د. عوض علي الغباري يكتب.. الكنافة والقطايف في الأدب المصري

الكنافة والقطايف في الأدب المصري
الكنافة والقطايف في الأدب المصري

كان الإمام الحافظ جلال الدين السيوطى – نسبة إلى أسيوط بصعيد مصر – «849ه – 911ه» تجسيدا للتأليف الموسوعى الذى كان من السمات المميزة للعصر المملوكى الذى عاش فيه.

وقد امتلك السيوطى ثقافة دينية ولغوية وأدبية واسعة أهلته لان يكون مجَدد عصره، وعلما من أعلام الثقافة العربية الإسلامية.

 وقد أثرى السيوطى المكتبة العربية بمئات الكتب، ذكر كثيرا منها فى ترجمته لنفسه فى كتاب «حسن المحاضرة فى تاريخ مصر والقاهرة»والذى قد أرخ فيه للحركة العلمية والأدبية والثقافية لمصر حتى عصره، كما ألف فى سيرته الذاتية  كتابا بعنوان : «التحدث بنعمة الله»، وتمثل  فتواه بعدم جواز البناء على نهرالنيل حسه الحضارى حفاظا على جمال طبيعة هذا النهر العظيم.

ولكن السيوطى عالم الدين لم ينغلق على نفسه، إذ تتجلى روحه المصرية الفكهة المحبة للحياة، جامعة فى،  توازن فريد، بين حب الدين وحب الدنيا مما يعد من أهم ظواهر الشخصية المصرية.

ويتضح من الجانب الأدبى فى شخصية السيوطى روح المصرى المولع بالتورية وما يرتبط بها من فكاهة، وقد عبر السيوطى  بتلك الفكاهة عن موازنة بين الجد والهزل مما تتصف به الشخصية المصرية، تصبر وتتجمل وتعبر من روح الأمل والتفاؤل رغم الشدة والضيق.

وكتاب «منهل اللطايف فى الكنافة والقطايف» مجلى من مجالى شخصية السيوطى الذى يجسد روح العالِم حتى فى تناوله للكنافة والقطايف، وهما من أحب أنواع الحلوى للمصريين فى شهر رمضان المبارك مما يتبين معه امتزاج روح العلم بروح المصريين الحلوة الفكهة.

وقد ذكر محقق هذا الكتاب أن هذا الموضوع فريد فى مجال الأدب، وقد قدم له السيوطى بمعنى المادة اللغوية للقطايف فى صحاح الجوهرى والقاموس المحيط للفيروزآبادى. فهى فى الصحاح  «القطيفة دثار مخمل، والجمع قطايف وقطف ومنه القطيفة التى تؤكل»  وهى فى القاموس: «القطيفة دثار مخمل والجمع قطائف».

 

ويبين السيوطى المصرى خصوصية القطايف المصرية بقوله: «والقطائف المأكولة لا تعرفها العرب». وأما الكنافة فلم يذكرها – على حد قول السيوطى – «أحد من أئمة اللغة، ولا فى الألفاظ اللغوية ما يصلح أن يكون مادة لها، والذى يظهر لى أنها لفظ أعجمى أو يونانى، فإن الأطباء أكثر ما يستعملون الألفاظ اليونانية والأعجمية».

ويروى السيوطى قصة ابتداء الكنافة، ويردها إلى معاوية بن أبى سفيان الذى كان يجوع فى رمضان جوعا شديدا فشكا ذلك إلى الطبيب فاتخذ له الكنافة فكان يأكلها فى السحر – أى فى السحور قبل الفجر – فهو أول من اتخذها.  ويخصص السيوطى القسم الأول من الكتاب لما قاله الشعراء فى الكنافة مبتدئا بقول الشاعر المصرى أبى الحسين الجزار فيها :

سقى الله أكناف الكنافة بالقطر

وجاد عليها سكرا دائم الذر

وتبا لأوقات المخلل إنها

تمر بلا نفع وتحسب من عمرى

أهيم غراما كلما ذكر الحمى

وليس الحمى إلا القطارة بالسعر

وأشتاق إن هبت رياح قطائف

السحور سحيرا وهى عاطرة النشر

ويقول فيها جمال الدين ابن نباتة أمير شعراء المشرق فى العصر المملوكى:

ذكرتك والأسماء تذكر بالكنى

فلله يا أسما الكنافة والذكر

ولم أنس ليلات الكنافة قطرها

هو الحلو إلا أنه السحب الغزر

يجود على ضعفى فأهتز فرحة

كما انتفض العصفور بلله القطر

وفى البيت الأخير تضمين جميل للبيت الشعرى المشهور:

وإنى لتعرونى لذكراك هزة

كما انتفض العصفور بلله القطر

وتتجلى التورية بالقطر يعنى ظاهرا المطر، ويريد به الشاعر السكر المذاب فى الكنافة.

أما القسم الثانى من كتاب  «منهل اللطايف فى الكنافة والقطايف «فيذكر فيه السيوطى ما قاله الشعراء فى القطائف مثل قول الشاعر:

لله در قطائف محشوة

من فستق دعت النواظر واليدا

شبهتها لما بدت فى صحنها

بحقاق عاج قد حشين زبرجدا

ومن الشعر الذى جمع بين الكنافة والقطائف قول الشاعر :

وقطائف مقرونة بكنافة

من فوقهن السكر المذرور

هاتيك تطربنى بنظم رائق

ويروقنى من هذه المنثور

ويقول ابن عربى الصوفى الأندلسى الشهير :

غدت الكنافة بالقطائف تسخر

وتقول: إنى بالفضيلة أجدر

طويت محاسنها لنشر محاسنى

كم بين من يطوى وآخر ينشر

لحلاوتى تبدو وتلك خفية

وكذا الحلاوة فى البوادى أشهر

فالكنافة تفضل نفسها على القطائف لأن حلاوتها منشورة ظاهرة أما حلاوة القطائف فخفية غير ظاهرة، والحلاوة البادية أفضل من الخفية!

ويورد السيوطى لغزين كتبهما الأديب برهان الدين القيراطى إلى الشيخ تاج الدين السبكى، أحدهما فى الكنافة، والآخر فى القطائف، فى قصيدة طويلة تزيد أبياتها عن أربعين بيتا يقول فيها عن الكنافة والقطائف ملغزا.

اسمان كل  خماسى قد اكتتبت

حروفه وهما لا شك خدنان

فحروف كل من الكنافة والقطائف خمسة، وهما خدنان أى حبيبان وصاحبان.  ويشير الشاعر إلى الكنافة ملغزا بقوله :

فبت أرى النار قد أبدت لنا وَرِقا

فاعجب له وَرِقا ينمو لنيران

فقدها خيط فجر أبيض عجل

بالبرق يسطو عليها سطوة الجانى

فيجعل الكنافة أسلاكا من وَرِق – فضة – تنضجها النيران فيعجبه ذلك، ويجعل قدها خيط فجر يعجله البرق. أما القطائف فيلغزها قائلا :

بالطى والنشر فى حال قد اتضحت

والطى والنشر فيما قيل ضدان

كم  سكرت ففتحنا للدخول لها

أبوابها فتلقتنا بإحسان

ويتلاعب الشاعر بالنشر والطى ضدين تتضح بهما حلاوة القطائف فى إشارة إلى طريقة صنعها، وبالتورية عنها بباب بلاغى بديعى هو اللف والنشر. ويصور الشاعر القطائف أبوابا مغلقة تتلقى فاتحيها بإحسان. وقد أجاب القاضى تاج الدين السبكى على هذا اللغز بستة عشر بيتا بدأها بقوله حلا له، مخاطبا برهان الدين القيراطى :

لك الحلاوة فى قلبى بإيمان

وفى لسانى بإفصاح وتبيان

وفى الصحون إذا مدت قطائفها

مع الكنافة من صين لأسوان

ويورد السيوطى أبياتا لظافر الحداد شاعر الإسكندرية فى العصر الفاطمى من قوله فى القطائف:

قطائف لواطف روابى

لم تحش بل رصت على اصطحاب

فى المسك والفستق والجلاب

كأنها ألسنة الأحباب

فى الشكل والنكهة والرضاب

ملمسها كوجنة الكعاب

فطعمها كلذة العتاب

من بعد صد طال واجتناب

تنزل فى الحلق بلا حجاب

وهى طعام وهى كالشراب

كأنها زيارة الأحباب

والعمر فى الصحة والشباب

وأما القسم الثالث من كتاب «منهل اللطايف فى الكنافة والقطايف» فيقدم فيه السيوطى ألغازا فى القطائف والكنافة كهذا اللغز الذى تلقاه الصلاح الصفدى فى القطائف يقول صاحبه: «ما اسم يعتنى الصائمون غالبا بتحصيله، وتتنافس الأكابر فى جملته وتفصيله، خماسى الحروف فى الترصيف والترتيب، مسطح الشكالة فى البساطة عند التركيب، إن حذف خمساه رأيته طائرا وسيما طالما قص الأثر فاهتدى به» وفى هذا إشارة إلى القائف الذى يقتفى الأثر.

