فصاحة القرأن :تيسير البلاغة القرآنية

فصاحة القرأن :تيسير البلاغة القرآنية
فصاحة القرأن :تيسير البلاغة القرآنية

من القواعد التى تكررت معنا فى هذه المقالات أن القرآن الكريم كل لفظة فيه جاءت فى موضعها وهى أحق به من أختها، وليس كما يزعم الزاعمون أن القرآن كتاب أدبى يصلح أن يتناوله الدارسون بالنقد.


ومن الشواهد الدالة على أن القرآن كلام الله المعجز الذى جاءت فيه كل لفظة فى حاقِ موضعها، قوله تعالى فى سورة التوبة: ﴿إنما الصدقاتُ للفقراءِ والمساكينِ والعاملينَ عليها والمؤلَّفةِ قلوبُهم وفى الرقابِ والغارمينَ وفى سبيلِ الله وابنِ السبيلِ فريضةً مِن الله واللهُ عليمٌ حكيمٌ﴾.


جمعت هذه الآية مصارف الزكاة الثمانية، وجاءت المصارف الأربعة الأولى مصدَّرةً بحرف الجر اللام، ثم عدل التعبير القرآنى عن حرف اللام إلى حرف الجر «فى» فى المصارف الأربعة الثانية، فما سر هذا العدول؟ 
يقول الزمخشري: للإيذان بأنهم أرسخ فى استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن «فى» للوعاء، فنبّه على أنهم أحقّاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنة لها ومصبًّا. وذلك لما فى فكِّ الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفى فكِّ الغارمين من الغُرم؛ من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازى الفقير أو المنقطع فى الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال. وتكرير «فى» فى قوله: «وفى سبيلِ الله وابنِ السبيلِ» فيه فضلُ ترجيح لهذين على «الرقاب والغارمين».
ومن الأمثلة على دقة اللفظة القرآنية فى موطنها أيضًا قوله تعالى فى سورة المؤمنون: ﴿وإنّ الذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ عنِ الصِّراطِ لَناكِبونَ﴾.


تأمل معى هنا لفظة «ناكبون» المشتقة من الفعل «نكبَ»، يقال: «نكبَ عن الحق» أي: عدلَ عنه ومال، فإن قلتَ أخى القارئ: لماذا آثر النظم القرآنى وصف الكفار المعرضين عن صراط الهداية بكلمة (ناكبون)، على ولم يقل: حائدون، أو مائلون، وهى كلمات تؤدى المعنى المراد نفسه؟!


والسرّ فى ذلك - كما وضحه الدكتور جاسم الفهيد فى كتابه تيسير البلاغة القرآنية - أنّ كلمة (ناكبون) مُشتقة من النّكَب، والنكب: داءٌ يصيب الإبل فى مناكبها، فيكون ذلك سببًا فى أنها تغمز منه وتنحرف فى مشيتها، فهو وصفٌ مُوحٍ بالسخرية من ضلالهم عن الهدى، إذ يستحضر القلبُ مشهدَ ذلك البعير الذى اختلّ منكباه، وفقد توازنه، فأخذ يمشى مائلًا إلى أحد شقَّيه، منحرفًا عن جادة الطريق، مفارقًا بسيره المضحك العجيب قِطار الجمال. كما أنّها توحى بتكبرهم عن قبول الحق والانصياع له.