د. طارق سويلم: القاهرة مدينة متجددة وقادرة على الصمود

د. طارق سويلم
د. طارق سويلم

ولد طارق سويلم فى الإسكندرية، ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة، نشأ على حب الآثار منذ طفولته، فوالده عالم المصريات الشهير الدكتور نبيل سويلم، والذى طاف برفقته وسافر للكثير من الأماكن الأثرية والمدن داخل مصر، بحثًا عن تراث القدماء، مازال يتذكر حتى الآن رحلاتهما لمنطقة سقارة، وأبوصير، وتل العمارنة، وتونا الجبل، والِأشمونين، وتل بسطا، ومندس، «كنت طفلًا صغيرًا، لكننى كنت معتزًا بما أقوم به برفقة والدى، إذ أدركت أن ما أقوم به لا يفعله الكثيرون ممن هم فى عمرى» خاضا سويًا الكثير من المغامرات، وتعلم أيضا حب التصوير؛ فبدأ تعلقه بالآثار خلال فترة مبكرة جدًا من حياته.

أحب سويلم والذى يشغل حاليًا منصب أستاذ الفن والعمارة الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة فى قطر، القاهرة، كانت بالنسبة إليه «نداهة». رغم سفره الدائم ورحلاته المتعددة حول العالم، فلم تبهره مدينة أخرى بقدرها «القاهرة لا تغادرنى أبدًا، أشعر دائمًا أنها تسكن قلبى وتجرى مجرى الدم بداخلى، دومًا قادرة على إبهارى»

فترة التحولات

تخرج سويلم فى كلية السياحة والفنادق، وتحديدًا قسم الإرشاد السياحي. كان طريقه شبه معروف بالنسبة للمحيطين به، كانوا ينظرون إليه باعتباره امتدادًا لوالده فى علم المصريات، وقد ساهمت الكلية إلى حد كبير فى هذا الأمر بسبب طبيعة المواد بداخلها «الكلية ركزت على علم المصريات، لا الآثار الإسلامية، بالإضافة لسفرى الدائم مع والدى لرؤية الآثار المصرية القديمة».

حدث التحول الكبير فى حياة سويلم، خلال السنة الثالثة من دراسته فى الكلية، وتحديدًا عندما بدأ دراسة مادة عن الآثار الإسلامية «درستها لنا الأستاذة شهيرة محرز، وتوطدت العلاقة بيننا، وبدأت أستكشف الآثار الإسلامية معها، شعرت أننى عثرت على مصر أخرى مختلفة عن مصر الفرعونية، التى عرفتها منذ طفولتى، وخلال هذه الفترة لم يكن يهتم بها الكثيرون أصلًا، وكانت مهملة لحد كبير، وأغلب مبانيها وجدناها فى حالة سيئة جدًا، وقد بدأت برفقة زملائى فى الكلية التجول داخل مواقع الآثار الإسلامية، أثناء إجازة نهاية الأسبوع؛ لذلك تعلقنا بالمدينة، وبشوارعها، ومقاهيها منذ تلك الفترة».

دراسة الآثار الإسلامية

رغم تفوقه الدراسى، لكنه لم يفضل أن يصبح معيدًا بكلية السياحة والفنادق، فقد اتخذ بالفعل خطوات تعيينه داخل الكلية بالفعل، لكنه سرعان ما قرر الاعتذار فجأة لعميد الكلية «أردت تقديم شيء آخر، لم أكن أريد هذا المسار فتركته بكل بساطة»، قرر سويلم أخذ نصيحة شهيرة محرز على محمل الجد، إذ نصحته بالالتحاق بالجامعة الأمريكية، لدراسة الماجستير هناك، فقد أدركت رغبته فى العمل بمجال الإرشاد السياحى، لكنها نصحته بضرورة ثقل موهبته من خلال الدراسة الأكاديمية «استشرت والدى، وقلت له: أريد دراسة الماجستير فى الجامعة الأمريكية وتحديدًا الآثار الإسلامية، ووجدته مرحبًا ويدعمنى فى هذا القرار، فرغم تخصصه فى علم المصريات، لكنه دعمنى فى الخطوة، لأنه لمس حبى للآثار الإسلامية، ولم يكن يريد التصاق اسمى باسمه فى مجال الآثار المصرية، أراد أن يحررنى من الأمر تمامًا، كى لا ينظر لمجهودى على أنه جاء عن طريق «الواسطة» كما يحدث فى معظم المجالات؛ لم يرد أن يلتصق بى الأمر طوال حياتى، دعمنى فى قرارى هذا لأنه أدرك أننى سأحقق استقلالى عنه، بجانب إدراكه أن الآثار الإسلامية هى المجال الذى أحبه».