ويشير اللغز أيضا إلى حذف الحرف الأول من كلمة قطائف موريا بقوله تعالى «فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم» (القلم،19،20). ويرد الصفدى مجيبا على هذا اللغز، واصفا القطائف وصفا بديعا بقوله: «قد راقت للعيون ملاحته، وحشيت بالقلوب حلاوته، مختص بشهر رمضان، لأن فى قلبه حلاوة كحلاوة الإيمان».

ويورد السيوطى ألغازا أخرى فى القطائف يختمها بلغز من إنشائه، كما يورد، أيضا، لغزا من إنشائه فى الكنافة يقول منه «ما اسم خماسى الحروف، ليس بمألوف فى اللغة العربية ولا معروف … وإن طرحت أوله وصحفت ثانيه كان حقيرا، أو رابعه صار بعيرا … هو فى المائدة آية، وفى الأنفال غاية، يشابه بيت العنكبوت،  وله فى النحل رغبوت». ويشير السيوطى إلى أن حذف أول حرف من كنافة وتصحيف الحرف الثانى بجعله تاء بدلا من النون يعنى تافه، وتصحيف الرابع وجعله قافا بدلا من الفاء يعنى ناقة، ويشير إلى بعض سور القرآن كالمائدة والأنفال والنحل والعنكبوت ليصف الكنافة أجمل وصف.

ولاشك أن هذا اللون من الأدب كان تعبيرا عن روح عصره، وتفنن الأدباء فى أدائه كما تجلى فى هذا الموضوع الطريف.

يتمثل هذا فى قول الشاعر:

لقد جاد بالبركات فضل زماننا

بأنواع حلوى نشرها يتضوع

فلا عيب فيها غير أن محبها

يبدد فيها ماله ويضيِّع

فكم «ست حسن» مع «أصابع زينب»

بها كل ما تهوى النفوس مجمع

وكم قد حلا فى مصر من «قاهرية»

كذاك «المشبك» وصله ليس يقطع

وفى ثوبه المنقوش جاء برونق

فيا حبذا أنواره حين تسطع

وقد صرت فى وصف «القطايف» هائما

ترانى لأبواب «الكنافة» أقرع

وهذا غزل فى الكنافة والقطائف مع أنواع أخرى من الحلوى مثل (ست الحسن) و(أصابع زينب) و «المشبك».

فالنفوس تهوى هذه الحلويات، وشهر رمضان الكريم حافل بها، والكنافة والقطايف على رأس هذه الأنواع من الحلويات التى تزدان بها موائد شهر رمضان فى مصر.

وشهر رمضان فى مصر حافل بالنور والبركات والعبادات من تلاوة للقرآن الكريم والتواشيح الدينية وصلاة التراويح، وغيرها.

والأدب المصرى معبر عن هذه الروح الدينية فى الشخصية المصرية، فقد كان البوصيرى إمام للمدائح النبوية فى بردته الشهيرة:

أمن تذكر جيران بذى سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

وهى ترنيمة حب فى رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك قدم ابن الفارض شاعر الحب الإلهى، وسلطان العاشقين أروع الشعر الصوفى. لكن جانبا آخر من جوانب الشخصية المصرية يتجلى فى إقبال المصريين على الطعام والشراب فى رمضان والبهجة فى الاحتفال به عن طريق تزيين الشوارع، وإضاءتها بالمصابيح، وكذلك المساجد.

وتنتشر موائد الرحمن، ويترقب الصائمون مدفع الإفطار، ويفرح الأطفال بفانوس رمضان، والمسحراتى.

وقد حكم الفاطميون مصر مائتى سنة، ولم ينجحوا فى تحويل المصريين من مذهبهم السنى المعتدل إلى مذهبهم الشيعى المختلف.

لكن المصريين شايعوا الفاطميين فى الاحتفالات التى شاعت فى عصرهم بقدوم شهر رمضان، وما يصحبه من طقوس شعبية، إضافة إلى حب المصريين لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد عبر الشاعر «أبو الحسين الجزار» عن هذا الجانب المميز للشخصية المصرية فى رمضان بحبه للكنافة والقطايف، كما أشرنا وكقوله يفتقد حلوى تسمى «قاهرية» تُصنع من الدقيق وعسل النحل:

ولى زوجة إن تشتهى «قاهرية»

أقول لها ما «القاهرية» فى مصر

فهو يتلاعب باسم هذه الحلوى فى إطار تعبيره عن الحرمان منها تفكها اشتهر به مفارقة لفقره. وهو يستجدى الحلويات فى شهر رمضان، قائلا:

ما رأت عينى الكنافة إلا

عند بياعها على الدكان

ولَكَم ليلة شبعت من الجوع

عشاء إذا جزت بالحلوانى

فالشاعر المحروم لا يميل إلى الكآبة والحزن، بل يجعل الفكاهة عونا له على سوء حاله، وذلك ما تتميز به الشخصية المصرية الشعبية الفقيرة من رضا بما قسمه الله، وأمل فى صلاح الحال، وركون إلى الفكاهة طبيعة مصرية أصيلة مهما كانت الشدائد والمصاعب التى تعترض الحياة.

ويخاطب «أبو الحسين الجزار» صديقا طالبا إمداده بالكنافة التى افتقر إليها قائلا:

أيا شرف الدين الذى فيض جوده

براحته قد أخجل الغيث والبحرا

لئن أمحلت أرض «الكنافة» إننى

لأرجو لها من سحب راحتك القطرا

فعجلِّل به جودا فما لىَ حاجة

سواه نباتا يثمر الحمد والشكرا

والكنافة والقطايف عند الشاعر «الجزار» ألذ من الحب:

تالله ما لثم المراشف

كلا ولا ضم المعاطف

بألذ وقعا فى حشاى

من الكنافة والقطائف

ويشكو الشاعر جفاء الكنافة:

وما لى أرى وجه الكنافة مغضبا

ولولا رضاها لم أرد رمضانها

عجبت لها من رقة كيف أظهرت

علىَّ جفا قد صد عنى جفانها

ترى اتهمتنى بالقطايف فاغتدت

تصد اعتقادا أن قلبى خانها

وهذا تجسيد للمنافسة على حب الكنافة والقطائف. ويلقانا شاعر مصرى آخر من أشهر شعراء العصر المملوكى، هو «ابن نباتة المصرى» وقد أشرنا إليه، يطلب أن يحل عليه قطر الكنافة غيثا، فيقول:

رأيتك صدر الدين غيث مكارم

فعَّرضت آمالى إلى طلب القطر

وأمَّلُت أن تجلى علىَّ كنافة

وأحسن ما تجلى الكنافة فى صدر

ويذكر الشاعر الكنافة، ويبتهج بها، قائلا:

ولم أنس ليلات الكنافة قطرها

هو الحلو إلا أنه السحب الغزر

يجود على ضعفى فأهتز فرحة

كما انتفض العصفور بلَّله القطر

ويستلهم الأب العربى فيشتاق إلى الكنافة اشتياق عشاق العرب إلى ليلاهم الحبيبة، والابتهاج بذكريات حبهن، وذلك فى قوله شاعرهم:

وإنى لتعرونى لذكراكِ هزة

كما انتفض العصفور بلَّله القطر

 

كما يقف «ابن نباتة» من الكنافة موقف شعراء الغزل من الذكريات الحبيبة كقوله:

ذكرتك والأسماء تذكر بالكُنى

فلله يا أسما الكنافة والذكر

يُذكِّر صحن الوجه صحن كنافة

هما الحلو مما تشهد العين والفكر

ويصل الشاعر بين (الكُنى) و(الكنافة) وصلا ظريفا يكشف عن قدرته على التمويه بالكلام، معبرا عن اشتهار الأدب المصرى بضروب من هذا الفن متمثلة فى التورية ظاهرة هذا الأدب.

