كنوز| عندما عمل توفيق الحكيم مفتشاً للكعك بالأرياف

الكاتب الكبير توفيق الحكيم
الكاتب الكبير توفيق الحكيم

يحدثنا كاتبنا الكبير توفيق الحكيم فى كتاب «سجن العمر» عن ذكريات طفولته فى أيام العيد، وما كان يلفت نظره من فنون متنوعة تُمارس فيه مثل: الأراجوز، والحاوى، وعازف البيانولا، وعروض الفرق الجوالة، ويصف فى كتاب «فن الأدب» كيف كان يقف مبهورا امام «الفانوس» التقليدى، فيقول: «كم سعدنا فى طفولتنا الجميلة بشهر رمضان، وكم شقينا أيضاً، من ذا الذى لا يذكر خفقة قلبه الصغير، فى صباه، وهو أمام حانوت «السمكرى» يقلب أنظاره الشائعة، وأبصاره الزائغة فى مختلف «الفوانيس» بزجاجها ذى الألوان؟ وما أبهج ذلك الفانوس الأصفر والأخضر والأحمر المعلق فى القمة، ولكن ثمنه ولا شك باهظ ! تُرى هل يرضى الأهل ببذل هذه التضحية من أجله ؟ إنه على كل حال لن يكلفهم شططاً ولكنه سيفعم قلبه بسرور لن يقدر الكبار مداه أبداً ! ما أقسى الكبار أحيانا ! إنهم قد يضنون ببضعة جنيهات لن تغنيهم، هى الفرق بين لعبة ولعبة ! ولكنها فى الواقع هى الفرق بين سعادة وسعادة، ما أشد نسيان الكبار، لقد كانوا كلهم صغاراً فى يوم من الأيام، لماذا لا يذكرون ذلك العالم السحرى العجيب الذى تتفتح للأطفال أبوابه الذهبية فجأة كلما أرادوا الحصول على شيء من تلك الأشياء التى يحلمون بها، لو تذكر الكبار ذلك العالم الذى أغلقت دونهم أبوابه بخروجهم من طور الطفولة لما ضنوا على أولادهم بشىء!.

فى الفصل الأخير من كتابه الممتع «عدالة وفن» كتب فصلاً بعنوان «مفتش الكعك» يروى فيه بخفة ظله واقعة تعرض فى أول سنة من عمله كوكيل نيابة عندما قام جميع زملائه بإجازاتهم فى عيد الفطر وتركوه بمفرده فى مدينة بالأرياف، يعانى الوحدة وثقل التحقيقات والمحاضر، ويقول: إنه تلقى دعوة فى العيد ليذوق كعك داعيه بمنزله، وكاد يرفض الدعوة لأنه لا يحب الكعك، لكن وطأة الوحدة دفعته للذهاب، وقدم له داعيه القهوة وطبق الكعك، فتذوق واحدة فأعجبته، واكتشف ان الكعك ألذ شىء ذاقه فى حياته، فأكل ثانية وثالثة، وأبدى إعجابه لصاحبه، فقال له: «وماذا لو ذقت كعك قاضى البندر؟»، فقال الحكيم: «وكيف السبيل إلى ذلك؟»، فقال مضيفه: «هلم بنا نزوره ونعيّد عليه.. إنه هنا مع أسرته ولم يسافر»، ويقول الحكيم: «ذهبنا إلى بيت قاضى البندر، وتبين أن كعكه أتقن صنعا وأمتع طعما، فأبديت إعجابى به، فقال القاضى: «وماذا لو ذقت كعك قاضى المركز؟» وذهبنا إلى قاضى المركز، واتضح أن كعكه أحلى وأطعم، وشهدت له، فقال قاضى المركز: «إذا كنت تريد حقا أن تذوق كعكا فذق من كعك القاضى الشرعى»، وذهبنا إليه، فما كادت رائحة كعكه تبلغ أنفى حتى أدركت لطول مرانى حقيقة أمره فقلت: «نعم.. هذا هو الكعك»!

مضى العيد وخفيف الظل توفيق الحكيم ينتقل من طبق إلى طبق.. بعدما كان مُقدرا أن ينتقل من جنحة إلى جنحة، وحين عاد زملاؤه من إجازاتهم سألوه «ماذا فعلت فى العيد؟» فقال «اشتغلت مفتش»، قالوا «مفتش قضائى؟»، ضحك وهو يقول لهم «بل مفتش كعك» !