أوضاع سياسية مضطربة

التحق سويلم بالجامعة الأمريكية، واستمرت العلاقة طويلًا، فقد دخل الجامعة عام 1979 وأنهى دراسته للماجستير عام 1986 «كنت أعمل بالتوازى مع إعدادى لرسالة الماجستير، فى الإرشاد السياحى، أتذكر أن سيناء وسانت كاترين، فتحتا للمصريين خلال تلك الفترة بعد أن سلمتهما إسرائيل بشكل كامل، وقد تحمست لزيارة سيناء والتعرف عليها، فالإرشاد السياحى بالنسبة إليّ لم يكن مجرد عمل، بل مغامرات أحببتها، وأثناء تلك الفترة تحديدًا كانت السياحة تتأثر دومًا بسبب الأوضاع السياسية المضطربة؛ لذلك كنت أستغل فترة التوقف، وأركز على الرسالة، واخترت العمل على جامع المؤيد شيخ، وقد أتاحت لى مكتبة الجامعة الكثير من الكتب التى ربما لم تتوافر فى أى مكتبة أخرى داخل الجامعات المصرية، ووقتها تعرفت على أستاذى جورج سكانلون، أتذكر أننى كنت أنتظر محاضرته لمدة أسبوع كامل، أفكر فيما يطرحه علينا من أفكار، كان شخصًا عبقريًا، وتعلمت منه فكرة التدقيق فى التفاصيل، وتقديم التحليلات، واستفدت أيضًا من أستاذى برنارد أوكين، وبالتوازى درست الفنون الإسلامية مع الدكتورة دوريس أبوسيف، وبشكل عام فدراستى داخل الجامعة الأمريكية كانت مختلفة تمامًا عن دراستى السابقة لأننى تعلمت الكثير، وفهمت الكثير من الأمور التى كانت غائبة عنى».

ليلى إبراهيم

تعلق الدكتور طارق سويلم بعالمة الآثار الأستاذة ليلى إبراهيم كحال معظم أبناء جيله، إذ لعبت الدور الأكبر فى حياته «ليلى شخصية فريدة صعب تكرارها، كانت ابنة ل على باشا إبراهيم، والذى أحب اقتناء الآثار والتحف، وكانت ليلى مسئولة عن أرشيف مجموعته الأثرية، كانت لها رسالة واضحة، إذ أدركت أن دراسة الآثار الإسلامية، تتم عن طريق الأجانب؛ لذلك أرادت أن نتولى هذه المسئولية وشجعتنا، ومن وجهة نظرى نجحت فى تحقيق ما أرادته خلال حياتها، ومن هنا تولدت صداقتى مع المؤرخ الدكتور ناصر الربَّاط.

والذى أصبح صديقًا لنا جميعًا، وكانت لها أيضًا الفضل فى معرفتى ومن ثم زواجى من الأستاذة هند نديم، ونفس الأمر بالنسبة لناصر الربَّاط وزوجته، أشعر دائمًا أننا عائلة، ولا أعتقد أن أحداً قادر على أخذ مكانه بداخلي؛ هذه العائلة والصداقات، تكونت ونشأت بفضل ليلى إبراهيم التى أفتقدها كثيرًا، فقد عاملتنى كابن لها، وعرفتنى على القاهرة كمدينة».

مزحة جرابار!

