خواطر الإمام الشعراوي.. اختبار الإيمان بالفتنة

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يقول الحق فى الآية 192 من سورة البقرة: « فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أى ما داموا قد كفوا عما يصنعون من الفتنة بالدعوة والشرك بالله وَزُجِروا بالدين الآمر فانزجروا عن الكفر، بعدها لا شيء لنا عندهم؛ لأن الله غفور رحيم، فلا يصح أن يشيع فى نفوسنا الحقد على ما فعلوه بنا قديما، بل نحتسب ذلك عند الله، وما داموا قد آمنوا فذلك يكفينا. والحق سبحانه وتعالى بعد أن أعطانا مراحل القتال ودوافعه قال: «وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ».. ويقول الحق تبارك وتعالى فى الآية 193:« وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» وعرفنا أن الفتنة ابتلاء واختبار والحق يقول:« أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ».. إن الحق يختبر الإيمان بالفتنة، ويرى الذين يُعلنون الإيمان هل يصبرون على ما فيه من ابتلاءآت أم لا؟ فلو كان دخول الإسلام لا يترتب عليه دخول فى حرب أو قتال ولا يترتب عليه استشهاد بعض المؤمنين لكان الأمر مغريا لكثير من الناس بالدخول فى الإسلام، لكن الله جعل لهم الفتنة فى أن يُهزَموا ويُقتل منهم عدد من الشهداء، وذلك حتى لا يدخل الدين إلا الصفوة التى تحمل كرامة الدعوة، وتتولى حماية الأرض من الفساد، فلابد أن يكون المؤمنون هم خلاصة الناس.. لذلك قال سبحانه: «وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ».

معنى أن يكون الدين لله، أى تخرجوهم من ديانة أنفسهم أو من الديانات التى فرضها الطغيان عليهم، وعندما نأخذهم من ديانات الطغيان، ومن الديانات التى زينها الناس إلى ديانات الخالق فهذه مسألة حسن بالنسبة لهم، وتلك مهمة سامية.

كأنك بهذه المهمة السامية تريد أن ترشد العقل الإنساني وتصرفه وتمنعه من أن يَديِنَ لمساو له؛ إلى أن يدين لمن خلقه. وعلى صاحب مثل هذا العقل أن يشكر من يوجهه إلى هذا الصواب. ولذلك يُجلى الحق سبحانه وتعالى هذه الحقيقة فيقول على لسان الرسول: «قُلْ ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً» «الفرقان: 57».. فكأننا لو نظرنا إلى عمل الرسول بالنسبة إلينا بمنظار الاقتصاد لوجب أن يكون له أجر، لأنه يقدم المنفعة لنا، وبرغم ما قدمه من منفعة فهو لا يأخذ أجراً؛ لأنه زاهد فى الأجر؛ فإنه يعلم أن الأجر من المساوى له قليل مهما عظم وهو يريد الأجر ممن خلقه، وهذا طمع فى الأعلى؛ لأنه لا يعطى الأجر على الإيمان إلا الله سبحانه وتعالى، وهو الذى يعطى بلا حدود.

ويختتم الحق هذه الآية الكريمة بقوله: «فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين» أى أنهم إذا انتهوا إلى عدم قتالكم، فأنتم لن تعتدوا عليهم، بل ستردون عدوان الظالم منهم. والظالم حين يعتدى يظن أنه لن يقدر عليه أحد، والحق يطلب منا أن نقول له: بل نقدر عليك، ونعتدى عليك بمثل ما اعتديت علينا. ويعطينا الحق حيثية ذلك فى الآية 194 من سورة البقرة:»الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».. والمقصود هو أنه إذا ما قاتلوكم فى الشهر الحرام فقاتلوهم فى الشهر الحرام، فإذا ما اعتدوا على حرمة زمان فالقصاص يكون فى زمان مثله، وإن اعتدوا فى حرمة مكان يكن القصاص بحرمة مكان مثله،وإذا كان الاعتداء بحرمة إحرام، يكون الرد بحرمة إحرام مثله؛ لأن القصاص هو أن تأخذ للمظلوم مثل ما فعل الظالم.. إن الحق سبحانه وتعالى: يريد أن يخفف وقع الأمر على المؤمنين الذين رُدوا عام الحديبية فى ذى القعدة سنة ست من الهجرة وأعادهم المشركون إلى المدينة، فاقتص الله منهم بأن أعادهم فى ذى القعدة فى العام القابل فى السنة السابعة من الهجرة، فإن كانوا قد مُنعوا فى الشهر الحرام فقد أراد الله أن يعودوا لزيارة البيت فى الشهر الحرام فى الزمان نفسه.. وقوله الحق: «والحرمات قِصَاصٌ» يقتضى منا أن نسأل: كيف يكون ذلك؟ وما هو الشيء الحرام؟ إن الشيء الحرام هو ما يُحظر هتكه، والشيء الحلال هو المُطلق والمأذون فيه. فهل يعنى ذلك أن الذى يقوم بعمل حرام نقتص منه بعمل مماثل؟

هل إذا زنى رجل بامرأة نقول له نقتص منك بالزني فيك؟ لا. إن القصاص فى الحرمات لا يكون إلا فى المأذون به وكذلك إذا سرق منى إنسان مالاً وليس لدى بينة، لكنى مقتنع بأنه هو الذى سرق هل أقتص منه بأن أسرق منه؟ لا، إن القصاص إنما يكون فى الأمر المعروف الواضح، أما الأمر المختفى فلا يمكن أن نقتص منه بمثل ما فعل.