فكرى حسن يكتب: الأدب المصري القديم وثقافتنا المعاصرة

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

مع غزارة وعظمة الأدب المصرى القديم واهتمام المتخصصين فى الحضارة المصرية به، فهو لا يحظى بالمكانة التى تليق به عند الأدباء المصريين المعاصرين، ولا عند عامة الشعب وهو أمر يدعو للتأمل والتحليل. وقد يكون ذلك نتيجة انقطاع الصلة مع الأدب المصرى القديم بعدما اندثرت اللغة المصرية القديمة والتى بقيت آثارها فى اللغة القبطية والعامية المصرية.

وربما كان نتيجة للتوجه القومى الأوروبى للحضارات اليونانية والرومانية باعتبارها المصدر والأساس للحضارة الأوروبية الحديثة، واعتماد الأدباء المصريين على الأدب الأوروبى الحديث كمرجعية لإبداعاتهم.

ومع ذلك، اهتم عدد من الأدباء بالأساطير التى تحيط بإيزيس كما فى المسرحية التى كتبها «لويس عوض» وبعض روايات «نجيب محفوظ» والفلاح الفصيح ل «بهاء جاهين» وربما كان احد الاسباب هو غياب الاهتمام الكافى عند المتخصصين فى الحضارة المصرية القديمة من المصريين بترجمة النصوص فى صياغة أدبية واتاحتها للمثقفين وعامة الشعب.

ومن الأعمال القليلة التى اهتمت بالأدب المصرى القديم ما قدمه «سليم حسن» وكان قد أصدر بوصفه من علماء المصريات كتاباً عن الأدب المصرى القديم فى عام (1945) ضمن موسوعته عن مصر القديمة والتى اعيد اصدارها فى مطبوعات كتاب اليوم وفى عام (1990)، كما اصدر «لويس بقطر» المترجم كتاباً بعنوان «تأملات فى الأدب المصرى القديم» وفى عام (1995) كما ترجم «ماهر جويجاتى» كتاب «الأدب المصرى القديم» لمؤلفه «كلير لالويت» وفى كتاب «الجزيرة المسحورة» قدم «منير مجلى» عام (1972) نصوصاً من الأدب المصرى القديم.

ومؤخراً قدم الكاتب والباحث «طلعت رضوان» كتاباً عن الأدب المصرى القديم ما بين الأساطير وفلسفة الحكماء استعرض فيه القصص ونصوص الحكمة والأغانى والأناشيد (روافد 2021) كما أصدر «حسن صابر» الذى سبق أن ترجم «متون الأهرام» فى عام (2022) «مقدمة فى الأدب المصرى القديم» (دار الثقافة الجديدة) يشكل مدخل نقدى للنصوص الأدبية المصرية القديمة يضعها فى سياقها الثقافى والمجتمعى مع ترجمة للعديد من النصوص.

ونتعرض فى هذا المقال الى عدة قضايا تتعلق بما يمكن أن يقدمه الأدب المصرى القديم لثقافتنا المعاصرة كما نقدم نقاشا لا يصح اغفاله حول اشكاليات الترجمة الى العربية لنصوص الأدب المصرى القديم وخاصة فى مجال الشعر.

وفى المحل الأول، نرى أن أهمية الأدب المصرى القديم لا تكمن فحسب فى اشكاله الأدبية أو الابداعية أو حتى دلالاتها الاجتماعية، ولكنها تكمن أيضاً فى التحرى عن صيرورة (بمعنى التحول مع الزمن) هذه الأعمال الأدبية وكيف استمرت اصدائها أو آثارها عبر العصور. مما يقودنا إلى صيرورة ثقافة الحضارة المصرية القديمة على وجه العموم والتى أظن أن منها ما استمر على الصعيد الشعبى فى أمثال وحكم ومواويل وقيم المصريين فى الريف والذى يتهدد حالياً بالاندثار نتيجة للمتغيرات التى تعصف الأن بالثقافة المصرية الشعبية المتجذرة من أزمان سحيقة نتيجة للتحديث الأوروبى من ناحية والمد الإسلامى المتشدد من ناحية أخري. ولحسن الحظ فهناك مراجع وسجلات للأدب الشعبى المعاصر منها ما أورده «رشدى صالح» فى كتابه «الأدب الشعبي» عام (1955) وما جمعه «أحمد شوقى عبد الحكيم» فى «أدب الفلاحين» (دار النشر المتحدة 1957).