ولابن نباتة قصيدة فى لون من الكنافة يُدعى «الكنافة المخنقة» يجعلها روحه، ويشبهها بالعسل المصرى، فيقول:

يا سيدى جاءتك فى صدرها

كأنها روحى فى صدرى

كنافة بالحلو موعودة

كما تقول العسل المصرى

ويستخدم اسم هذه الكنافة «المخنقة» معبرا عن اختناق دموعه هياما بها، ويصف حشوها من الفستق المقشَّر، ذائبا فيها، كما يصف رائحتها الذكية، فيقول:

قد خنقتنى عبرتى كاسمها

وبادرت من خلفها تجرى

ما خرج الفستق من قشره

فيها وقد أخرجت من قشرى

ونشرها من طيبها لم يفح

فاعجب لسوء الطى والنشر

والطى والنشر باب فى البلاغة العربية، وهذا الشاعر بارع فى التناص مع التراث العربى.

ويتناول الشاعر الكنافة، وقد نفد صبره جراء حلاوتها، ويشبهها بالدمية فيقول :

فهاك حلوا قد تكفلته

ولا تسل عنى وعن صبرى

كأنها الدمية لكنها

لا نفحة العرف ولا القطر

أما القطايف فلها نصيب فى شعر «ابن نباتة المصرى» يصفها بالرقة فى شكلها الخارجى، وبالغلظة فى قلبها لما حُشى فيها، فيقول:

و«قطايف» رقت جسوما مثل ما

غلظت قلوبا فهى لى أحساب

تحلو فما تغلو ويشهد قطرها

الفياض أن ندى علىَّ سحاب

وما يلاحظ فى الشعر المصرى تفاعل الشعراء مع الموضوع، متمثلا – هنا- فى تجسيد الكنافة والقطائف، وبث مشاعرهم تجاهها، والإمعان فى تصويرها حلوة محبوبة تهفو لهما النفوس.

كما يعكس شعراء مصرخصائص فنهم، وشخصيتهم المصرية المرحة فى «الكنافة» و«القطايف».

والفكاهة، كما أشرنا، من أهم معالم الشخصية المصرية.

عبر عنها الأدب المصرى فى ديوان أشهر شاعر وأديب فكاهى وهو ابن «سودون» من أدباء العصر المملوكى أيضا. وله ديوان طريف حافل بألوان من الفكاهة جميلة، عنوانه «نزهة النفوس ومضحك العبوس».

ويتضمن هذا الديوان كثيرا من الشعر الفكاهى فى ألوان الطعام والحلوى ومنها الكنافة والقطائف.

ويورد «ابن سودون» قصائد فكاهية فى لذائذ الطعام الذى يشتهيه كقوله واصفا الأشياء بما نعرفه، وكأنه يقدم شيئا غير معروف، ذاكرا الكنافة خلال ذلك، قائلا:

البحر بحر والنخيل نخيل

والفيل فيل والزراف طويل

والأرض أرض والسماء خلافها

والطير فيما بينهن يجول

وإذا تعاصفت الرياح بروضة

فالأرض تثبت والغصون تميل

يا ما أحيلا الموز وهو مقشَّر

يُرخى عليه القطر والعسلول

آه يا كنايف بالسكاكر تُبلِّت

قلبى لفقدك فى الهوى متبول

وهنا تعريف طريف هزلى ضاحك فكه للبحر والنخيل والنيل وغير ذلك، يتصورها «ابن سودون» كأنها أمر لم يُرَ من قبل، ويفسرها بالقول المعروف: فسر الماء بالماء.

وتأتى المفارقة مثيرة للضحك عندما يصور «ابن سودون» البديهيات على أنها اختراعات.

ثم هو يدلل الموز فيرش عليه العسلول وهو العسل بعد أن دلَّله!

ويرش الكنافة بالسكر الذى دلَّله بالسكاكر أيضا.

وفى تعبير مصرى حلو، يقسم «ابن سودون» بحياة السكر والعسل فى قوله:

وحياة السكر والعسل

وهوى لهما ينفى كسلى

وكما يقول من ذلك فى البقلاوة أيضا:

وكم قلوب إلى «البقلاوة» انقلبت

تقول يا ست أهلات وسهلات

إذ تكثر الجناسات والتحيات فى وقت الحلاوات!، والجناس حلو يميل بالمتلقى ميل الشاعر إلى البقلاوة.

ويخاطب «ابن سودون» البقلاوة بقوله : «يا ست» كما التعبير المصرى عن السيدة.

أما «القطايف» فيخاطبها الشاعر قائلا:

 مُلئت حشوا وأحشائى قد امتلأت

شوقا إليك فهل لى منكِ شوقات

أما النداء على الطريقة المصرية فيصور به «ابن سودون» «الزلابيه» أحلى من العافية بقوله:

يا ناس ما أحلى العافيه

أحلى من الزلابيه

و«ابن سودون» يعبر عن عامة الفقراء المحرومين من الحلوى. يناجى الشاعر حلوى «القاهرية» و «القطايف» قائلا:

يا«قاهرية » كم ذا تقهرين حشى

ما أنتِ لولا الحشى فيه احتمالات

يهواك قلبى ولا تهوينه أكذا

تكون عندك يا ولدى المجازات

ويا «قطايف» قلبى طايف بك لا

تتغفلى عنه ما للقلب غفلات

يا حاوى السكر المنظوم كم نظمت

فى روضة القلب مذ وافيت بهجات

فالقطايف يطوف حولها قلبه، و«القاهرية»، وهى لون من الحلوى، تقهره، والسكر روضة بهجته، وفرح قلبه.

وتذهب «الكنافة» بعقله، فيستعطفها، ويستغيث بها أن تشفق عليه، يقول «ابن سودون»:

ويا كنافة ما أنت شى انقشى فلكَم

أمست يَحاكيكِ من عقلى خبالات

هل أنتِ من حجرٍ حاشاكٍ فانعطفى

نحوى بقلب رقيق من لينات

ويتواصل الظرف المصرى فى ديوان «نزهة النفوس ومضحك العبوس»، فيقول ابن سودون، نثرا، وهذا الكتاب مجمع فنون شعرية ونثرية، عامية وفصحى:

«سبحان الله العظيم الذى مَنَّ على عباده بأنواع اللطايف، علم الإنسان ما لم يعلم، وألهمه إذ علَّمه، فعمل كما عُلِّم من السكر حشو القطايف».

وهنا يتداخل الجد بالهزل- على الطريقة الفكاهية- التى تلعب المفارقة دورها فيه بالإثارة واستجلاب الضحك.

وعلى طريقة الهزل فى البقلاوة يقول «ابن سودون»:

والست بقلاوة الجلاب إن حضرت

فكبِّر الله يا «مشكاح» تكبيرا

وفى «الكنافة» فيقول فيها:

أما الكنافة فى قطر النبات فكم

منها تقطّر دمع العين قطُّورا

وقطر النبات إشارة إلى «سكر النبات»، والقطر هو «العسل» المضاف إلى الكنافة، وقد صَّوره الشعراء ممن مر ذكرهم بصور كثيرة دالة على حبهم له.

وكما ارتبط شهر رمضان فى مصر بقصص «ألف ليلة وليلة»، و«مشكاح» و «ريمه» من شخصياتها، فقد ذكر «ابن سودون» اسم «مشكاح» وقد أدَّى إلى شكل من أشكال التفكه بغرابة هذا الاسم.

ويوصى «ابن سودون» بترك الخبز واتخاذ الكنافة طعاما قائلا: «فمن ترك الخبز فيه وراح، وقنع بالكنافة والجلاب استراح، فليبادر من وجد إليه سبيلا».

ثم يدعو الله أن يعم الخير، وتكثر «الكنافة» و «الزلابية». والجلاب يعنى السكر، ومحلوله يُسَمَّى القطر،  وقد أشاد به «ابن سودون» عندما رآه فى دمياط، فقال:

وشاهدت فى دمياط «قطرا» مكررا

وموزا عليه قد تقشَّر وارتمى

ويحلم «ابن سودون» بوليمة جامعة لأنواع اللطايف، لبنة من «قاهرية»، ولبنة من «قطايف». ويتغزل فى سبائك «المشبك» الذهبية.

