رمضانياتl حواديت مآذن القاهرة

مآذن القــاهـرة
مآذن القــاهـرة

محمد نور

تُوصف القاهرة بأنها «مدينة الألف مئذنة»، كما أطلق عليها الرحالة فى القرنين الـ18 و19 الميلاديين، حيث عُرفت على مرّ العصور بكثرة مساجدها ومآذنها، فمن يرى هذه المآذن المنتشرة فى مختلف أنحاء القاهرة يلفت نظره عدم وجود  مئذنة تشبه الأخرى، بل إن كل واحدة منها له تصميم وطابع معمارى فريد، وهى فى مجملها تبدو مثل الأبراج الشامخة التى تصدح بنداء الحق، خصوصًا فى شهر رمضان مع تزيينها بالأنوار والزينة.

تُعدّ المآذن من أهم عناصر العمارة الإسلامية لما تحتوى عليه من زخارف وما تتضمنه من نقوش وتنميقات، بجانب أنها تعتبر سجلًا رائعًا لجميع الأطوار التى مر بها الفن الإسلامى فى مصر حتى الآن، هكذا يرى الدكتور ضياء زهران، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآداب فى جامعة الوادى الجديد، موضحًا أن المئذنة الأولى سواء فى مصر وسوريا أو فى شمال أفريقيا والأندلس كانت فى بدايتها مربعة الشكل، وقد شاع استخدام أهل المغرب لكلمة الصومعة كدلالة على المئذنة، ولا يزال استخدام هذا اللفظ شائعًا فى شمال أفريقيا حتى وقتنا هذا، ويرجع السبب إلى أن شكل المئذنة فى هذه البلاد لا يزال محتفظًا بصورته المربعة الأولى.

فنار الإسكندرية
ويوضح: هناك اختلاف بين العلماء حول أصل المئذنة، فقد ذهب فريق إلى أن فنار الإسكندرية هو الشكل الأول للمآذن مستدلًا على ذلك بأن من الطبقات الثلاث التى كان يتألف منها طبقة مربعة مثمنة ثم طبقة مستديرة، كما تشهد بذلك رسوم الفسيفساء فى سور كنيسة «سان ماركو» بمدينة البندقية (فينيسيا)، لكن كاميرون كريزويل، وهو مستشرق بريطانى ومؤرخ للعمارة الإسلامية (1879-1974)، عارض هذه النظرية وأثبت بطريقة مقنعة أن أول مئذنة فى مصر تتمثل فيها هذه الطبقات الثلاث هى مئذنة مسجد «سلار وسنجر الجاولي» (يقع بمنطقة قلعة الكبش بالقاهرة) التى لم تُبنَ قبل عام 703 هجرية 1304 ميلادية، وهو تاريخ متأخر بالنسبة إلى فنار الإسكندرية، وكان قد تهدم قبل هذا التاريخ بأكثر من قرن ونصف القرن.

الأبراج المسيحية
ويعتقد كريزويل أيضًا أن أقدم صور المآذن الإسلامية كانت تنحو نحو الأبراج المسيحية المربعة التى كانت قائمة فى سوريا قبل الفتح الإسلامى كما هو الحال فى أبراج المعبد الوثنى بدمشق الذى تحول إلى مسجد بعد ذلك، ويستشهد على ذلك بعدة أمثلة منها برج دير سان جورج 624/625 ميلادية، ويستنتج من ذلك أن فكرة بناء المآذن المربعة نشأت فى سوريا فى ظل الدولة الأموية، وأن المآذن الأولى اشتقت معماريًا من أبراج الكنائس السورية، وقد حافظت المئذنة السورية على هذه الصورة خلال قرون طويلة، فمعظم مآذن سوريا تتألف من بدنٍ مربع من قاعدته إلى قمته،  وهناك أمثلة كثيرة منها المئذنة الشمالية بالجامع الأموى فى دمشق التى شاهدها المقدسي، ومئذنة المسجد الجامع بحلب، وغيرهما.

ويشير الدكتور ضياء زهران، إلى أن المساجد المصرية الأولى تخلو من المآذن، فلم يكن لجامع عمرو بن العاص بالفسطاط مئذنة، إذ كان الناقوس يُستخدم للدعاء إلى الصلاة عند الفجر، وظل الأمر كذلك إلى أن أمر معاوية بن أبى سفيان والى مصر «مسلمة بن مخلد»، أن يبنى صوامع للأذان فشيّد أربع صوامع فى أركان المسجد الأربعة، موضحًا أن ابن مخلد يعتبر أول من بنى المآذن، حيث لم تكن بالجامع من قبل، كما أن المؤرخين لم يتركوا أى وصف لهذه المآذن الأولى ولا نعلم ماذا كانت عليها أشكالها، وإن كنا نعتقد أنها كانت أشبه بالممارس أو جواسق المراقبة التى تُقام على الأسطح فى أركان البناء، وكان الصعود إليها عن طريق سُلم يرتقيه المؤذن من خارج المسجد، وظلت مآذن جامع عمرو بن العاص على وضعها هذا حتى نقلها خالد بن سعد إلى داخل المسجد، وكان ذلك أول العهد بالمآذن المصرية.

ويضيف أن أقدم مآذن القاهرة مئذنتا جامع الحاكم بأمر الله الذى شرع فى بنائه الخليفة العزير بالله الفاطمي، ثانى الخلفاء الفاطميين، وأتمه ابنه الحاكم بأمر الله بعد ذلك بـ22 عامًا أى فى سنة 1003م، والمئذنتان تقعان فى الركنين الشمالى الشرقى والجنوبى والعربي، لافتًا إلى أنه كان يخصص لكل مئذنة أدوات للإضاة لتضيء ليلًا وفى المناسبات الدينية، وكانت تُضاء خلال شهر رمضان بالمشاعل وقناديل الزيت والمسارج، وهو تقليد يتبعه المصريون إلى الآن، فعندما ترى المآذن مزينة بالأنوار والأضواء، فتلك علامة على حلول رمضان أو الاستعداد لإقامة أحد الموالد الدينية، لتكون رمزًا للبهجة والسعادة لمن حولها ومن يراها من بعيد.

