من تاريخ المحروسة.. الجبرتي يكتب عن الوباء حاصد الأرواح

الوباء حاصد الأرواح
الوباء حاصد الأرواح

لا يختلف اثنان على مصداقية الجبرتي كأحد أصدق المؤرخين الذين تناقل الجميع ما دونه من كتابات ومخطوطات باعتبارها الروايات الأكثر صدقًا وتوثيقًا للحقبة الزمنية التي عاش فيها الجبرتي ودونها بكل دقة وأمانة بحيث يمكن اعتباره شاهدًا على العصر خلال الحملة الفرنسية وما سبقها وتلاها من أحداث جسام مرت بها مصر.

وفي السطور القادمة نقلب في أوراق الجبرتي التي تناول فيها قصة المجاعة التي ضربت مصر في شهر محرم من عام 1107 هجريًا وتسببت في موت الآلاف من المصريين بعد أن تحالف معها الوباء القاتل الذي يسمى حاصد الأرواح .. صفحات حزينة من تاريخ المحروسة كتبت بدموع العيون ودماء القلوب.

 

يروي الجبرتي في الجزء الثاني من كتابه الأشهر( عجايب الآثار في التراجم والأخبار)

( في غرة المحرم سنة سبع ومائة وألف، اجتمع الفقراء والشحاذون رجالًا ومن نسا وصبيان، وطلعوا إلى القلعة، ووقفوا بحوش الديوان، وصاحوا من الجوع، فلم يجبهم أحد، فرجموا بالأحجار. 

فركب الوالي وطردهم، فنزلوا إلى الرُميْلة، ونهبوا حواصل الغلة التي بها، ووكالة القمح، وحاصل كتخدا الباشا، وكان ملآنا بالشعير والفول، وكانت هذه الحادثة ابتداء الغلا حتى بيع إردب القمح بستماية نصف فضة، والشعير بثلثماية، والفول بأربعماية وخمسين، والأرز بثمانماية نصف فضة، وأما العدس فلا يوجد، وحصل شدة عظيمة بمصر وأقاليمها، وحضرت أهالي القرى والأرياف حتى امتلأت منهم الأزقة، واشتد الكرب، حتى أكل الناس الجيف، ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من أهاليها، وخطف الفقراء الخبز من الأسواق، ومن الأفران، ومن على روس الخبازين، ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطف، وبأيديهم العصا، حتى يخبزوه بالفرن، ثم يعودون به، واستمر الأمر على ذلك إلى أن عزل علي باشا في ثامن عشر المحرم سنة سبع ومائة ألف.

وورد مسلم إسماعيل باشا من الشام، وجعل إبراهيم بك أبا شنب قائممقام، ونزل علي باشا إلى منزل أحمد كتخدا العزب المطل على بركة الفيل ، فكانت مدته أربع سنوات وثلاثة أشهر وأيامًا، ثم تولى إسماعيل باشا، وحضر من البر، وطلع إلى القلعة بالموكب على العادة في يوم الخميس سابع عشر صفر، فلما استقر في الولاية ورأى ما فيه الناس من الكرب والغلاء، أمر بجميع الفقرا والشحاذين بقراميدان، فلما اجتمعوا أمر بتوزيعهم على الأمرا والأعيان، كل إنسان على قدر حاله وقدرته، وأخذ لنفسه جانبًا، ولأعيان دولته جانبًا، وعين لهم ما يكفيهم من الخبز والطعام صباحًا ومسا، إلى أن انقضى الغلا.

وأعقب ذلك فناء عظيم، فأمر الباشا بيت المال أن يُكفِّن الفقرا والغربا، فصاروا يحملون الموتى من الطرقات ويذهبون بهم إلى مَغْسِل السلطان عند سبيل المؤمنين، إلى أن انقضى أمر الوباء، وذلك خلاف من كفنه الأغنياء، وأهل الخير من الأمرا والتجار وغيرهم، وانقضى ذلك في آخر شوال، وتوفي فيه الشيخ زين العابدين البكري، وإبراهيم بك ابن ذي الفقار أمير الحاج وغيرهما.

ولما انقضى ذلك عمل الباشا مُهِمًا عظيمًا لختان ولده إبراهيم بك، وخَتَنَ معه ألفين وثلاثماية وستة وثلاثين غلامًا من أولاد الفقرا، ورسم لكل غلام بكسوة كاملة ودينار.

وفي تلك السنة توقف النيل عن الزيادة؛ فضج الناس، وابتهلوا بالدعاء، وطلب الاستسقا، واجتمعوا على جبل الجيوشي وغيره من الأماكن المعروفة بإجابة الدعا، فاستجاب الله لهم في حادي عشر توت، وشذ ذلك من النوازل.

وقد أرخه بعضهم فقال:

النيل في مصر وافي في توت حادى وعاشر

والناس قد أرخوه لله جبر الخواطر

وفى ذلك يقول الشيخ حسن الحجازي:

لاهل مصر نكيرُ ما فوقه قط نُكرُ

نفاقهم ليس يُحصى وكذبهم ذاك سحر

تعطل النيل عامًا وكاد لم ياتِ جبر

فعند ذا الكذب منهم قد فاض ما فيه حصر

لكل يوم وفاء صبح وظهر وعصر

ويحلفون على ذا يرون ما فيه وزر

للبحر كل نهار يغدون يرقب جسر

يروون أخبار شتى عنها التحقيق يعرو

علا على الناس ضج فكاد يحصل كفر

ليأسهم واستمروا يدعون لم يستقروا

حتى أتى مِن قدير قد جل فتح ونصر

النيل أوفاه فضلا وزال بالكسر كسر

في حادي عشرٍ بتوت ذاك الوفاءُ المسر

وسبع عشر ذراع قد كان ذاك ونزر

فلم يعم الاراضى وزاد في القوت يسعر

وعند ذاك الحجازي حسن تعشاه يُسر

العام ذلك أرخ وجب في توت بحر

فروى بعض البلاد، وهبط سريعًا، فحصل الغلا، وبلغ سعر الإردب القمح مايتين وأربعين نصف فضة، والفول كذلك، والعدس مايتين نصف فضة، والشعير ماية نصف فضة، والأرز أربعماية نصف فضة، وبيع اللحم الضاني كل رطل بثلاثة أنصاف فضة، والجاموسي والبقري بنصفين، والسمن القنطار بستماية نصف فضة، والزيت بثلاثماية وخمسين، والدجاجة بثمانية أنصاف، وعلى هذا فَقِس، والبيض كل ثلاث بيضات بنصف، والرطل الشمع الدهن بثمانية أنصاف، وكثر الشحاذون في الأزقة.

وفي سنة ثمانية عشر لم يأتِ من اليمن ولا من الهند مراكب، فشح القماش الهندي وغلا البن حتى بلغ القنطار ألفين وسبعماية وخمسين فضة، وغلا الشاش، فبيع الفرحات خان بأربعماية نصف فضة، والخُنكاري بسبعماية نصف.