ثم يدعو «ابن سودون» من خلال تلك القصص الطريفة إلى أكلها، قائلا: «فمن صام شهور رمضان، وأتبعه بست من شوال، وأكل منه ما يكفيه عند فطوره وسحوره، وأضاف إليه ما وجده من «المشبك» و«الكنايف» و«المنقوش» و«القاهرية» و«القطايف»، والموز المقشر وقطر النبات المكرر... فإنه لا يمرض، ولا يرى رمدا... ولا يموت بعد هذا أبدا إلا عند انقضاء عمره، فإن مات على الإسلام دخل الجنة». ولا يخفى ما فى هذا الكلام من ظرف وتداخل فكاهى بين الجد والهزل غطاء للفقر.

ويقدم «ابن سودون» علمه الغزير- على طريقته الكوميدية- ويصف حقيقة «الكنافة» و«الزلابية» و«القطايف»

يقول: «ومَن عرف العلم بتحقيقه، وانعجنت فكرته بدقيقه، علم أن خيوط الكنافة لا تفتل، وأن الزلابية من القطايف أطول».

وما أغزر هذا العلم، وأندر هذه الطرائف!

لقد حوى التراث المصرى من هذه الطرائف ما لا يحصى عدده، وزخر بديوان جامع للأطعمة، ومنها الكنافة والقطايف وسائر الأنواع التى يطيب لنا أكلها فى شهر رمضان مع دقات طبلة «المسحراتى».

ولما لم يظفر  «ابن سودون» بالكنافة والقطايف فى حياته، تمناها فى مماته، قائلا من موشح، وديوانه «نزهة النفوس ومضحك العبوس» مجمع أنواع أدبية، كما أشرنا:

و يا أهيلى عند موتى

كفنونى بالكنايف

وادفنونى فى القطايف

وهو بعد هذا الموشح راض بحاله، يقول:

وأنا ما انغاظ ولا شى

هكذا حال الفقير

وآه لو كان السحور كنافة:

فى الصيام آكل سحورى

آه ولو كانت كنافة

ثم هو سعيد صباحية زواجه لأكله الزلابيه:

وأمى فى صباحيتى

جتنى بالزلابيه

مما جعله يشعر كأنه ملك.

وما أحلى أكل الكنافة مجانا، فهى والزلابية تسيطران على اهتمام «ابن سودون» يقول:

يا ناس ما أحلى العافية

أحلى من الزلابية

ومن كنافة جت بلاش

لمن أكلها كافية

ويتغنى «ابن سودون» بالكنافة والقطايف وغيرهما من الحلويات، فيقول:

بالفستق المقشور والسكر المخبور

حشو القطايف يعمل بالمسك والبخور

يا صاحب «القطايف» أتيت باللطايف

كن يا حبيبى طايف بالله حول دورى

يا صحن «بقلاوة» فلان عليه علاوة

قد زدت فى الحلاوة بالسكر الكتير

ويا طعام حامض روح لا يرحم الله فيك روح

كن فى المزابل مطروح للبعث والنشور

ويا عزيزى أصفر حالى ما لى أراك موقَّر

لحضرتى قم زهّر بالفستق المنثور

ويا فيل يا زرافه لو كان لكم ظرافه

كنتو تجو «كنافه» بالشهد والقطرور

فالشاعر يرسم صورا للكنافة والقطايف، ويتمنى أن يتخلص من الأطعمة التى تحلو منهما. وهذا النص ما ورد فى إيقاعه الصالح للغناء معزوفة حلوانية، وقد قيل:

«اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى» مما تعبر عند نصوص «ابن سودون» بتنوعها الأدبى، وتأثيرها الفنى، ورسمها لصور قريبة من وجدان الشاعر المحب لأنواع الحلويات التى يتغزل فيها ويدللها ويخاطبها كأنه يخاطب طفله المحبوب.

لذا نجد مفردات السكر والعسل طاغية على شعر «ابن سودون» فى الكنافة والقطايف، وغيرها من الحلويات.

والسبب فى ذلك أن الحلوى كانت من الأحلام التى يتطلع إليها الفقير الذى لا يستطيع شراءها، وتعد من الكماليات التى يرغب فيها، ولا يصل إليها.

ويطوف طائف القطايف بالشاعر، ويتغزل فى صوانيها فى نص آخر يقول فيه:

صحن «القطايف» فى السوق طايف

 كم فيه لطايف

يا للرجال آه

لو أتى لى

على الصوانى

مهما يرانى

يطلب حرانى

ما لو ومالى

قد ضاع مالى

فالأمل طويل، والمال قليل، والطريق إلى صوانى القطايف صعب، يعبر عنه «ابن سودون» بهذه الطريقة الفكاهية الشعبية:

من يطلب النح

فلا يقول اح وإن كان دس بح

قل كخ غالى

واقبل تلالى

ومع غرابة بعض  هذه الألفاظ لبعدها عن عصرنا، فإن معناها قريب من عاميتنا حين نقول: «اللى ما معهوش ما يلزموش» ومن يطلب ما يشتهيه فعليه أن يضحى بماله، وإن لم يتيسر فليقل على ما يريد «كخ» ويستغنى عن رغباته التى تكلفه غاليا لا يقدر عليه.

ونصوص «ابن سودون» بمثابة أغنيات شعبية متعددة الألحان، طريفة الصور، تصور واقع المجتمع المصرى فى عصرها.

من ذلك قوله فى الكنافة، ويدللها – عادة- بالكنايف:

وتحبس عن «كنايف» من قوام

تفوق على الحلاوة فى القوام

تصيب القلب منك لها مرامى

تصدك يا ضنين فى المرام

فقوام الكنافة يفوق غيرها من الحلويات، والشاعر مفتون بها لما لها عنده من حب وتحقيق للمرام.

أما الكنافة والقطايف فعزيزة المنال عند الفلاح المصرى البائس الذى صوَّره الشيخ «يوسف الشربينى» بأسلوب فكاهى فى كتاب عنوانه: «هز القحوف فى شرح قصيدة أبى شادوف»، وهو تصوير للأحوال السيئة، والضنك والفقر الذى عاش فيه الفلاح المصرى فى العصر العثمانى، حيث لا يعرف أنواع الحلويات إن رآها، وهو يزور المدينة.

ويحكى «هز القحوف» قصصا ونوادر للفلاح الذى زار المدينة، وسأله أصحابه عن حالها «فقال لهم المدينة مليحة، فقالوا له يا أبو عوكل اشبرقت فيها، فقال لهم اشبرقت شبرقة مليحة».

أما هذه الشبرقة فتدل على رقة حال الفلاح الذى أكل الزلابية بما معه من مال قليل.

وترد فى «هز القحوف « قصة أخرى لفلاح يتفاخر بأنه صنع قليلا من كعك العيد، وترك واحدة ليلكز بها حماره! دلالة على صلابتها لخلوها من السمن.

ومن ذلك حكاية أمير أرسل فلاحا ليشترى كعكا بسمسم وزعتر، فلم يعرف الفلاح مراده. فطعام الريف المش والبصل، والنادر فيه الحلوى والعسل.

ويعد أكل «الكنافة» مغامرة يفتخر بها الفلاح المحروم عند زيارته للمدينة، وليته أكلها، بل أكل سمكا صغيرا يسميه أهل مصر «البسارية»، فظنه المسكين «كنافة» لأنه لا يعرفها، ولم يرها من قبل.

وتروى حكاية «هز القحوف» عن هذا الفلاح قوله يحكى لأصحابه الذين التقوا به للاحتفال بزيارته للمدينة، وحكاية عجائبها، وأهمها أكله لما يأكله «الأمارة» على حد تعبير الحكاية. ولا يعرف فلاح «هز القحوف» أكل «الرز باللبن»، لأنه مأكول بلاد البحر، وقد تمناه ناظم قصيدة أبى شادوف تعبيرا عن حرمان أهل الريف منه، يقول:

على من قشع روحو حدا الرز باللبن

ويقطع ويبلغ من ثقيل وخفيف

وفيه من العامية المصرية آنذاك : «قشع روحو»، أى نظر بنفسه، و«حدا» أى عند، ثم الأحلام بالتهام الرز باللبن !

ويورد «الشربينى» خطبة فى المأكولات يشيد فيها بألوان الحلوى المشتهاة فى عصره، ويوصى – إذا أمكن- بالإقبال على صوانى البقلاوة والرز باللبن، ويصف طريقة إعداده، وقد كان كتاب «هز القحوف» عرضا لمهارة مؤلفه فى وصفات الأكل المختلفة.

