علاء عبد الهادى يكتب: تم البدر بدري

علاء عبد الهادى
علاء عبد الهادى

ها هو رمضان يلملم ماتبقى من أيامه ولياليه، ويستعد للرحيل،وأُصاب بأعراض اكتئاب أسميها "متلازمة ما بعد رمضان"، فما إن تنقضى أيام العيد حتى تطفأ الفوانيس التى يعلقها الشباب فى الشوارع، وترفع الزينة التى نستقبل بها هذا الشهر الكريم، وتطفأ الأنوار ويعود الناس مبكراً الى بيوتهم.. أفتقد مظاهر البهجة والفرح التى نستقبل بها نحن المصريين أفضل أيام الله.. كانت سعادتى مضاعفة بمظاهر الإفطار الجماعى الذى نُظم فى حى المطرية.. مظهر ينتصر للحياة ولقيم المودة والتراحم والجيرة الطيبة.. أكاد أجزم أن أى جار فى الشارع الذى احتضن المائدة المليونية سوف يتردد كثيراً مستقبلا فى أن يسلك سلوكا يؤذى جاره، على الأقل سوف يتردد ويستحى أن يفعل فعلته.

 لم تكن رؤية الهلال عندى تمثل وحدها دليل حلول رمضان المعظم.. بل تتحقق بعدة مظاهر، أعيش فى خريف العمر أسيرا لها.. كنا نتحلق حول شاشة التليفزيون الخشبى الجوانب ماركة تليمصر فى صالة بيتنا فى البر الشرقى لمدينة شبين الكوم.. الليلة استطلاع رؤية هلال شهر رمضان المعظم «أنا ابن جيل لا نقول رمضان من غير أن نصفه بالمعظم».

اقرأ أيضاً| ألف كتاب من «كان يا مكان» لأطفال المقطم والدوامة

ويجلس والدى كعادته يكاد يكون ملتصقا بالجهة اليمنى لشاشة التليفزيون وكأنه يطل من شرفة البيت يتابع المارة فى الشارع، وأنا واخوتى نتوزع على الكنب وعلى أرضية الصالة قبالة الشاشة التى لم تكن الألوان قد عرفت طريقا لها بعد.. نجلس ونحن نحبس أنفاسنا، ياويلة من يتحدث، حتى همساً، سيجد العقاب الفورى من أبى الحليم فى مجمل أموره إلا من يعكر صفو متابعته لأحاديث الشيخ متولى الشعراوى.

 نجلس لمتابعة البيان الشرعى الذى سيلقيه بعد قليل على الهواء مباشرة مفتى الديار المصرية «يعجبنى المسمى وأجد له صدى فى نفسى مصحوباً بقدر من الاحترام والتبجيل» حول استطلاع هلال الشهرالفضيل.. أحفظ كلام المفتى عن ظهر قلب، كنا نتململ مما نراه مقدمة ليست ضرورية.

ونريد البيان من غير مقدمات.. لكن لا محالة سيلقى مفتى الديار كلمته مبينا شرعية فريضة الصيام، من الكتاب والسنة، ولماذا فرض الله علينا الصيام كما فرضه على الأمم السابقة، وعندما يبدأ المفتى فى ذكر الحديث النبوى "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُم علَيْكُم فأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ" حتى ترتفع وتيرة دقات قلوبنا، ونحن نترقب، ويبدأ الرهان الهامس بينى وبين إخوتى: تراهنى.. بُكره رمضان ؟ وكان عادة مايخلفنى أخى الأكبر كمال رحمه الله فى توقعاته: تراهنى قرش منى قدام تعريفه منك.. رمضان بعد بكرة.

ولا يسكتنا شىء غير أن ينهرنا والدى.. يكمل المفتى بيانه: لقد تحرت دار الإفتاء المصرية عبر لجانها الشرعية المنتشرة على مستوى الجمهورية هلال رمضان، وقد ثبت شرعاً أن غدا الموافق (يبدأ بالهجرى) الموافق (يذكر الميلادى) هو الأول من رمضان، ثم يقول ديباجة التهنئة التى يتجه بها الى ملوك ورؤساء الدول الإسلامية فى مشارق الأرض ومغاربها«يحرص حرصا شديدا على ذكر ذلك» وعادة ما كانت بهجة الحضور والناس تطغى على صوت المفتى وهو يستكمل بيانه، أما اذا " غم علينا " ولم تثبت رؤية هلال رمضان فتجد الناس وكأنه قد نعى إليها خبر سيئ !

كلها أيام الله، ولكن الناس فى شوق لحلول شهر الكرم.. يتكرر نفس السيناريو ولكن تتبدل الأحوال فى استطلاع هلال شهر شوال، حيث يتعجل الصائمون حلول العيد، ولكن الناس يحزنون" اذا غُم عليهم ولم تثبت رؤية الهلال،وساعتها فهم مطالبون باستكمال عدة رمضان ثلاثين يوما.. اليوم الأخير يكون صعباً، نأكل فيه ماتبقى من وفرة أكل فى الأيام السابقة، وهل يمكن أن يكون رمضان ضيفاً ثقيلاً؟!  