تصاميم فريدة
ويؤكد أن مصر تنفرد بأشكال من المآذن التى لا مثيل لها فى بلد غيرها، بل ولم تكرّر مرة أخرى فى مصر، وهى نتاج لإبداع المهندس الذى شيدها، ومنها مئذنة السلطان الغورى بالجامع الأزهر التى يُطلق عليها المئذنة ذات الرأس المزدوج، وتتميز بوجود سُلمين منفصلين بها يصلان إلى شرفة المئذنة، وهى حيلة معمارية جميلة استخدمها المصمم حتى لا يرى الصاعد إليها الهابط منها.
فيما يقول الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل، أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة عين شمس: فى أحيان كثيرة كان تصميم المآذن يخضع لتأثير التقاليد المعمارية المحلية، فمثلا فى المغرب، وإسبانيا، وأفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، تميل المآذن ذات تصميم الأبراج المربعة للتواصل والاستمرار، إلى حد كبير، من خلال تقليد مسجد جامع القيروان الكبير فى تونس، إضافة إلى أن الزخرفة كانت للتأكيد على الطبيعة الإسلامية للمئذنة، موضحًا أن المآذن فى بداية إنشائها كانت عبارة عن منصات ذات شرفات صغيرة.

مدينة الألف مئذنة
ويوضح أن القاهرة عُرفت منذ زمن طويل باسم «مدينة الألف مئذنة»، حيث تضم أغنى تنوّع للمساجد فى منطقة الشرق الأوسط، واستُوحيت المساجد من أنماط معمارية كثيرة ومتعددة، نتيجة الأثر الذى خلّفته الإمبراطوريات الحاكمة التى  تعاقبت على مصر عبر العصور المختلفة، بما فى ذلك العصر العباسى والفاطمى والعثماني، حيث كان يعد تخليد جمال أى من مآذن القاهرة التاريخية فى صورة تجربة مثيرة للبهجة، فعلى سبيل المثال فإن أكثر المآذن تميّزًا، هى مئذنة جامع أحمد بن طولون، التى تعكس الهيكل الحلزونى لمئذنة الجامع الكبير فى العراق، لافتًا إلى أن تاريخ بناء مئذنة الجامع، الذى اكتمل بناؤه عام 879م، يثير جدل البعض فهناك مَنْ يشير إلى أنها أضيفت إلى البناء فى وقت لاحق.

ويتابع: جميع المآذن التاريخية شُيد قبل مئات السنين، وعندما تدهورت بمرور الزمن وخضعت لعمليات ترميم فى العصور اللاحقة، بدا بعضها مختلفًا عن صورته الأصلية، مشيرًا إلى أن علماء الآثار لم يجمعوا إلا على أسماء معدودة لمهندسى المآذن، منها المهندس شهاب الدين أحمد الطولوني، الذى بنى مدرسة وخانقاه السلطان فرج بن برقوق نهاية القرن الثامن الهجري، والرابع عشر الميلادي، ومئذنتها المميزة بزخارفها ذات العقود والأعمدة، كما ترك مهندس مئذنتى جامع «المؤيد شيخ» فى القرن التاسع الهجرى - اللتين شُيدتا أعلى برجى باب زويلة - اسمه منقوشا على كل مئذنة منهما، فعلى المئذنة الشرقية كتب «عمل هذه المئذنة المباركة العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن القزاز، وكان الفراغ أول رجب سنة اثنين وعشرين وثمانمائة»، بينما كتب على المئذنة الغربية «أمر بإنشاء هاتين المنارتين المباركتين سيدنا ومولانا السلطان المالك الملك المؤيد أبو النصر شيخ عز نصره وذلك فى نظر العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن القزاز، والفراغ فى شهر شعبان المعظم قدره سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة».

أقدم مئذنة
ويشير الدكتور حسام إلى أن أقدم مئذنة إسلامية ترجع إلى عصر الدولة الأموية وهى تلك المشيدة فى الجامع الأموى بدمشق أعوام «705-715» ميلادي، والمتأثرة ببدنها المربع بأبراج الكنائس البيزنطية، وصفها الرحالة ابن جبير بأنها كالبرج المشيد، وتليها فى القدم مئذنة جامع القيروان بتونس والمشيدة فى القرن الثالث الهجرى بعمارتها المتأثرة بمئذنة الجامع الأموي، وقد أخذ المسلمون فكرة المئذنة من أبراج الكنائس حيث يتقارب الاثنان فى وظيفة إعلام أصحاب الدين بوقت الصلاة.. أما فى مصر فتعد مئذنة مسجد «الجيوشى» بالمقطم أقدم مئذنة مصرية محتفظة بحالتها الأصلية منذ أن أنشئت فى العصر الفاطمى سنة 478 هجرية من الحجر بقاعدة مربعة يعلوها مربع ثانٍ ثم مثمّن تعلوه قبة، أما مئذنة مدرسة وقبة الملك الصالح نجم الدين أيوب «642 هجرية» فتعد المئذنة الأصلية الوحيدة من العصر الأيوبى فى مصر، وتنتهى من أعلى بقبة مضلعة، وعُرف هذا الشكل فيما بعد بالمآذن ذات المباخر.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 5/4/2023

اقرأ أيضا| رمضانيات l«المشكاة».. إضاءة المساجد بأنوار الفن