وكما أن للأدب المصرى القديم علاقة وثيقة بدورها الحضارى الإنسانى الذى يمكن أن نقرأ آثاره فى ديانات الشرق الأوسط وخاصة المسيحية والإسلامية وما تنادى به هاتان الديانتان فى مبادئها الأساسية من فضائل الأخلاق وتراحم اجتماعى ومساواة وعدالة ومحبة.

وكما يمكن أن نتبع صيرورته فى الحضارة اليونانية وخاصة فى مجال الفلسفة التى استدعت الكثير من نصوص الحكمة والاهتمام بالمعرفة والتعليم والكتابة وأصول الحكم والاحسان والحق والعدالة والصدق والجمال فى مصر القديمة كما أن هناك علاقة وثيقة بين مفهوم الدولة عند المصريين القدماء كما نقله «بلوتارك» وغيره من العصر اليونانى والرومانى وظهور تنظيم الدولة الحديثة فى ألمانيا.

كما يضطرنا البحث فى الأدب المصرى القديم التعرض لإشكاليات الترجمة العويصة وخاصة لأنها ليست من لغة إلى أخرى ولكن إلى لغة من مجموعة لغات افروآسيويه اندثرت ومن الصعب التكهن بعلاقة الكتابة باللغة المنطوقة وهو أمر جليل خاصة فى الكتابات الشعرية التى تستمد خصوصيتها من الإيقاع والتنغيم الموسيقى المنطوق.

ومن أخطر الأمور علاقة النص بالمعنى أو المعانى المتضمنة والتى يصعب الإمساك بها كما ما كان متضمناً فى النص الأصلى واختلاف المعنى عن اختيار واحد من المرادفات واهمال السياق الأدبى والاجتماعى والسياسى وتركيب الجمل والاستعارات والصور المجازية، كما أن هناك اشكالية تتعلق بدور الترجمات الاكاديمية العلمية بالمقارنة بالترجمات أو الصياغات الادبية. وتكافئ هذه الترجمات العلمية من كل اشكاليات الترجمة مع ما تقتضيه الأمانة العلمية. من الحفاظ على الفجوات الموجودة فى النص والثقافة الاكاديمية المتوارثة.

وقد تعرضت لبعض من هذا فى مقدمة كتابى  «أشعار الحب فى مصر القديمة» كما تتعرض له د. فايزة هيكل المتخصصة فى اللغة المصرية القديمة مؤكدة أن الثقافة الاكاديمية فى علم اللغة المصرية القديمة نتاج ثقافة أوروبية تختلف عن ثقافة المصريين القدماء.

وكما تختلف لغاتهم (الألمانية والإنجليزية والفرنسية) عن اللغات الافرواسيوية التى كان يطلق عليها «سامية – حامية» (من وجهة نظر توراتية وعنصرية) والتى تشتمل على حوالى 300 لغة تنتشر فى شمال افريقيا وغرب اسيا والقرن الافريقى وأغلبها انتشاراً حالياً هى العربية.

ولما كانت العربية هى الأقرب للغة المصرية القديمة من اللغات الأوروبية فينبغى، كما ترى فايزة هيكل وهانى رشوان ومن قبلهما على فهمى خشيم و«أحمد كمال باشا»، أن يقوم الباحثون بالرجوع إلى أدبيات اللغة العربية فى تفسير وتحقيق النصوص الأدبية فى مصر القديمة. وربما كان مستحباً أيضاً الرجوع إلى أدبيات العبرية والاكادية لما لهما من صلة.

وكما أكدت «د. فايزة هيكل فى مقالها» إشكاليات ترجمة النصوص الأدبية فى مصر القديمة» على صعوبة الترجمة لأسباب عديدة منها ما ذكرناه ومنها أيضاً أن الكاتب قد يختار علامات مختلفة ما دامت تتشابه فى نطقها، كما أكدت على ضرورة الالتفات إلى تشابه النطق أو العلامات لكلمتين مختلفتين (الجناس) وهو شائع فى المواويل الشعبية المصرية واللغة العربية.

ومن الاشكاليات الاخرى استخدام كلمات متشابهة فى النطق لتأكيد المعنى وادخال عنصر موسيقى جذاب ومؤثر. كما أن هناك أحيانا كلمات وحيدة لا يعرف لها معنى (hapax) ويواجه المترجم أيضاً صعوبة فهم التشبيهات (الاستعارة والمجاز metphor ) خاصة إذا كانت مرتبطة بالبيئة المصرية القديمة ونمط الحياة والمعيشة.

