجرة من الرمان بيده، فكبرت وأورقت وأزهرت وأثمرت رمانة واحدة فى الحال فقال: كُلي» كل ذلك ببركته التى تختصر الزمن فتغدو النبتة شجرة مثمرة يذكرنا بنظرية التحول التى اعتمدها المعرى فى رسالة الغفران عندما وصف لقاء ابن القارح بالنابغة الذبياني: «ويمرُّ رِفٌ من إوزّ الجنَّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرَّوضة ويقف وقوف منتظر لأمرٍ.

ومن شأن طير الجنَّة أن يتكلَّم، فيقول: ما شأنكنَّ؟ فيقلن: أُلهمنا أن نسقط فى هذه الرَّوضة فنغنّى لمن فيها من شَرْبٍ. فيقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرن جوارى كواعب يرفُلن فى وَشى الجنَّة، وبأيديهنّ المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي.فيعجب» فجماعة الطيور تتكلم ثم تنتفض فتغدو جوارى كواعب يعزفن و يغنين أبيات النابغة.

والعجب هنا قاسم مشترك بين نصى المعرى وألف ليلة وليلة بل هو الهدف المقصود من كليهما، فالعجائبية هى التى منحت النصين التفرد، فقد خلص النص من رتابة التقرير عندما خرج إلى رحابة التصوير.

ولكن تبقى نقطة الصراع فى القصة بين الشقيقين من جهة وبين عبدالله وانتصار المفرد على المثنى لأن المفرد وقف بجانبه الخضر لأنه على حق، فجعله الأقوى، ولذلك يرى شقيقيه يهمان بقتله فينجيه وهنا يقوم بدور خضر البحار وهو الدور الذى اشتهر به فى الهند بل فى آسيا.

ولعل تنوع أدوار الخضر توحى بأثر الحضارات والثقافات فى صنع هذا السِّفر التراثى الفريد، وهذا الدور صُوّر فنيا أيضا ؛ ويتكرر المشهد مع راجحة التى ترمى بنفسها فى البحر لتلحق بالمحب فيتناولها الخضر مرة أخرى ويهدئ من روعها ويمنحها المسكن والمأكل والاحترام ويزورها أسبوعيا ويلم شملها والمحبوب عبدالله ثم يطوى بهما الأرض ويوصلهما إلى قصر عبدالله ليتزوجا بشهادة الخليفة ويعيشا معاً.

ولكن الفناء يطل « أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحى الذى لا يموت» ليظل الخضر البطل الخالد ومن ساعدهم يراهم موتى أمامه ليبحث عمن يساعدهم من جديد ليبقى الخضر جوابا جوالا مرشدا.

وقد جاء الخضر فى الليلة السادسة والعشرين بعد الخمسمائة كى يوصل بلوقيا إلى بيته بمصر قاطعاً آلاف الأميال فى خطوة واحدة بعدما بعدت عنه الديار فى هذه الرحلة العجيبة «فإذا الخضر عليه السلام قد أقبل فقام بلوقيا وسلم عليه وأراد أن يذهب.فقال له الطير اجلس يا بلوقيا فى حضرة الخضر عليه السلام، فجلس بلوقيا فقال له الخضر أخبرنى بشأنك واحك لى حكايتك، فأخبره بلوقيا بجميع ما فيه بين يدى الخضر، ثم قال له يا سيدى ما مقدار الطريق من هنا إلى مصر فقال له مسيرة خمسة وتسعين عاماً.

فلما سمع بلوقيا هذا الكلام بكى ثم وقع على يد الخضر وقبلها وقال له أنقذنى من هذه الغربة وأجرك على الله لأنى قد أشرفت على الهلاك وما بقيت لى حيلة، فقال له الخضر ادع الله تعالى أن يأذن لى أن أوصلك إلى مصر قبل أن تهلك، فبكى بلوقيا وتضرع إلى الله تعالى، فتقبل الله دعاءه وألهم الخضر عليه السلام أن يوصله إلى أهله.

