محمد عطية محمود يكتب: غواية زهرة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

تظل المسافات وهمًا نصنعه ونعوِّل عليه، فيما المسافات لا تدنى ولا تقصى أحدًا، وإنما هى القلوب والأرواح؛ فرُبَّ جالسٍ بالجوار لا يغنينا قربه عن الشعور بالوحشة والوحدة، ورُبَّ مسافر بالخيال يكفى أن يأتى طيفه - إن لم يكن لم يغادر أبدًا - كى يلهب الوجدان بمسرات الشعور لا القول، وبمحفزات الاشتياق إلى اكتمال بهجة الوصل، حيث الاكتمال فى نقصانه وحيث متاهات الشعور تكتمل فى سراب الحكايات الجميل.

لم يكن لقائى الأول ب «زهرة» خاضعًا لقانون المصادفة، بقدر ما كان متوائمًا مع القدر الذى قد يمنحنا لحظة كونية تتفجر فيها قدرتنا على الانطلاق وكسر الحواجز والقفز فوق السدود، والإشراق من جديد؛ فالذى كان مختبئًا خلف غلالات الغيب قد يتبدى لنا فى تلك اللحظة كى يميط اللثام عن إرهاصات عديدة.

وتمر بها الروح قبل أن تجتاز مداراتها إلى مدارات أخرى بعيدة تلتحم فيها بالروح.. تعتلى قمة الالتماعة الشديدة التى تأخذنا فى شدهة من نوع غريب.. انجذاب من الممكن أو الجائز أن تؤدى إليه حاجة من الاحتياجات المتعددة لمؤانسة الوجود، أو حالة من حالات المادة التى سرعان ما تشف وتخف وتتعامل بمنطق الأثير الذى يختزل كل شىء.

ويشعل الجذب الحقيقى فى الروح بعيدًا عن الجسد تمامًا، وكأن الخارجين من معين واحد: الجسد والروح، قد أبيا الانفصال؛ لتسمو الروح وتعتلى قمة ألقها وتوحدها ووجودها المفارق على عتبات الزمان الفاصلة بين خرائط العمر.

ولم تكن سوى النظرة المباغتة الباحثة عن لا شىء فى فضاء سرمدى تحلق فيه نوارس العائدة من سفراتها الطويلة والملتمسة شواطئ دفء تقنص فيها أو تُقنص.. هكذا عدنا كى نلتقى.. شىء مباغت استقر فى ذاتى كإحساس غامض غادر عزلته وعزلتى القسرية التى حملتنى عليها تجارب كان الهروب منها حتمًا وضروريًا إلى داخلى المشبوب بتحقيق ذاتى بعدما فقدت «أمل».

وصرت أتعامل بمنطق الصوفيين الذين يجنحون إلى المُثل التى ليس لها غاية؛ فصرت أتغياها فى تلك الروح التى فرضت هيمنتها على وعيى برغم مزالق البشر، وخطيئاتهم، التى ربما كانت مخبوءة فى علم الغيب، أو لم يكشف عنها الغطاء؛ فتشبثت بالروح التى لم تفارقنى، وجعلتنى على مرمى حجر من الجنون فى نظر ذاتى قبل البعض ممن أثق فيهم وأضع لديهم خبيئتى التى لا يعرف أسرارها أحد، فيبثون فىَّ تشجيعًا يختلط فى ضميرى العابث بذاتى بالعطف على حالة نادرة من حالات التشبع والاكتفاء بذاك الطيف الذى صار يشاركنى أنفاسى.

ويجعلنى دائمًا فى حضن أثيرى عصى على الإدراك والفهم لمن لا يؤمنون بقوة الروح واضطلاعها بتكوين العالم السرى والذات من قبل أن تكتسى هياكلنا بأبداننا التى تبدو للعيان قادرة على التلامس والوجود فى حيز الماديات الذى بدونه لا تبدو الأشياء، ولا تتجسد المشاعر على أرض الواقع المخاتل..

فكل الأشياء تتجه إلى هذا الكيان النورانى الذى كنت أدين له بالكثير، برغم إعراضى عن بعض الأشياء التى كانت تبدو كحقائق ثابتة وفرصًا ذهبية لم أشأ الإمساك بها للتخلى والابتعاد والكفر بما لها من تأثير على روحى، وإيثار الإبقاء بشراسة العاشقين عليها، كأن قوة خفية تدفعنى فى هذا الانعتاق من سطوة جسد «أمل» الذى لم أقربه ولم أمسه حتى بأنامل يدى حين اللقاء.. قد تبدو هذه الحقيقة مثارًا لبعض سخرية ونظرة استخفاف تبطنها الأعين.

وفى المطار.. وأقدامى تحط على أرض الوطن محفوفة بوجل وحنين وترقب، لا أحمل إلا أوزار روحى الثقيلة، اختلطت لدىَّ كل الوجوه التى حمَّلها الترحال والسفر نسغًا من وجود مغاير، تحمل معه أشواقًا تطرحها على أرصفة اللقاء المحمَّلة باللهفة والنشيج والفرحة الطارئة والمؤجلة، والحزن القابع فى القاع الذى كان فارغًا من الأحبة والمشتاقين.

والذكريات الخاملة تنتظر من يشعل وجودها، ويعيدها على أرضها الصلبة التى كانت يومًا ما طاردة للحلم العنيد.. ليبدو إرهاق الرحلة – طويلةً كانت أم قصيرة – دون الملامح التى أرَّقتها مسافة الحنين إلى ذات المكان أو أطيافه المداعبة للقلب، كمن يلقى برأسه على كتف حنون، وحضن يمتص التعب الدفين.