وفى معجم المعانى الجامع غُمَّ عَلَيْهِ الْهِلاَلُ أى حَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ غَيْمٌ «أو لعدم ظهوره أصلا فى صفحة الأفق، أى لم يولد بعد، أو ولد واختفى قبل الغروب»، ونقول غُمَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ أى خَفِيَ، ومن هنا جاء اشتقاق كلمة  اِستُغُمّاية: وهى اسم لعبة شعبيّة كنا نلعبها ونحن صغاراً، حيث يضع أحدهم غِمامة على عينيه ويحاول إمساك باقى زملائه.

أو يغطى احدهم عينيه بكفى يده ويسندهما الى جدار حائط ويترك الفرصة لزملائه يتخفون وهنا تظهر مهارته فى مطاردتهم والإمساك به من قبل أن يعودوا الى لمس نفس مكان وقوفه ايذانا بنجاتهم.. فى سنة لا أتذكرها ولكنها كانت فى شرخ الشباب، نام المصريون على غير هدى لا يعرفون إن كان غداً هو المتمم لرمضان، أو أنه أول ايام عيد الفطر.

وكانت مشكلة كبيرة، وحتى وقت متأخر لم يصدر بيان وكانت النتيجة أن صام البعض وأفطر البعض الآخر وعادة ماكانت الجماعات الإسلامية تتخذها فرصة لكى تخالف بيان دار الإفتاء.. ووصل الخلاف الى أن هناك من صام رمضان 31 يوماً، عندما بدأ صيام رمضان فى مصر التى استهلت رمضان قبل السعودية بيوم.

ومع أنها تشترك معنا فى جزء من الليل، وعندما ذهب المعتمرون لآداء عمرة العشر الأواخر اكتشفوا أنهم مطالبون بالصوم 31 يوماً.. أنه حال العرب فى كل وقت وحين.

مع ثبوت هلال رمضان يظهر عم سيد بائع الفول والبليلة عصراً بعربته التى كان يدفعها بحمار صغير ثم استبدلها بعربة أصغر وراح يدفعها هو بنفسه ويساعده ابنه المعاق بدفعها من الخلف، يظهر عم سيد مرتديا مريلة بيضاء نظيفة منادياً بصوته الجهورى: " فووول.. بلييييلة.. قشطة .. تعطينى أمى الصحن وتدس فى يدى قرش صاغ.. قول له يتوصى.. أوع عم سيد يضحك عليك يا علاء!

بجوار عم سيد، يظهر عم سيد آخر يكبره فى السن،عم سيد هذا ينادى على الزبادى والمهلبية يدفع أمامه فاترينة زجاج محمولة على عجلة، يرتدى هو الآخر مريلة بيضاء فوق جلابية بيضاء، ينادى " لبن زباااادى.. قشطة ".. يبيع الزبادى فى فخارة.. يسلم الجديد لزبائنه  ويستلم فوارغ الأمس، ويحرص على أن يغطى بضاعته بشاش أبيض شاهق. وفى يده منشة يذب بها الذباب.. صوت عم سيد واهن ضعيف، ولكن الناس تحب ابتسامته التى تملأ وجهه رغم أن فمه بلا سنة واحدة.

وبظهور عم أبو روءة (دلع اسم ابنته رقية) وفوق رأسه أقفاص العيش البلدى تثبت رؤية الهلال، كان ينادى على العيش بصوته الأجش، كان كفيفا ممتليئاً قوى البنية، يهتدى فى الطرقات بوضع يده على كتف ابنته رقية.. كفيف آخر ظهوره كان مرتبطاً بليل رمضان يمسك فى يده قفة بها فول سودانى  مملح بقشره، كنا ونحن أطفالاً نحرص على الشراء منه يجلس القرفصاء ويضع ذراعيه فى القفة لكى يضمن ألا يسرق الأطفال الأشقياء منه السودانى من دون أن يشعر.

وتوزعنا أمى لتأدية مهام رمضان الطارئة، علاء يأخد "بوابور" الجاز ويروح لعم حنفى الذى يقوم باصلاح بوابير الجاز، أتذمر لأن أمى تختارنى لأداء أصعب مهمة، وهى الوقوف فى طابور طويل أمام عم حنفى، سليط اللسان وبالذات مع الأولاد الصغار، أذهب له مرغماً لكى أصلح بابور الجاز لأنه " بينفس " لماذا تركناه شهوراً لكى نصلحه قبل رمضان بيوم.

ولماذا نصلحه أصلا إذا كنا قد اشترينا بوتجازاً بأربع شعلات ؟ ولماذا تختارنى أمى بالذات لهذه المهمة وأنا أكره رائحة الجاز الى حد أنها قد تدفعنى الى ترك الطعام وافراغ ما فى جوفى؟ كانت أمى تؤثر أخى الأكبر بالذهاب الى نصبة صناعة الكنافة والقطايف التى يقيمها محل " ابو باشا " الحلوانى، ومنها يعرج أخى الى معمل الطرشى لكى يؤمن حاجة البيت من المخللات..وقبل كل هؤلاء يظهر المسحراتى فى يده علبة صاج فيها "بوية" عادة ما تكون زرقاء أو حمراء وبفرشاة فى يده يجدد قاعدة بيانات من سيقوم بايقاظهم للسحور من أهل البيت بالكتابة على واجهة الباب أو البلكونة.

تم البدر بدرى والأيام بتجرى

والله لسه بدرى والله يا شهر الصيام