بقلم الراحل د. أحمد خالد توفيق: ناس.. وناس !

د. أحمد خالد توفيق
د. أحمد خالد توفيق

الممرضات يهرعن فى المستشفى ليوزعن العلاج على المرضى فى الصباح الباكر، اصحى يا عم حمزة موعد العلاج، أصحى يا حاجة فتحية موعد الحقنة، يعرفن أنهن لن يتلقين تقديرًا ماديًا أو معنويًا، دائمًا يتهمهم الأطباء وأهل المرضى بالإهمال وانعدام الضمير، وبرغم هذا يعملن كالنحل لأنهن لا يعرفن لأنفسهن دورًا آخر، ممرضة المختبر تهرع حاملة المحقن وأنابيب الاختبار لأخذ العينات سريعًا وإلا لرفض فنى المختبر أن يأخذها والطبيب سوف يعاقبها، وعامل القسم شعبان قام مع العاملة بنقل أسطوانة الأوكسجين الجديدة، ونقل صناديق الدواء الثقيلة للطابق الثالث، وكان المريض ينتظره فى الحمام ليجرى له حقنة شرجية، صحيح أن أهل المريض يعطونه ثلاثة جنيهات مع كل حقنة، لكن يحدث كثيرًا أن يكون المريض وحيدًا ولا يعى ما يدور حوله بسبب الغيبوبة الكبدية، لكن شعبان سيفعل هذا لأنه عمله ببساطة. 

فى نفس الوقت، فى ذلك الفندق الفاخر بسويسرا، يجلس أعضاء مهرجان السرديات العاشر يلتهمون طعام الإفطار وهم يطلون على بحيرة لوزان، ما زال بعضهم يترنح من الخمر التى شربها من المينى بار ليلاً، لكنهم يعرفون قيمتهم جيدًا ولا يُخدعون بسهولة، إدارة المهرجان سوف تتحمل النفقات كلها، شاملة الفندق والسفر بالدرجة الأولى والمكالمات الدولية من الغرف، مهمتهم ليست يسيرة، عليهم أن يؤلفوا خارطة تمزج بين المدينة المحلية والكوزمو بوليتانية، مع حل مشكلة الحضارة من وجهة النظر الضيقة النابعة من ثالوث الأرض والسماء والتراب، كان الناقد سيد الششماوى من مصر ينوى إلقاء ورقة بحثية عن مرجعية السرد فى أدب سيد أبو دومة وعلاقته ببروست، هنا تبرز أهمية الميتاسرد والبنية الابستمولوجية التى تعبر عن الاغتراب، سوف يدخلون فى مناقشات مرهقة حتى موعد الغداء ثم يخلدون للراحة استعدادًا للمعركة المسائية بين الصقالبة وهواة التجديد، المحكى الأركيولوجى قد يتباين مع الميتاسرد وعلاقته بالآخر، هذه نقطة خطرة سوف يفجرونها الليلة وبعدها يعود كل منهم لغرفته ليعاقر الخمر كى يزيل عناء اليوم، أو يريح إرهاقه الفكرى بين أحضان حورية سويسرية.

غدًا سوف تلقى الشاعرة نيروز القرندهيلى قصيدتها «أثباج الحيازيم» وهى ثورة جديدة فى الميتاسرد، سيناقش الموجودون إرهاصات الحداثة فى شعرها، بعدها سيطير الجميع ليقابلوا بعضهم فى مهرجان أدبى آخر فى الريفييرا الفرنسية، هؤلاء القوم يشبهون سحرة القبيلة ورجال الدين النصابين، لا يجيدون شيئًا ومن ثم يصنعون مهنة لا وجود لها ويكسبون منها الكثير!

لكن الممرضات ما زلن يوزعن العلاج، وشعبان ما زال يكنس الأرض، والفنى فى المختبر ما زال يفحص العينات ويشخط فى الممرضات، سوف يستمر هذا إلى يوم القيامة، وعندما يقف الجميع أمام العرش، سيقول العامل شعبان فى فخر: «يا رب أنا عملت حقنًا شرجية لنصف مليون مريض كبد، وحملت الأدوية على كتفى ثلاثين عاما، ونقلت ألفى مريض للأشعة و. و. و. مقابل ملاليم»، وستقول الممرضة : «يا رب، أنا أعطيت العلاج لربع مليون مريض، وأخذت عينات دم وبول من نصف هذا العدد»، ويقول الناقد سيد الششماوى: «يا رب ناقشنا علاقة الميتاسرد بالمحكي الأركيولوجي، تحدثنا عن المدينة الكوزموبوليتانية، وناقشنا أشعار نيروز القرندهيلى».

◄ ترى من الذى قدم خدمات أعظم للبشرية ؟ 

وهل صارت الإنسانية أفضل بالميتاسرد؟!

◄ كنوز: نعيد نشر هذا المقال بمناسبة الذكرى الخامسة لرحيل د.أحمد خالد توفيق الذى سار فى جنازته أكثر من مليون شاب من كافة التيارات والاتجاهات فى 2 أبريل 2018.