وعلى الطريقة الفكاهية يقول «الشربينى» من هذه الخطبة، ذاكرا «الكنافة» و»القطايف» إضافة إلى «الرز باللبن» و»البقلاوة»: «الحمد لله مزيل الحَزن، ومزين الأرز باللبن»، كما يقسم «بالكنافة»  بالسمن والعسل النحل، واللوز والسكر، و«القطايف» الغارقة فى السمن والعسل، والقرع المحشى باللحم البصل وكذلك «البقلاوة».

ويذكر «هز القحوف» أصنافا مما عرفه أهل الريف آنذاك تسمى «المصبوبة» وهى معجونة مثل عجين الكنافة، ويقال للتى تصنع من القمح «قطايف».

ويفرق «هز القحوف» بين هذه «المصبوبة» المسماة «قطايف» وبين القطايف المعروفة ذاكرا أنها مقصورة على المدن.

ويصف «الشربينى» طريقة عمل القطايف، ويقول إنها من ألذ الأنواع إذا قُليت بالسمن وصبَّ عليها العسل النحل. ثم يقول : «ولله الحمد أكلنا منها مرارا، وتلذذنا بها، ونسأل الله تعالى أن يطعمها لإخواننا الفقرا، ويعمهم بأكلها».

إلى هذا الحد يبلغ الحرمان بأهل الريف الذين يستبعد مؤلف «هز القحوف» أن يحظوا بها بعد دعائه لهم بأكلها!

ونعود من تراث شهر رمضان والكنافة والقطايف إلى العصر الفاطمى  بعد أن استعرضنا جوانب منه فى العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية.

وفى هذا العصر الفاطمى الذى ازدهى فيه تراث مصر فى الاحتفال بشهر رمضان، وما يرتبط به من عادات وتقاليد وطقوس ومطاعم ومشارب، برز شاعر مصرى مهتم بالطعام هو «الشريف العقيلى».

وديوان «الشريف العقيلى» زاخر بدعوته إلى ألوان من الطعام يطبخه بنفسه، ويتفنن فى ذلك، ويصفه فى شعره.

كما كان هذا الشاعر مفتونا بالطبيعة المصرية يعيش بين جنباتها الخصيبة ليمثل الطابع الشعرى المصرى فى عصره. وتروى أخبار «الشريف العقيلى» أن مآدبه كانت سخية «وفى شعره مقطوعات كثيرة تشير إلى مشاركته خلانه فى طعامه وشرابه، وفيها وصف لهذا الطعام والشراب»، وأنه كان يقيم مآدبه فى بساتينه النضرة الوارفة.

ويذكر «الشريف العقيلى» فى إحدى دعواته إلى الطعام لونا من الطعام من لباب الخبز، ويخلط باللبن والسكر واللوز، ويسمى هذا اللون «جوذابة».

وقد ذكر «الشريف العقيلى» لونا من الحلوى شبه القطايف يسمى «لوزينج» فى معرض دعوة إلى الطعام يقول منها:

وعندى لون طبخته بيدى

غير رقيق وغير منعقد

وقد أمرنا من الغداة لنا

بِشَىِّ جدى مدوَّر الجسد

وجام «لوزينج» كأنى قد

صنعت لجينا منه على برد

ويصنع هذا اللون من الخبز وماء الورد واللوز والسكر، ويبدو اسمه هو وسابقه غير عربى.

وإذا بحثنا فى الأدب المصرى عن الطعام وجدنا شاعرا آخر من شعراء مصر فى القرن الثامن عشر الميلادى هو  «عامر الأنبوطى» الذى صنع فى الطعام ألفية على نسق ألفية ابن مالك فى الشعر، يقول فى مطلعها:

يقول عامر هو الأنبوطى

أحمد ربى ليست بالقنوط

وأستعين الله فى ألفية

مقاصد الأكل بها محوية

وهو شعر طريف حافل بالتمنيات للحصول على لذائذ الطعام وموائده العامرة بكل ما تهفو إليه البطون الجائعة، خاصة المحرومة من هذا النعيم.

يقول فى ألفيته:

فيها صنوف الأكل والمطاعم

لذت لكل جائع وهائم

طعامنا الضانى لذيذ للنهم

لحما وسمنا ثم خبزا فالتقم

فإنها نفيسة والأكل عم

مطاعم إلى سناها القلب أم

وكان هذا الشاعر ذا قدرة على إنشاء قصائد فى الأكل بطريقة هزلية يستخدم فيها القصائد المشهورة ويقلبها إلى لونه المميز فى الطبيخ، معبرا عن روح مصرية فكاهية ميالة إلى الطعام.

وقد خص جانبا من هذا الشعر بالحلويات ومنها الكنافة والقطايف وغيرها مما يجعله دواء له.

وعلى ذلك حذر من المآكل التى يتناولها العامة، غالبا مثل قوله:

اجتنب مطعوم عدس وبصل

فى عشاء فهو للعقل خبل

وعن البيصار لا تعن به

تمس فى صحة جسم من علل

واحتفل بالضان إن كنت فتى

زاكى العقل ودع عنك الكسل

من كباب وضلوع قد زكت

أكلها ينفى عن القلب الوجل

وقد أورد «الجبرتى» فى تاريخه بعض هذه الأشعار، كقول عامر الأنبوطى على وزن لامية العجم:

أناجر الضان ترياق من العلل

وأصحن الرز فيها منتهى أملى

وقد أعرب الشاعر عن فجيعته بأكل العدس والكِشْك والفول والعدس، قائلا:

العدس والكشك والفول

الأكل منهم شماته

يصبحوا الشاب مخبول

قطعوا الجميع الثلاثة

أما «الخشاف» فهو دواؤه بعد أكل الكباب:

خشاف مشمش وعناب

الشرب منهم دوايه

من بعد مأكل كباب

يا رب حقق رجايه

والطابع الشعبى الجميل فى مرحه وفكاهته أصيل فى شعره الذى صاغه بألفاظ عامية معبرة عن حياتنا العادية.

وننتقل إلى العصر الحديث لنجد رائدا من رواد الأدب الفكاهى الذى ارتبط شعره بما سُمِّى الشعر الحلمنتيشى، وهو الشاعر الفكاهى «حسين شفيق المصرى».

كان هذا الشاعر، كعامر الأنبوطى، من قبل، ينظم شعرا فكاهيا على نسق القصائد المشهورة فى الطعام.

من ذلك فى شهر رمضان، وما يقتضيه من إعداد الطعام والحلوى، قصيدة له معارضة لقصيدة العتاهية:

ألا ما لسيدتى ما لها

أدلاًّ فأحمل إدلالها

يقول «حسن شفيق المصرى»:

أظن «الوليَّة» زعلانة

وما كنت أقصد إزعالها

أتى رمضان فقالت هاتوا لى

زكيبة نقل فجبنا لها

وتقطر هذه القصيدة ظرفا وفكاهة وعبقرية فى استيعاب الشعر القديم الرصين، وإبداع شعر يتعمق معبرا عن روح شعرية مصرية فكاهية عامرة بالذوق الشعبى، ومفرداته السائرة فى الحياة اليومية.

نجد منها هنا «الولية» و«جبنا» و«زكيبة» والنقل هو «ياميش» رمضان من لوز وبندق وغير ذلك، فضلا عن تصوير جانب اجتماعى، وطقس مصرى مهم فى شهر رمضان، وهو الاستعداد له بما يشتهر به من مآكل ومشارب تعد من دواعى البهجة بهذا الشهر الكريم، والفرحة السنوية بقدومه.

ولما كان رمضان شهر الخير والكرم، فقد حرص المصريون على عاداتهم فى الإكثار من شراء الطعام والشراب، خاصة الحلويات.

وتمتد الموائد إكراما للضيوف المدعوين إلى الإفطار فى البيوت، أو فى الشوارع التى تنتشر فيها موائد الرحمن فى كل مكان.

ونمضى مع الشاعر «حسين شفيق المصرى» فى هذه القصيدة، حيث يعد طلبات زوجته لشهر رمضان، قائلا:

ومن «قمر الدين» جبت ثلاث

لفائف تُتعب شيالها

وجبت صفيحة سمن وجبت

حوائج ما غيرها طالها

و«حوائج» رمضان كثيرة تثقل كاهل مَن يشتريها، والأسرة المصرية معتادة على هذه الحوائج، حتى وإن كانت لا تستطيعها.