بعد انتهائه من إعداد رسالة الماجستير، جاءته الفرصة للالتحاق بجامعة هارفارد، لدراسة الدكتوراة كان الأمر مجرد صدفة «لم أكن أتوقع قبولى فى هارفارد، الأمر كله حدث صدفة، وهناك درست على يد المؤرخ الكبير أوليج جرابار، كانت له مدرسة خاصة فى التحليل وتقديم التساؤلات، فهو شخص فريد واستثنائى من وجهة نظرى، وجميع طلابه أصبحوا عباقرة فيما بعد، لكن بشكل عام لم أحب بيئة هارفارد، ولم أحب أمريكا أصلًا، رغم عملى لسنوات مع الأمريكان، ووقتها كنت فى الثلاثين من عمرى، وأمورى أيضًا كانت مستقرة فى مصر، لديّ وظيفة وعائلة وحياة بأكملها، وتحدثت حينها مع جرابار عن عنوان الأطروحة، وهنا نصحنى، بدراسة جامع ابن طولون».

وظن سويلم أن جرابار يمزح، كان يدرك تمامًا أن عالم الآثار كريسول، قدم دراسات وكتابات مستفيضة عن مسجد ابن طولون «طلب منى التفكير والتحليل فى قصة بناء المسجد والبحث داخل الحكايات والقصص التى دارت حوله؛ ومن ثم الربط بين الحالة التاريخية، والسياسية والاجتماعية، والاقتصادية، التى أدت لاتخاذ بعض القرارات الخاصة بالمسجد فى نهاية الأمر، لكننى تركت أمريكا فى تلك الفترة، وعدت إلى مصر. لم أرغب فى الاستمرار هناك، وعملت فى السياحة، توازيًا مع إعدادى لرسالة الدكتوراة، كان الأمر تحديًا بالنسبة إليّ، لأنه ليس من السهل القيام بدراسة مبنى أثرى قام كريسول بدراسته، وهنا بدأت دراسة تاريخ القطائع، ثم العناصر المعمارية الموجودة داخل المسجد وتحليلها، بصورة دقيقة، وقدمت نقدًا حول جميع الكتابات التى كتبت عن ابن طولون وأنهيت دراسة الدكتوراة، وأصبحت فى نهاية الأمر متخصصًا فى الآثار الإسلامية، لكنى اعتمدت على الإرشاد السياحى كمصدر للدخل، وكنت على تواصل جيد مع المعاهد العلمية الدولية والمتاحف الخارجية، وتخطيت شركات السياحة المصرية، وتعاملت معهم بشكل مباشر. فعندما أنهيت الرسالة أشارت عليّ مديرة الشركة الأم التى أعمل معها، بالبحث عن مناطق جديدة للعمل الأثرى، وهنا طلبت زيارة البلدان العربية، ومنها سوريا، والأردن، ولبنان، وذهبنا بالفعل سويًا ل سوريا والأردن، رغبة منا فى تقييم الوضع، وقد أبهرتنى الأردن، نظرًا لوجود بنية تحتية جيدة، وبعدها انتقلنا لسوريا ورغم ان  بنيتها التحتية كانت سيئة لكنها كانت تحوى على معالم أثرية خلابة، وهنا انتقلت بالفعل لمرحلة أخرى من حياتى، إذ كانت رحلاتنا تستهدف الهيئات الجامعية المرموقة داخل أمريكا، مثل: جامعة ستانفورد، وهارفارد، وييل، وبرينستون. ووضعنا بعد ذلك لبنان ضمن خريطتنا السياحية، وبعدها عمان، واليمن، ثم بدأت أتعرف بعدها على منطقة الكويت والإمارات، والبحرين، ومنطقة الخليج».

سحر المدينة

وكان سفره الدائم وانتقاله بين المدن والعواصم فى العالم، سببًا فى تكوين رؤيته الخاصة عن مصر، أبهرته القاهرة تحديدًا بصورة أكبر، وبدأ عملية المقارنة بين مصر ومختلف الدول الأخرى. أدرك تمامًا وتشكلت لديه قناعة أن ما نملكه من آثار، لا تملكه بلد آخر فى العالم «سفرى المستمر ساعدنى على فهم القاهرة كمدينة بشكل أكبر، فهمتها بعمق، ووصلت لقناعة أنه لا توجد مدينة فى العالم يمكن أن تضاهى القاهرة، لأنها مدينة ليس لها مثيل -من وجهة نظرى- إذ يوجد بداخلها جميع أنواع العمارة، والفنون التى عرفها التاريخ.