ويمكننا أن نضيف هنا أيضاً الاصطلاحات والامثال الدارجة ( idioms ) التى يصعب أو يستحيل ترجمتها بدون شرح إذا ما تم تفسيرها، والكناية ( metonomy ) وهى ما يتكلم به الإنسان ويقصد به غيره.وبالإضافة إلى ذلك فإن لكل كلمة مجالا دلالا تتعدد فى المعنى الحرفى والفحوى المباشرة. فعلى سبيل المثال عندما نقول «صباح الفل أو صباح الورد» فإننا نستدعى مجال الزهور والبهجة والبساتين والتنزه.

وتقودنا اشكاليات الترجمة إلى الهرمنيوطيقا Hermeneutice وهو المنهج الفلسفى الذى يتعرض لتفسير أو تأويل أو فهم النصوص وله تطبيقاته فى مجال النصوص المقدسة. وتتعرض الهرمنيوطيقا لإشكاليات محاولة فهم النص وتوضيح المقصود فى شفراته والعلاقة بين مصدر النص ومن يقوم بشرحه أو تفسيره.

وقد يبحث البعض عن حقيقة ما يعنيه النص، وهو امر محفوف بالمخاطر الابستمولوجية (المعرفية) لأنه من المستحيل تعدى النص والنفاذ إلى ما يدور فى عقل المؤلف، على فرض أن هذا هو بالفعل حقيقة ما يعنيه النص.

وربما علينا أن نرضى بأسس للترجمة يتم الاتفاق عليها لتكون نبراساً لمن يتصدى للترجمة، وقد تشمل هذه الأسس :1) الحفاظ على جماليات النص الأدبي،2) محاولة النفاذ إلى المعنى المراوغ من خلال خصوصيات ومعالم ومجالات الصياغات الدبية والبلاغية فى اللغة الأصلية ونقلها غير مكافئ من المرادفات المتاحة وفى صياغات مألوفة فى لغة الترجمة حتى يتاح للقارى أن يدلف إلى نكهة العمل الأدبى الأصلى، و3) التعبير فى لغة الترجمة على الاحاسيس العاطفية والمشاعر التى يحركها فينا النص الأصلى، خاصة فى مجال الشعر.

وقد يتضح لنا كيف يمكن أن نلتزم بهذه الأسس للتوصل إلى ترجمة مقبولة وسائغة إذا ما أخترنا اشعار الحب من الدول الحديثة فى عهد الرعامسة، التى قدمت محاولة لنقلها الى العربية فى أسلوب شعري. وكانت د.فايزة هيكل قد تعرضت لصعوبة ترجمة اشعار الحب فى مصر القديمة فى مقالها «أفكار وتأملات حول أشعار الحب فى مصر القديمة» (1997) ومن النقاط التى تعرضت لها تصنيف هذه الاشعار وهل كانت للإمتاع والاستمتاع، وإذا ما كانت كذلك فلماذا يتكرر فيها ذكر الالهات والالهة.، فهل هى نصوص دينية؟ وتعزى «هيكل» الإشارات الدينية الى تغلغل الخطاب الدينى فى أدبيات المصريين حتى فى المجالات اللادنيوية، كما هو الحال فى مصر الحديثة.

كما تتوقف «هيكل» عند التلاعب بالألفاظ والثورية Pun وهو أمر شائع فى اللغة المصرية الحديثة والقديمة على حد سواء، وعلى الدلالات الحسية والدينويه من خلال تفسير العبارات المجازية والتشبيهات.

اقرأ ايضا | عوض الغباوي يكتب: مصر في أدب الرحلة خلال العصر العثماني

ويعلق «سليم حسن» على أشعار الحب باعتبارها أغانى غزلية قصيرة يتناوب الكلام فيها الأخ والأخت (بمعنى المحبوبة والمحب). غالباً ما كانت تغنى بمصاحبة الموسيقى. وتتبتدى فى هذه الاشعار مباهج الطبيعة والاشجار والطيور والأزهار ومياه النيل. ويورد «سليم حسن» ( من اوستكا القاهرة 3 ) احدى هذه الاشعار كما يلى:

«العذراء تتكلم: ..... إلهى أخى إنه لجميل أن أذهب إلى ( البركة ) لأستحم على مرأى منك حتى ترى جمالى فى ثوبى الهفهاف المصنوع من أثمن كتان ملكى، حينما يكون مبللاً .... وانى أنزل معك فى الماء وأخرج منه ثانية إليك بسمكة حمراء جميلة موضوعة على أصابعى .... تعالى وأنظر إلى.