ولفائف «قمر الدين» لها موقع عظيم من هذه «الحوائج». ويتفنن «المطبخ المصرى» فى تقديمها فى صور متعددة.

ثم يقول الشاعر «حسين شفيق المصرى» مستكملا صور الحياة المصرية من خلال نموذج الزوجة فى هذه القصيدة، تلك التى لا تقنع بما يبذله من مال وجهد فى سبيل تلبية طلباتها لحوائج شهر رمضان:

فقل لى على إيه بنت الذين

بتشكى إلى أهلها حالها

تقول لهم جوزى هذا فقير

كأنى أضعت لها مالها

ولا والنبى لا أخاف أباها

ولا عمها، لا، ولا خالها

وهنا وصف فكاهى للاختلافات التى تدور بين الأسر المصرية على نفقات شهر رمضان، والإكثار من شراء الطعام فيه مع أنه شهر الصيام.

وتنساب الروح المصرية المرحة فى هذا المونولوج الذى

يصور خلاف الزوج مع زوجته تجسيدا للواقع المشهود، وللعامية المصرية الحلوة.

وعلى ذلك يستدعى قول أبى العلاء المعرى:

عللانى فإن بيض الأمانى

فنيت والظلام ليس بفانِ

فيقول، مواجها  مظاهر الإسراف فى الطعام والشراب فى شهر رمضان:

بل يصومون حمية للتداوى

إنَّ فى الجوع صحة العيَّان

فالصوم دواء.

وللشاعر «حسين شفيق المصرى» قصائد فكاهية تسمى «المشعلقات» على وزن المعلقات، لكنه يحولها إلى معارض لبراعته فى تحويل الشعر العادى إلى شعر هزلى، تظرفا. مثال ذلك من وحى معلقة طرفة بن العبد:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقى الوشم فى ظاهر اليد

ما قاله:

ولزينب دكان بحارة منجد

تلوح بها أقفاص عيش مقدد

وقوفا بها صحبى علىَّ هزازها

يقولون لا تقطع هزازك واقعد

ولما كنا الآن مع الكنافة والقطايف فقد قيل إن الشعر «الحلمنتيشى» كلمتها الأولى من «حلا».

 

وعلى هذا النسق فى تحويل الشعر الجاد إلى شعر طعام، منه الكنافة قول الشاعر:

وإن عصرنا ثمار الزيت يجمعنا

مسخن بدجاج للمحبينا

يعلوه خلطة سمَّاق يحيط بها

صنوبر ولبوب اللوز تغوينا

و»للكنافة» تفليذ يميزها

من لم يذقها يظل الدهر مسكينا

ومن معارضة «حسين شفيق المصرى» لقصيدة أبى العلاء المعرى السابق ذكرها فى طعام الإفطار فى شهر رمضان وفى الكنافة قوله:

نصف شعبان قد مضى

ووراء النصف باقى الأيام من شعبان

فترى كل ما تحب وترضى

من شهى الطعام فى رمضان

من كباب وكفته وفطير

وكنافة متقونة فى الصوانى

وفراخ محمرات بسمن

خير ما يشترى من الفرخانى

وهذه صور مرحة للشاعر الضاحك الذى يتندر على لهفة الصائمين  لالتهام طعام الإفطار.

ومن ذلك الفيض الفكاهى للطعام موزونا على معلقة عمرو بن كلثوم:

ألا هبى بصحنك فاصبحينا

و«الصحن» عند شاعرنا الضاحك ليس صحن الشاعر الجاهلى، ولكنه صحن الطعام، يقول:

ألا هبى بصحنك فاطعمينا

ولا تبقى فراخا أو طجينا

محمرة يتوه الرز فيها

إذا ما الرز خالطها سخينا

فهاتى ما استطعتِ من الصوانى

ولا تنسى السلاطة والطحينة

إذا ما اللحم جاء أمام عينى

فلن أعرف سعادا من أمينة

أما «فؤاد حداد» مسحراتى مصر فيقول فى «القطايف»:

دقت القطايف

شفت اللطايف

خيالى طايف

فى عيون حبايبى

ويصدح بترنيمته المشهورة التى تغنى بها العبقرى «سيد مكاوى» على طبلته فى شهر رمضان:

المشى طاب لى والدق على طبلى

ناس كانوا قبلى قالوا فى الأمثال

الرجل تدب مطرح ماتحب

وأنا صنعتى مسحراتى فى البلد جوال

حبيت ودبيت كما العاشق ليالى طوال

وكل شبر وحته من بلدى

حته من كبدى حته من موال

ثم يواصل ترنيمته التى أخذت بألبابنا:

اصحى يا نايم وحد الدايم

السعى للصوم خير من النوم

دى ليالى سمحه نجومها سبحه

وتهل نفحات رمضان وروحانيته فى قول العبقرى «فؤاد حداد»:

غنيت وعشت الأمل وسعدت فى رمضان

للى خلقنى وعلمنى البيان رحمن

رمضان كريم

ويواصل الشاعر الفكاهى «ياسر قطامش» مسيرة الشعراء المصريين الذين جعلوا شعرهم العامى نبضا للحياة المصرية بألمعية وبراعة فنية وقبول شعبى كبير وتجرد لخدمة الفن فى بناء الضمير الوطنى والتراث المصرى العريق فى تجلياته الرائعة إبداعا وفنا أصيلا.

والأدب «الحلمنتيشى» الساخر فى «الكنافة والقطايف» بارز فى أعمال الشاعر «ياسر قطامش» الكثيرة، وقد تجاوزت ثلاثين ديوانا وكتابا غير الماثل للطبع. وهو شاعر متفرد فى بابه، وعناوين دواوينه وقصائده دالة على ذلك.

يقول «ياسر قطامش» فى الفول المدمس، أشهر طعام شعبى مصرى على نسق «أعطنى الناى وغنى»:

أعطنى الفول وغمس

آه ما أحلى المدمس

غارقا فى الزيت

والليمون للأمعاء يكبس

هو فى أيام جوعى

وافتقارى خير مؤنس

إننى أهواه حتى

إن يكن يوما مسِّوس!

ويشكل الشعر «الحلمنتيشى» مفارقة النكتة بين الجد والهزل، مفارقته بين الفصحى والعامية. و «ياسر قطامش» من فرسان هذا الميدان.

و»الفول» هو طبق شهر رمضان المفضل، وكذلك «العيش» الذى يدخل فى صميم الحياة المصرية.

يقول «ياسر قطامش» فى «رغيف العيش»، على طريقة بيرم التونسى وشعره الساخر:

رغيف العيش قد خيبت ظنى

وما عدت المعين على ظروفى

لقد ولى زمان كنت فيه

نصيرا للجياع وللضعيف

والشعر الفكاهى ليس للإضحاك فقط، ولكنه للإصلاح الاجتماعى.

والشاعر «ياسر قطامش» متعدد الإبداع الفنى يصوغ شعره فى شكل «الفزورة»، و«المقامة» وغير ذلك مما يشكِّل حالة متفردة فى الشعر العامى المصرى.

فى قصيدة لطيفة بعنوان: «رحماك يا مدام» يتناول الشاعر «ياسر قطامش» شهر رمضان، وما يطلبه من «كنافة» و«قطايف» و«ياميش»،  مما جعل الشاعر الساخر يتصور كأن الصيام لا يجوز بغير هذه المتطلبات التى لا يستطيعها، مما أشرنا إلى مثله عند الشاعر «حسين شفيق المصرى».

يقول «ياسر قطامش»:

شهر الصيام أتى بالخير يا «لولو»

فاصرف وبحبح فإن الرزق مكفول

شهر «القطائف» والأسمار والوحوى

فيه «الخشاف» وفيه التمر» مبلول

فاسم الدلع «لولو» مقدمة لاستدراج «الزبون» للصرف على طلبات رمضان، ودعوته إلى «البحبحة»، اعتمادا على رزق الله لعباده، ومما يتداوله العامة مثل «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب».

وفى مثل هذه الطرائق المصرية تبرير للإسراف فى مظاهر الاستعداد لمتطلبات شهر رمضان.

وقد استطاع الشاعر «ياسر قطامش» أن يصور سخريته بهذه المفارقة بين الجد والهزل، فالرزق لا شك مكفول، ولكن هذا لا يعنى الإسراف. كذلك افتتاح القصيدة باسم الدلع «لولو» مفارق لقول الشاعر:

فإن الرزق مكفول

لكنه رمضان شهر الياميش والكنافة والقطايف والخشاف.