فقال الخضر عليه السلام لبلوقيا ارفع رأسك فقد تقبل الله دعاءك وألهمنى أن أوصلك إلى مصر فتعلق بى واقبض عليّ بيديك وأغمض عينيك، فتعلق بلوقيا بالخضر عليه السلام وقبض عليه بيديه وأغمض عينيه وخطى عليه السلام خطوة ثم قال لبلوقيا افتح عينيك، ففتح عينيه فرأى نفسه واقفاً على باب منزله ثم التفت ليودع الخضر عليه السلام فلم يجد له أثراً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح»

فقصة بلوقيا العجائبية لا تنتهى إلا بالمنقذ الخضر الذى يطوى الأرض طيا والذى لم يجد له أثرا، وعندما يسأل الأمير موسى ملك السودان «ومن أين لكم علم ولم يبلغكم نبى أو وحى فى مثل هذه الأرض، فقال اعلم أيها الأمير أنه يظهر لنا من هذا البحر شخص له نور تضيء له الآفاق فينادى بصوت يسمعه البعيد والقريب : يا أولاد حام استحيوا ممن يرى ولا يرى وقولوا :لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنا أبوالعباس الخضر وكنا قبل ذلك نعبد بعضنا فدعانا إلى عبادة رب العباد»

إبلاغ الناس بوحدانية الله والدعوة إلى عبادته لا تقتصر على دعوة البشر بل الجن أيضا وهذا ما يرويه ياقوت فى معجم البلدان «فقال: أنا رجل من الجن كان سليمان بن داود حبس ولدى فى هذه البحيرة فأتيته لأنظر ما حاله قُلنا له فما بالُك قائماً على وجه الماءِ قال: سمعت صوتاً فظننته صوتَ رجل يأتى هذه البحيرة فى كل عام مرة فهذا أوان مجيئه فيصلى على شاطئها أياماً، ويهلل اللهَ ويمجده قلنا فمن تظنه قال: أظنه الخضر عليه السلام».

وهذا الدور هو نفسه الذى قام به فى المدينة الحجرية، ليقوم بدور أشبه بدور نوح عليه السلام بعد أن يئس من استجابتهم دعا عليهم فجاءهم طوفان الماء وفى قصة عبدالله بن فاضل يلتهمهم طوفان العدم.

لماذا تأخرت يا أحمد ؟

 وفى قصة توبة الشيخ أحمد أبوالحسن «ت 1994» كما رواها بذاته توضح أنها تتكرر كثيراعليها، فقد كان أحمد أبوالحسن فتوّةً لا يخاف من شيء البتة، وذات مساء كان يشرب الخمر مع بعض أصدقائه، وأبصر صورة الشيخ أحمد رضوان معلقة على الجدار، فأفاق من سكرته ومضى، وعزم على أن يزور الشيخ أحمد رضوان فى ساحته، ولكنه كان يؤجل ذلك كثيراً ؛ وأخيراً قرر الذهاب، «وعندما رآه الشيخ أحمد رضوان ناداه باسمه «دون سابق معرفة ظاهرية» وقال له : لماذا تأخرت يا أحمد ؟

البغدادى عاشق الجارية

 يحكى ابن بشكوال في «كتاب المستغيثين بالله»: كان عندنا رجل ببغداد يقال له محمد بن عبيد، وكان يقاس فى الزهد والعبادة إلى أحمد بن حنبل، وكانت عنده جارية فباعها فاتبعتها نفسه فسار إلى مولاها فقال : أقلنى بيع الجارية ؟

قال : ما أفعل.

قال: فاربح على عشرة دنانير.

قال: ما أفعل.

قال: بارك الله لك فيها، فانصرف، فلما كان فى الليل أراد فطره أو ورده من الليل فلم يقدر عليه وأجهد، فكتب اسمها فى كفه، فلما طرقه من أمرها طارق، رفع كفه إلى السماء، وقال :ياسيدى، هذه قصتى، فانظر فيها

فلما كان فى السحرفإذا الرجل يقرع الباب، قال:من هذا؟

قال : أنا صاحب الجارية.

قال: فخرج بالمال والربح

فقال الرجل : هذه الجارية، بارك الله لك فيها

قال : وهذا المال والربح بارك الله لك فيه.

قال: والله لا أخذتُ منك من ثمنها دينارا ولا درهما.