وبالإضافة إلى هذه الترجمة الحرفية عن الأصل المصرى القديم (من خلال ترجمة اكاديمية من النص الأصلي)، تورد « د. فايزة هيكل « ثلاث ترجمات بالإنجليزية لهذه القصيدة توضح اختلافات بينه فى الصياغة وبعض الاوصاف، تدعونا الى تأمل نجاح هذه الترجمات فى نقل الحس الجمالى، والمعنى، والمشاعر التى يتضمنه النص الأصلى.

 فنجد على سبيل المثال من يترجم ما ترتديه المحبة (الأخت) على أنه robe وفى الترجمة الثانية tunic وفى suit swim ومن الواضح أن الترجمة الأخيرة (مايوه، لباس البحر) لا تناسب أو تليق بالسياق الخاص بمصر القديمة، ويمكن أن تترجم tunic إلى تنورة أو غلاله أو سترة أو قشابه أو رداء فى اللغة العربية، يمكن أن تترجم robe إلى حله، جلباب، رداء، ثوب، كما يوصف هذا الرداء أو الثوب على أنه من كتان ملكى فاخر، ويتضح أن اختيار كلمة أو عبارة يجب أن ينقل المعنى الظاهر من خلال واحد من المرادفات الذى يتسق ويتناغم مع باقى النص المترجم في اسلوب شعرى جمالى يثير فى المتلقى الأحاسيس والمشاعر مع الإيحاء والحفاظ على سياق البيئة الطبيعية والثقافة الأدبية والمجتمعية والسياسية الذى تشَكَل النص من رحمه.

وفى هذا الصدد، تعلق «هيكل» أن النص الأصلى يشير ال أن الفتاة (الشابة، الصبية) ترغب أو تسعى لأن يراها من تحبه والرداء المبلل ملتصقاً بجسمها عندما تخرج من الماء، وقدحاولت التعبير عن هذه الصورة فى النص الأصلى عندما نقلت هذه القصيدة العربية كما يلى:

يا حبيبى

ما أحلى أن نذهب معاً

إلى شاطئ البحيرة

لأستحم امام عينيك

ودونما استعجال

ستقودنى خطواتى نحو الماء

وستتابعنى عيناك

وعندما تشير إلى

وأخرج ملبية لرغبتك

وبين اصابعى سمكة حمراء

والثوب الشفاف ملتصق بجسدى

سترى بعينيك جمالى

فماذا تنتظر؟

تعالى

لتملأ ناظريك بجمالى

وهنا يجب أن نأخذ فى الاعتبار أن هناك ترجمات أكاديمية متعددة ومتباينة لنفس النص عن اللغة المصرية القديمة وهى بالضرورة مادة علمية أولية للتحقيق والتدقيق والبحث لأنها تتضارب حتى فى المعانى التى تقدمها لنا، ولكن معظم اذ لم تكن كل هذه الترجمات بالضرورة، بالتزامها الأكاديمى من ناحية المعنى، مخلة بجماليات النص ودفقاته العاطفية، وهو ما يتطلب صياغة شعرية فى قالب يتناسب ويؤام الحالة الشعرية الأصلية للنص واقربها فى العربية الشعر الحر أو قصيدة النثر علماً بأننا لا نعرف بالتحديد أنماط وقوالب الشعر المصرى القديم أو الإيقاع والتنغيم الموسيقى للقصائد ولا حتى كيف تنطق الكلمات لغياب حروف العلة.

ولذلك، فيجب أن نعترف أن الترجمات (الحرفية) عن المصرية القديمة منقوصة، ومشوهه، ومضللة، ولذلك ينبغى أن تعاد صياغة النصوص المترجمة حرفيا إلى نصوص أدبية من خلال التنقيب فى نصوص الترجمات الأكاديمية بهوامشها وفجواتها لنستخلص منها جوهرها ومعالمها الأدبية والثقافية الأساسية حتي يتسنى اعداد صياغة تعلى من متعة النص الأدبى بما يتميز به من جماليات وانفعالات دون الاخلال بالمعنى العام والسياق المجتمعى والثقافى بصورة وتشبيهاته واستعاراته ومجازاته وكنايته، التى يمكننا من خلالها أن ننصت عبر آلاف السنين التى تفصلنا عن صوت الهارب والناى، وأن نتمتع بالنظر إلى براعم اللوتس الطافية على سطح الماء، ونتجول فى الحقول نستظل بأشجار الجميز الفارهة ونسبح بخيالنا مع قارب يعبر النهر يحمل حبيبا فى شوق لمحبوبته على الشاطئ الآخر.