وهى ساحرة، ويمكن لأى شخص التجول بداخلها بدءًا بميدان التحرير وصولًا إلى الأزهر، والقلعة، وهذا كله فى يوم واحد، كما يمكنه مشاهدة آثار تعود لجميع الحقب التاريخية، وهى ميزة غير موجودة فى أى مكان آخر فى العالم، وأعتقد أن مدينة روما هى المدينة الوحيدة فى العالم التى يمكن أن تضاهى القاهرة إلى حد ما، واسطنبول كذلك لكن بفارق كبير، فالقاهرة ليس لها مثيل فى العالم، وهى رقم واحد، لأنها مدينة نشطة، ولم تفقد تفاعلها أبدًا».

مدينة غير مُستغَلة

يرى سويلم أن المهتمين بتراث القاهرة، دائمًا ما تُوجَه لهم أسئلة حول أسباب تعلقهم بها كمدينة بهذا القدر «نحن قارنا بين مختلف العواصم والمدن فى العالم، وتوصلنا لقناعة أن القاهرة هى المدينة الأجمل، فى العالم؛ لذلك أتمنى تعليم الطلبة والأطفال الأمر نفسه، وأن يعلموا أنهم نشأوا داخل بيئة لن تتكرر فى التاريخ، فهى مدينة تستحق منا جميعًا الاهتمام، والحفاظ عليها، أنا مثلا وكما قلت بعد رحلتى مع رسالة الدكتوراة، وبعد أن تجولت فى كثير من دول العالم، زاد تعلقى أكثر بالقاهرة، وازداد إعجابى بمصر بشكل كبير، لكن فى المقابل نقدى لمصر سياحيًا ازداد أكثر، لأن مشاكل السياحة داخلها معقدة ومركبة، فشركات السياحة على سبيل المثال لا تملك فكرة عن الآثار الإسلامية، وهم بدورهم لا يعلِمون أنفسهم بشكل جيد، فالآثار الإسلامية لا تخصص لها الكثير من البرامج السياحية؛ لذلك فهى مهملة بصورة كبيرة، لأن الجانب السياحى يهتم بشكل أكبر بالمعابد المصرية القديمة، والأهرامات، والمتحف المصرى، وغيرها من المواقع، كذلك المفترض التسويق للمواقع الأثرية التى نمتلكها، لكن الأمر للأسف لا يحدث، فهذا التنوع يعطينا قوة لا تملكها أغلب دول العالم، لكننا لا نستغلها، والأماكن الأثرية بدورها تعانى، فتجد استخدام مكبرات الصوت والضوضاء داخل المقاهى الموجودة داخلها الأماكن الأثرية، كما ينتشر الباعة الجائلون بشكل يخنق السائح، وهذه الأمور لا تخدمنا أبدًا، بل بالعكس تضر بنا لحد كبير؛ لذلك أرى أن تطويع الأماكن السياحية لخدمة السياحة لا سكان المناطق الأثرية ليس حلا، المسألة يجب أن تبدأ من خلال عمليات توعية، منذ لحظة الطفولة، فالأطفال يجب تعليمهم طرق التعامل مع السائح، وتوعيتهم بشكل جيد أثريًا، لأنهم لا يتعاملون مع سائح ساذج».