والروح المصرية المرحة سمة أصيلة فى الشعر الحلمنتيشى الذى يتميز به شعر «ياسر قطامش».

ولفظ «وحوى» يشير إلى فانوس رمضان الذى يتغنى به الأطفال بالأغانى الخاصة التى يطلبون بها ما يحبون من حلوى وغيرها أثناء سيرهم أمام البيوت بعد الإفطار، وما يؤديه ذلك من بهجة وفرحة وسرور.

أما «الأسمار» فهى القصص المحببة التى يتداولها الناس فى شهر رمضان، يستمعون إليها فى الراديو، أو يشاهدونها فى التليفزيون مثل «ألف ليلة وليلة»، وغيرها من المسلسلات. و «التمر المبلول» أحب أنواع «الخشاف» فى رمضان. ثم يقول الشاعر «ياسر قطامش» مستكملا هذه القصيدة الطريفة، معددا الأنواع المختلفة من الياميش والحلوى وعلى رأسها الكنافة:

شهر «الكنافة» و«الياميش» ينعشنا

عند الفطور ويحلو الطرشى، والفول

من صامه من غير بحبحة

فقلت: كيف وإن الجيب مشلول

رحماك حِنِّى وحِلِّى عن قفاى

ألا يكفيك يا حلوتى دش ومحمول

فالكنافة والياميش مصدر إنعاش فى شهر رمضان. والطرشى «يحلو»، على طريقة المصريين الذين يصفون كل شئ يحبونه أنه «حلو».

و«الفول» و«الطرشى» مقترنان، خاصة، فى شهر رمضان، ويجَهّز «الطرشى» فى أكياس تبدو مبهجة بلونها الأحمر الذى «يلِّونه» ماء المخلل.

اقرأ ايضاً| منى نور تكتب : فى دراسة أكاديمية أثر حرب الخليج فى السرد الإيرانى والعراقى

ولا بد للصيام من «بحبحة» وإنفاق فى الصرف، كما أشرنا، وهنا يأتى الشعور بقلة الحيلة لمن يكون خاوى «الجيب». ويخاطب الشاعر الزوجة، نائبا عن كل زوج يشكو من كثرة أعبائه المالية، خاصة فى شهر رمضان، أن تعطف على الزوج المسكين الذى وفَّر لها الدش والمحمول!

وبالقصيدة معجم المصريين العامى المحَّبب مثل «حِلِّى عن قفاى»، وأحيانا يقال «حل عن سماى»، وكذلك «البحبحة» وغير ذلك.

وقصائد «ياسر قطامش» نافذة الوصول إلى عقل المتلقى وقلبه ووجدانه، وظرف الشعب المصرى ومرحه وفرحه بشهر رمضان الكريم.

كذلك يتعمق هذا الشعر الحلمنتيشى، عامة، وشعر «ياسر قطامش» خاصة الحياة المصرية بسرائها وضرائها.

ويقدم شاعرنا أطباق رمضان، متغزلا، كذلك : فى «الفول» المدمس قائلا:

بالفول تحلو حياتى

هات المدمس هات

ولا تقل إن بطنى

تشكو من الآهات

فالفول ثقيل على المعدة، لكنه المفضَّل عندنا.

والشاعر متلهف على الفول يكرر طلبه مستعدا على تحمل تبعاته!

والفول محبوب الأسرة المصرية، يقول الشاعر «ياسر قطامش»:

فالفول أحلى غذاء

لزوجتى وحماتى

والأكل منه يقوِّى

عزيمتى وثباتى

والفول عند عامة المصريين معين على الشبع، ولذلك يصفونه بأنه «مسمار المعدة»، تعبيرا عن عونه لهم فى الصبر على الجوع.

ومن ذلك نرى أن الشعر المصرى؛ من هذا الجانب، معبِّر عن طبقات المصريين الفقيرة فى تحمل تبعات الفقر، والشعور بالقناعة والرضا مع ذلك.

كذلك استعانة هذا الشعب المصرى الجميل القادر الصابر بالفكاهة والروح المرحة التى لا تحيل الحياة إلى قتامة ويأس وظلام وتشاؤم بسبب ضيق ذات اليد.

فالفكاهة المصرية تدل على الشخصية المصرية التى تنطلق فى التعامل مع الحياة متخذة الوسائل التى تمكنها من مواجهة الشدائد والصعوبات، ومن هذه الوسائل العمل الشاق، والأمل المستمر فى تحسين ظروف الحياة والاستعانة بالبساطة والمرح والتعاون والتكافل لمواجهة مسئوليات الحياة. وفى فكاهة نادرة يعدد الشاعر «ياسر قطامش» أنواع «الفول» قائلا:

«مدمسا» ولذيذا

أو «نابتا» و«حراتى»

لا لست أنساه يوما

حتى تحين وفاتى

وكل الأنواع التى ذكرها الشاعر للفول مما يحبه المصريون.

ولهذه الأنواع وجود قوى فى الحياة المصرية، ويذكر «يحيى حقى» فى قنديل «أم هاشم» أرغفة «الفول النابت» التى كانت تُوَزَّع نذورا أمام مسجد السيد زينب.

وتسطع أزهار الفول الحراتى بأنوارها البيضاء، وتذكو رائحته فى الحقول المصرية العامرة به. ويرتبط المصريون بالفول المدمس، والأنواع الأخرى منه التى ذكرها الشاعر ياسر قطامش واصفا إياها بأنها لاتنسى أبدا.

وصورة الفول المدمس، مما أشرنا إليه من قبل فى قصيدة «أعطنى الفول وغمس» دالة على تأثيره فيمن يتناوله من خلال قول شاعرنا :

إننى من أكل فول

صرت أمشى «كالمطلمس»

إننى من حب فولى

صرت «كالقدرة» أجلس

و«المطلمس» مفردة غريبة، لكنها توحى بأثر الفول فى آكله وقد جعله فى حالة غير طبيعية.

بل لقد انطبع الفول بقدرته على شخص آكله فجعله كقدرة الفول حال جلوسه.

ويختتم الشاعر «ياسر قطامش» هذه القصيدة بفكاهة أخرى فى صورة تحذير الحمير لآكلى الفول من البشر أن يكتسبوا طبيعة الحمار فى «الرَّفس» جراء إطعامه بالفول الذى يقويه ويكسبه القدرة على ذلك.

يقول الشاعر:

قال لى «حوحو» حمارى

وهو فى أذنى يهمس

خفِّف الفول وإلا

يا عزيزى سوف «ترفس»

ولا شك أن الشاعر «ياسر قطامش» بارع فى مفاجأتنا بما لا نتوقع من شعر «حلمنتيشى» يثير فى أنفسنا الكثير من الضحك والابتسامات التى يبعثها هذا الشعر الجميل فى النفس.

أما «فوازير» رمضان فقد استأثرت بالاهتمام الكبير لمستمعيها فى الراديو، أو مشاهديها فى التلفزيون. ولا شك أن هذه الفوازير تضفى على شهر رمضان طابعا خاصا يزدهر فيه هذا الفن الذى يحتوى على «خلطة» متميزة من الاستعراض والغناء وخطاب العقل، والتسلية، والاستمتاع.

كذلك تعد «فوازير رمضان شكلا من أشكال المعرفة بما تحتويه من معلومات عن الأشخاص أو الأحداث، أو غير ذلك.

وللشاعر «ياسر قطامش» باع فى شعره من فوازير رمضان، يستقطر فيها روح هذا الشهر الكريم، وتفاعل المصريين مع فوازيره. وللشاعر «ياسر قطامش» ديوان بالفصحى والعامية بعنوان: «فذلكة شعرية بالفصحى والعامية»، يقدم فيه فوازير رمضان فى أنواع  مختلفة من الطعام المشهور فى شهر رمضان، وأشهره «القطايف» فيقول:

شكلها مثل الهلالِ

طعمها أحلى التحالى

وجهها كالورد لونا

حشوها عين الجمال

بزبيبٍ زيَّنوها

وقلوها فى المقالى

لو قلبنا «اللام» «قافا»

فى «لطائف» للعيال

لعرفنا الاسم حالا

دون شك أو جدال

ووصف «القطايف»، دال على «شاعرية» «ياسر قطامش» الذى تفاعل مع موضوعه هنا، وصوَّره بقدرة شعرية متميزة.