وإن لم يكن هناك من ينتظر، فإن هناك من يهيم على أجنحة الشوق.. يسابق الريح كى يعتلى منصة الترقب والترصد للقادم من أغوار الروح إلى أغوار الروح، فثمة شىء ما يسحب الروح من قاعها.. يشدها من أسفل قاع الرأس.. يشدهها.. يجعل كل هذا الفيضان من البشر محيطًا يتحلق حول مركز دائرة تسلب كل الأضواء وتقتنص البقعة المضيئة.

وهى تتهادى قادمة إليك أيضاً من علم الغيب.. كان لا بد من اقتناص كل شىء ولملمة كل شىء فى فترة قصيرة أقضيها فى أحضان وطن، أعود بعدها إلى موطن عملى كطائر أراد أن يستريح فى مرفأ للوطن لا يغنى عنه أى مرفأ.. ألتمس ذكريات الأماكن والصحاب الذين أحيوها معى، وأطالع وجوه البشر الذين يشعل البعد عنهم الحنين فى القلب والروح؛ فأجسامنا مهما ابتعدت فإن الروح تحس وتشتاق وتستشعر، لكن ما حدث أننى لم أجد أحدًا فى الانتظار، وأن الفترة طالت لتشهد انفجارات لم تكن فى الحسبان، ولتقلب الموازين رأسًا على عقب..

وعندما هاتفنى مندوب الشركة الدولية للشحن، لاستلام طرودى التى لا أجيد التنقل بها، وأدعها تلحق بى بعد التقاط الأنفاس، تهيأتُ كى أعانق المكان المعشوق الذى لم تغيره عقود غيابى عنه، وكأنها كانت بالأمس القريب، وخطواتى المتقافزة، والرائحة الأثيرة التى كانت تصاحبنى ابتداءً من قصر ثقافة الحرية، حتى نهاية شارع فؤاد، لم تتبدد، بل ازدادت عتقًا وفرادة، فى جو خريفى رائق.

وفي شارع «فؤاد الأول» لا يزال ذلك البراح الجميل المخملى المطل على عالم يختلف ويشعرك أنك فى بقعة مغايرة من بقع العالم أتت واستقرت فى هذا البدن، فهو يخترق قلب عروس البحر المتوسط، مارًا بأماكن ليست بأماكن، ولكنها قطع من القلب والروح معَا.. تمثل زواياها مسك الذاكرة وعصب الحكايات.

والتى لا تنتهى: «سينما أمير» التى لم يفتنى فيلم من أفلامها، «بسترودس» فى حلته القديمة، والروائح الذكية، والبارفانات، والتيار البارد الخارج من دور السينما وعبق الحكايات الأثير.. الأجواء الساحرة وصوت زقزقة العصافير اللائذة إلى أشجارها من بعد رحلات مجهدة وقلوب رهيفة لا تحتمل قسوة الهجير.

ولا يزال الخريف ذاك الفصل الرائع الذى يضفى على الأجواء سحرًا غامضًا وروحًا منعشةً لا أدرى سبب تعلق أهداب روحى بها، هو يبعث فى خلاياى دفئًا لا أعهده فى فصل غيره، برغم كونى من أبناء الربيع والصيف معًا، وبرغم عشقى للشتاء وللمطر، لكن التقاءات الروح دائمًا ما تكون فى أجواء ذاك الخريف الساحرة.

وكأن الأرواح تتناجى فى الخريف، وها هو «سبتمبر» ونهاياته الحالمة الداخلة فى أغوار الخريف، يطوِّقنى بحنان غريب ولمسة للقلب والروح قبل الجسد الذى يخف ويشف، وكأننى ما زلت فتى العشرينات الخفيف، المحمل بآمال وآلام بداخله تتعارك، وتنشد الخروج إلى حيز المستقبل، كالعصافير التى تسكن الأشجار الكثيفة فى زوايا الطريق وثناياه وجوانبه.

واجتزت تقاطع شارع «البطالسة» مع شارع «فؤاد»، تاركًا «كوم الدكة» وذكرياتى مع مقهى الشيخ سيد درويش خلفى، إلى الحى اللاتينى (حى الخواجات) بشوارعه الأنيقة، وأشجاره وظلاله الوارفة، وهدوئه المحفوف بأوراق الشجر، وروائح الياسمين المنبثقة من حدائق بناياته لاتينية الطراز، والنسمات العابرة.

والتى تجعل من مرتاديه كملائكة بيضاء يقترنون فى مخيلتى التى لا تنضب الصور فيها، وتحتفظ بها كمتحف للبشر لا تغيره السنون ولا تعاقب العقود.. عندما توقفت خطواتى على أعتاب الباب الزجاجى لمكتب الشركة، تنساب منه موسيقى هادئة، توقف الزمن، وعاد إلى نقطة غائرة فى النفس.

وكأنى أرقص ذات الرقصة التى رقصتها روحى على أعتاب حجرة «أمل» منذ ما يربو على العشرين عامًا.. بوغتت.. لم أصدق هواجسى التى اشتعلت بالصورة التى خلتها وهمًا أو خيالًا يتراءى لى من أصداء الذكرى البعيدة.

اقرأ أيضاً| د. عوض علي الغباري يكتب.. الكنافة والقطايف في الأدب المصري