دور مجتمعى

يؤكد د. طارق أيضًا أن السياحة ليست هدفًا نسعى وراءه، إذ يشير لعدم استقرارها دومًا؛ لذلك يؤمن أن الاهتمام بالسكان المحليين هو الدور الذى يجب تبنيه لا العكس «السياحة دائمًا يتم ربطها بالسياسة، وإذا حدثت مشكلة داخل اليمن، فسيتم ربطها بمصر، وبشكل عام أرى أن منطقة الشرق الأوسط يتم التعامل معها باعتبارها كياناً واحداً، وأى مشكلة بداخلها تؤثر على مصر سياحيًا، فالسياحة وكذلك السياسة لا يمكن فصلهما أبدًا، لأن كليهما مرتبط بالآخر، لذلك يجب تهيئة الأماكن التاريخية لملائمة السكان وليس السياح، وهذا الرأى من واقع تجربتى، وحاليًا تقوم بهذا الدور الدكتورة مى الإبراشى من خلال توعية المجتمع، وقد حدث الأمر خلال فترة سابقة، داخل حارة الدرب الأصفر، وتحديدًا عندما بدأنا العمل فى بيت السحيمى وترميمه، فوقتها حرص والد زوجتى الدكتور أسعد نديم وزوجته الدكتورة نوال المسيرى، على التوعية المجتمعية بهذا التراث، أراد أن يشعر الناس بانتمائهم بالفعل لهذا المكان، ليحافظوا عليه، فمثل هذه الأمور تبدأ من خلال توعية الأسر الموجودة داخل المناطق التاريخية».

أسطورة المؤيد شيخ

كان اختياره للعمل على جامع المؤيد شيخ تحديدًا خلال مرحلة الماجستير بسبب توافر وقفية المسجد آنذاك، بجانب أن الجامع لم تُكتَب عنه الكثير من الدراسات، وقد شكل كلا الأمرين حافزًا بالنسبة له لدراسة الجامع «أردت تقديم زاوية جديدة عنه، فالسلطان المؤيد كانت له سلطات واسعة، بشكل كبير، كان «جبارًا» وأزال بالفعل كثيراً من البيوت والوكالات، وهدم المنطقة، لبناء مسجده، وقد أعاد استخدام رخام البيوت، بجانب أن جزءاً من مساحة المسجد كانت تُستخَدم كسجن يدعى «خزائن شمائل»، وادعى المؤيد بعد ذلك أنه نذر على نفسه، أنه لو تم تحريره من سجنه وتولى حكم مصر، فسوف يهدمه ليبنى مكانه مسجدًا، وأعتقد أن مثل هذه الأمور «أسطورة»، روجها عن نفسه، فالمماليك بشكل عام أعطوا لأنفسهم دائمًا حجة وتبريرات لكل شيء حولهم، فأغلب حكايات المساجد بداخلها الكثير من قصص الفانتازيا، وهى حكايات مُخترَعة، لكن على أى حال فالمؤيد وصل للسلطة بطريقة عبقرية، كان عسكريًا وسياسيًا محنكًا؛ لذلك تحمست لدراسة هذا الموضوع خلال الرسالة».

جامع لم يُفهم

قدم خلال رسالته للدكتوراه أحد أهم التحليلات حول مسجد ابن طولون، والتى تعمق فيها أكثر من خلال كتابه الذى صدر منذ سنوات باسم «IBN TUL UN.. His Lost City and Great Mosque» والصادر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة. «كما ذكرت كانت دراستى لجامع ابن طولون، بناء على اقتراح جرابار، فقد ناقشت التغيرات والتوسعات التى حدثت فى المسجد طوال فترات التاريخ، لكن كتاب ابن طولون أعمق وأفضل من الرسالة لأن الرسالة ركزت على التسلسل التاريخى الخاص بعمارة المسجد، أما الكتاب فقد قمت بإعداده من خلال تقديم تسلسل تاريخى للمسجد والحقب التاريخية التى مرّت عليه، فنظرتى للأشياء كانت قد تغيرت؛ لذلك قدمت الكثير من التحليلات المعمارية التى تمت بداخله».

ويرى سويلم دومًا أن المصريين لم يفهموا جامع ابن طولون حتى الآن «جامع ابن طولون لم يُفهم ولن يُفهم فى مصر، لأن المصريين أنفسهم لم يتخيلوا فى يوم أن يكون هذا المبنى مسجدًا، ولم يألفوا شكله طوال فترات التاريخ؛ أى منذ بنائه وحتى الآن، فهو دومًا يُفهم بشكل خاطيء، والدليل أنه فى الوقت الحالى لا يدخله الكثيرون للصلاة، وعدد المصلين بداخله لا يتعدون العشرات (وقت إعداد الحوار)؛ لذلك أعتقد أن الجامع تم فهمه تاريخيًا باعتباره علامة مميزة عن ابن طولون نفسه، وكونه علامة معروفة داخل القاهرة، لكنه كمسجد لم يُفهَم أبدًا».