قال : ولِمَ يرحمك الله؟

قال :لأنه أتانى آت فى منامى الليلة فقال :ردَّ الجارية على ابن عبيد، ولك على الله الجنة، والحمد لله رب العالمين»

أى أن الله يحقق أمنيته من خلال الرؤيا

 كان الشبلى يردد:

«قبور الورى تحت التراب، وللهوى  رجالٌ لهم تحت الثياب قبور»

وإبرة إبراهيم بن أدهم

 «أسقط إبراهيم بن أدهم إبرة من يده فى النهر، فأشار إلى النهر قائلاً: ردوا إبرتى إليّ! فأخرجت ألف سمكة رأسها من الماء، وفى فم كل واحدة منها إبرة من ذهب. قال إبراهيم :إنى أريد إبرتى عينها. فخرجت سمكة ضعيفة تمسك بإبرة فى فمها وتقول: «هذا ما بقى من ملكك يا إبراهيم.»

 ومن أجمل ما روى فى هذا الصدد ما رواه أبوالصبر قال «كنت أحضر مجلس أبى الحسن، فيحضره جماعة من المشاة فى الهواء، وكان فيهم رجل يظهر فى وجهه كأثر حرق النار من احتراق الهواء.» وكذلك ما حكاه ذوالنون المصرى عندما أبصر رجلاً يطير فى الهواء فسأله «بمَ وَصلت إلى هذه المرتبة؟ فقال : تركت هواى لهواه فأسكننى فى الهواء» فالمشى فى الهواء يوحى بمدى تفرد هؤلاء الناس وتميزهم عن الآخرين مما يجعل المتلقى ينظر إليهم وكأنهم حالة خاصة لاتتكرر.

 جوهرة المصرى

كما ذكر اليافعى حكاية رواها ذو النون المصرى عن شاب استقل سفينة معه وفى منتصف البحر فقد صاحب المركب كيساً فيه مال « ففتش كل من كان فى المركب فلما وصل إلى الشاب ليفتشه وثب من المركب حتى جلس فى البحر فقام له الموج على مثال السرير.

ونحن ننظر له من المركب ثم قال : يامولاى إن هؤلاء اتهمونى وإنى أقسم عليك ياحبيب قلبى أن تأمر كل دابة من هذا البحر أن تخرج رأسها وفى فم كل واحدة منهن جوهرة، فقال ذو النون فما أتم الشاب كلامه حتى رأينا دواب البحر قد أخرجت رئوسها وفى فم كل واحدة منهن جوهرة تتلألأ وتلمع كالبرق، ثم وثب الشاب ثانياً من البحر فى الموج وصار يمشى ولم تبتل قدماه وهو يقول :إياك نعبد وإياك نستعين ؛ حتى غاب عن بصرى، قال ذوالنون فحملنى ذلك على السياحة.»

 الطائر شاهد المحبة

 فى مجال الطيور نجد أنها قريبة من الولى ومُؤْتمِرة بأمره «قال أبوبكر القحطبي:كنت فى مجلس سمنون، فوقف عليه رجل فسأله عن المحبة،فقال لا أعرف اليوم من أتكلم عليه يعلم هذه المسألة، فسقط على رأسه طائر، فوقع على ركبته،فقال :إن كان فهذا، ثم جعل يقول ويشير إلى الطير بلغ من أحوال القوم كذا وكذا، فشاهدوا كذا وكذا، وكانوا فى حال كذا وكذا، فلم يزل يتكلم عليه حتى سقط الطير عن ركبته ميتا»

ابن الفارض : وكلُّ فَتىً يهوى فإنّى إمَامُهُ

نسخْتُ بِحَبّى آية العِشْقِ من قبلي

فأهْلُ الهوى جُندى وحكمى على الكُلّ

وكلُّ فَتىً يهوى فإنّى إمَامُهُ

وإنى بَريءٌ من فَتىً سامعِ العَذْلِ

ولى فى الهوى عِلْمٌ تَجِلّ صفاتُهُ

ومن لم يُفَقّهه الهوى فهْو فى جهل

ومن لم يكنْ فى عِزّةِ الحبِّ تائهاً

بِحُبّ الذى يَهوى فَبَشّرْهُ بالذّل

إذا جادَ أقوامٌ بمالٍ رأيْتَهُمْ

يَجودونَ بالأرواحِ مِنْهُمْ بِلا بُخل

وإن أودِعوا سِراً رأيتَ صُدورهم

قُبوراً لأسرارٍ تُنَزّهُ عن نَقلِ

وإن هُدّدوا بالهَجْرِ ماتوا مَخافَةً

وإن أوعِدوا بالقَتْلِ حنّوا إلى القتل

لَعَمرى هُمُ العُشّاقُ عندى حقيقةً

على الجِدّ والباقون منهم على الهَزْل