ومن كثرة معايشته لشهر رمضان فى شعره أطلق عليه أصدقاؤه اسم «ياسر قطايف»! و«القطايف» فى هذا اللغز هلال من ذهب، وهى أحلى الحلويات الرمضانية.

ويشبه الشاعر لونها بالورد، ويبرع فى التورية بحشوها بعين الجمل من الياميش فى قوله:

وجهها كالورد لونا

حشوها عين الجِمال

ويذكر الشاعر ما تحتويه «القطايف» من «زبيب» يزينها. وتبلغ «الفزورة» منتهاها بحيلة لطيفة تصلح للأطفال، ومعرفة حل الفزورة بعد قلب «اللام» «قافا» فى كلمة «لطايف»، لتسكن «اللطائف» فى قلب «القطائف» لونا من «البديع» الذى يعد ظاهرة فى الأدب المصرى من الناحية الفنية، وهو «الجناس».

ويعد الشاعر «ياسر قطامش» أستاذا فى هذا التمويه بالبديع تورية وجناسا، وغيره من ألوان «البديع» التى يحفل بها الأدب المصرى فى دلالة على براعة الشاعر، أو الأديب، فى التفنن فى هذا الميدان، وهو مفضَّل إذا لم يكن تلاعبا لفظيا.

والبديع – عند «ياسر قطامش» هنا، وفى الأدب المصرى يمثل –فنيا- الظرف المصرى، وحب المصريين للتمويه بالألفاظ من هذا الباب.

فضلا عن مناسبة هذا التمويه لطبيعة الفوازير. وفى «فزورة» أخرى من فوازير رمضان فى شعر «ياسر قطامش» وفيها وفى غيرها يصدرها بالقول المشهور عندنا وهو «حزر فزر» يقول فى «الكنافة»:

ذات الشعور الناعمه

فى الشهد دوما عائمه

محمرةٌ محشيةٌ

تغرى البطون الصائمه

مثل (اللطافة) اسمها

وفى الصوانى نائمه

(كُنا) بداية اسمها

و(آفة) فى الخاتمه

والفزورة بالغة الرومانسية فى وصف «الكنافة» ناعمة الشعر، غارقة فى العسل، نائمة فى الصوانى. والكنافة مرتبطة باللطافة، أما حل الفزورة فيأتى من خلال تقسيم حروفها.

وكذلك يفعل «ياسر قطامش» فى فوازيره الرمضانية الأخرى منها فى «الزبادى» مثلا:

لبن تخمَّر فى الصباح

فصار أكلا فى المساء

يهواه كل الصائمين

على السحور هو الشفاء

وأراه يهضم ما أكلت

من المحمَّر والشواء

إن كنتم لم تعرفوا

فحروفه عند الهجاء

(زاى) و(باء) بعدها

(ألف) و(دال) ثم (ياء)

وحل الفزورة هنا سهل جدا، وهو باعث على الابتسام لفكاهته.

والزبادى فى سحور شهر رمضان مهم فى تخفيف التخمة المصاحبة للإسراف فى تناول الإفطار. ونطالع من إبداع الشاعر «ياسر قطامش» فزورة أخرى فى «الفول» حيث يقول:

غذاء جميل ينال القبول

وأصنافه شرحها كم يطول

حبوب وتأكل منه الطيور

وكل الحمير وكل العجول

رخيص مفيد لذيذ شهى

فغنوا وقولوا «فعولن فعول»

وعند الفطور وعند السحور

تراه وأطباقه لا تزول

لدى الأغنياء يكون بسمن

وعند الفقير بزيت قليل

ومنه «الحراتى» أو «النابت»

ومنه «المدمس» والاسم «...»

 

والفكاهة عذبة بأسلوب شيق بسيط وإيقاع موسيقى جميل، والشاعر له حس عربى أصيل فى أوزان الشعر بدا فى هذه الفزورة، كما بدا فى شعره عامة. وقد رأينا معه أن الفول قد جمع بين الفقراء والأغنياء، لكن مع الفارق بينهم فى إعداده.

أما حل الفزورة فيأتى على قافية القصيدة، وهو «الفول» وإن كان غير مكتوب. والفول ليس طعاما لبنى آدم فقط، ولكنه طعام للحمير والطيور والعجول، مما يبعث الفكاهة على طريقة «ابن سودون». ومن نفحات الشعر الحلمنتيشى يطالعنا الشاعر «ياسر قطامش» بقصيدة طريفة فكاهية على نمط معلقة امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وعنوان قصيدة «ياسر قطامش»: «وأنظر للياميش كالنسر من عل» مطلعها:

قفا نبك من ذكرى الغلاء المشعلل

فلست أراه عن قريب سينجلى

فالياميش غالٍ، وأسعاره صعبة المنال،  الفقير رقيق الحال.

والطابع الشعرى لتصوير الغلاء رائع الفكاهة فى قول الشاعر:

بدكان «درويش» أرى كل حاجتى

ولكن بأسعار تفوق تخيلى

فإذا كان «امرؤ القيس» قد وقف يبكى على الأطلال «بسقط اللوى» و «الدخول» و«حومل» وهى أسماء أماكن، فقد بكى الفقير مع شاعرنا على قلة المال أمام «دكان درويش» حيث لا يستطيع شراء شىء!

ولذلك يأتى عنوان الفزورة ناصحا مَن لا يستطيع شراء ياميش رمضان بسبب غلاء الأسعار أن ينظر إلى الياميش نظرة النسر من أعلى السماء، أى يصرف النظر عن طلب هذا المحال، لضيق الحال.

وتحقيق الأمنية بشراء «الياميش» بعيدة بعد الأرض عن السماء.

والجانب القصصى بارز فى شعر ياسر قطامش، يتضح ذلك من قوله فى هذه القصيدة:

أمر عليه كل يوم.. وليلة

ولما يرانى قادما كم «يبص لى»

يقول: تعالى الآن يا عم كى ترى

«زبيبا» و«جوز الهند» بيضاء «فُلَّلى»

وعندى من «اللوز» اللذيذ زكائب

و«تين» جميل من دمشق وموصل

فالحدث والحوار بين الزبون والبائع مستمر، والفكاهة فى المفارقة بين وفرة الياميش وقلة المال لشرائها ماثلة فى تصوير فكاهى ضاحك يتخلل هذه النفحات الرمضانية من «زبيب» و«جوز هند» و«لوز» و«تين»؛ هذه الأصناف المحببة من ياميش رمضان.

كذلك يصف الشاعر أنواعا أخرى من ياميش رمضان «كالبندق» يعرضها عم درويش» مغريا «الزبون» بالشراء، ولكن هيهات له ذلك، يقول الشاعر:

وعندى «تحابيش» وعندى «بندق»

تعال إلى الدكان هيا لتدخل

وما زال يغرينى بكل طريقة

فقلت له رحماك يا «ابن القرندلى»

فإنى بلا مال.. لأنى موظف

ألست ترانى بالحذاء المبهدل

 

وعلى المثل المصرى «اللى ما يشترى يتفرج» حاول «الزبون» التفرج على الياميش، لكن بائعه، وقد يئس من بيعه كاد يفتك به!

يقول الشاعر:

وأيقن أنى لست منه سأشترى

فأعرض عنى وانسحبت لمنزلى

وعدت له يوما ولكن «لفُرجة»

فأقبل مثل الثور يسعى لمقتلى

وتنتهى القصيدة/ القصة بهذه النهاية المأساوية ضحكا فى قول الشاعر «ياسر قطامش»:

وأشبعنى شتما ونادى صَبِيَّه

وقال له «هات المقشة يا على»

فأطلقت ساقى للرياح مسابقا

لأنجو من ضرب الرءوس وأرجل

وكنت إذا ما اشتقت يوما لكى أرى

صنوفا من الياميش تغرى بمأكل

أبصُّ من الشباك بصٍّا وفى الخفا

وأنظر للياميش كالنسر من عل

وتنتهى القصيدة عودا على بدء من عنوانها، ويعلو الذى لا يستطيع شراء «الياميش» عليه، ليس ترفعا عنه، ولكن حرمانها منه.

وبعد فهذه قطوف من الكنافة والقطايف فى الأدب المصرى، ونفحات عطرة من شهر رمضان الكريم، وقبس من أنواره فى مصر العظيمة التى لامثيل لشهر رمضان فى غيرها.

أستاذ الأدب المصرى بكلية الآداب جامعة القاهرة – قسم اللغة العربية