برج ابن طولون!

توصل سويلم لعدة قناعات من خلال تحليلاته ودراسته للمسجد، طوال تلك السنوات، إذ يؤكد على أن مئذنة ابن طولون الشهيرة، ليست بمئذنةٍ كما يظن البعض «أرى أنه برج وأرفض فكرة كونها بمئذنة، فهذا البرج تم بناؤه خلال فترة لاحقة، من بناء المسجد وهو ليس الأصلى الذى بناه ابن طولون، فالمئذنة الأصلية كانت شبيهة بالمولوية الموجودة فى سمراء، لكنها سقطت مع الوقت، وتم بناء هذا البرج فى عصر الأيوبيين، والمماليك، وقد استخدم الأيوبيون بدورهم المسجد لإيواء الحجاج المغاربة، خلال رحلة الحج، وكان شرطًا عليهم النزول فى مسجد ابن طولون؛ لذلك فالجامع نفسه ضم مجتمعاً آخر مختلفاً عن المجتمع الذى عرفته القاهرة؛ أى مجتمع المغاربة والأندلسيين، فعندما سقطت المئذنة الأصلية، كان لزامًا عليهم بناء شيء آخر، وقد أرادوا بناء آخر مرتبطاً ذهنيًا بابن طولون، ووضعوا عقداً على الطراز المغربى، ولذلك من خلال صور برج ابن طولون تكتشف أن نوافذه ليست حقيقية، بل مزيفة، والآذان بدوره لم يُرفَع من برج ابن طولون، بل كان يُرفَع من القبة التى تتوسط الصحن، والتى حَرقَت فيما بعد، وأعاد بناءها السلطان لاجين، وبنى أعلاها غرفة الميقاتى (الشخص المسئول عن تنظيم أوقات الصلاة)، ومن خلالها كان يؤذن؛ لذلك من واقع تحليلى الشخصى، أرى أنه برج وليس بمئذنة، واُستخَدم فى الألعاب الأكروباتية، والعروض وغيرها من الأمور، خلال الحقبة الأيوبية، وقد استخدم المصريون المسجد نظرًا لكبر حجمه خلال عصر الفاطميين، إذ لم يكن داخل مصر مبنى بحجمه؛ لذلك قاموا بجمع الضرائب بداخله، وقد رمموه، وأضافوا عليه، وخلال العصر العثمانى ظل يستخدم، أما فى عصر محمد على تحول فقد لمستشفى، إلى أن اُستخَدم فى النهاية كملجأ للفقراء، وكاد أن يندثر، حتى جاء ماكس هرتز باشا فى أواخر القرن ال19 ورممه من خلال لجنة حفظ الآثار العربية، وأزال كافة البيوت والتعديات الموجودة حوله، والتى استقطعت أجزاء منه؛ لذلك أقول دومًا أن المصريين لم يفهموه وهو كمسجد لم يُدرس بشكل كاف، ولم يجد المصريون من يشرح لهم عظمة هذا المسجد معماريًا».

ويرى سويلم أيضًا من واقع تحليله للجامع أن ابن طولون عندما بدأ عملية إنشاء جامعه سأله الناس عن الطريقة التى قام من خلالها بتوفير المال لبناء المسجد، وحينها أجابهم بأنه قد عثر على كنز «أرى أن ابن طولون محقًا فى هذا الأمر تمامًا، وتحليلى أنه قد عثر على كنزين أحدهما بنى من خلاله مدينته القطائع، والآخر بنى من خلاله مسجده، وتحليلى أيضًا أن الكنز الذى عثر عليه، هو كنز فرعوني؛ أى مقبرة قديمة، ثم قام بعملية تسييح لذهب المقبرة؛ ومن ثم بناء المسجد والمدينة بأكملها، أما بالنسبة للعشارى التى كانت موجودة فوق المئذنة فأعتقد كذلك أنها كانت عبارة عن مركب فرعونى قديم، وتم اكتشافه خلال عثوره على الكنز».

مدينة عظيمة

يرى طارق أن مدينة القاهرة ستظل عظيمة كما هى «القاهرة تم توثيقها بصورة جيدة، فيمكن إعادة بنائها فى أى وقت بناء على وصف المقريزى لها، أو أن يأتى شخص ويقرر إعادة بنائها أو تخيل قاهرة المقريزى، لكنها كمدينة تحتاج لجهد كبير، لأنها للأسف محاطة بالإهمال، لكننى فى النهاية لست قلقًا عليها لأنه يمكن ببساطة استعادة أى مبنى بداخلها مرة أخرى، لكن الأسوأ بالنسبة إليّ لو تعرض أرشيفها للتدمير والحرق، لأننا بذلك لن نستطيع إعادة ترميمها أو استعادتها مرة أخرى.. وأنا بشكل شخصى أرى أن التدهور موجود أصلًا منذ عهد الفراعنة ومستمر دومًا، فقد هدموا مبانى من سبقوهم، وكتبوا عليها أسماءهم بشكل مستمر، بل وأعادوا استخدام الحجارة مرة أخرى، وهذه الأمور لا تتغير أبدًا لأنها موجودة فى شخصية الحضارة المصرية، صحيح أن المدينة اليوم تعيش بعض التغيرات لكن هذه التغيرات ليست نهاية المطاف، فالقاهرة مدينة قادرة على الصمود، والتجدد دائمًا».

رغبة وأمل

وبرغم اتخاذه قرار نشر كتبه خلال مرحلة متقدمة من حياته إلا أنه لم يندم أبدًا على فكرة النشر متأخرًا «لم أندم أبدًا، فظروفى فرضت علىّ الأمر، بنيت نفسى من الصفر، كنت أحتاج أن أعيش وأن أكون نفسى، وأعيل أولادى وأسرتى، وقد وازنت الأمور بطريقة أعتقد أننى راض عنها بشكل كبير، لكن بشكل عام أظن أن كتاباتى كانت من المفترض أن تكون أكثر، لكننى فى المقابل لم أكرس حياتى للجانب الأكاديمى بشكل كبير لأن الظروف لم تكن مهيأة لى، فقد كرستها لخدمة السياحة الأكاديمية، وأردت دومًا تعليم نفسى، بالتأكيد، كل شخص يتمنى النشر، لكننى لم أجد الوقت الكافى، فجميع كتبى المنشورة كانت بمجهود ذاتى، ولم أتحصل على أى تمويل من الجهات العلمية، وهى أمور مكلفة جدًا؛ لذلك أنا راض على ما قدمته».

يتمنى سويلم أن يكتب يومًا كتبًا أو ينتج فيديوهات خاصة بالأطفال، يريد من خلالها، شرح فكرة الآثار عبر القصص «أتمنى أن أقدمها لحفيدتى ولكل الأطفال، خصوصًا أن تراثنا غنى بالحكايات والقصص الكثيرة».

خلال الوقت الراهن يعمل الدكتور طارق سويلم على إصدار كتاب عن تاريخ وعمارة القاهرة الإسلامية حتى آخر عصر المماليك، وهو مُستوحَى من رسالته للماجستير عن جامع المؤيد شيخ، لكنه يقدم خلاله العديد من التحليلات، بشكل أوسع، إذ يتتبع خلاله حقبة المماليك، والأيوبيين، وغيرهما من الحقب التاريخية، سواء فى القاهرة أو فى منطقة الشام «حاليًا مستمر فى عملية الكتابة، والانتهاء منه هو هدفى فى الحياة ككل، وأتمنى أن تستفيد الأجيال القادمة من كتبى، وأن يطوروا ويستكملوا ما قمت به».

اقرأ ايضاً | تحفة معمارية.. «الأثار» تكشف تفاصيل إعادة افتتاح جامع «الحاكم بأمر الله»