عندما انتظر أهل المحروسة «يوم القيامة» على ضفاف النيل

الجبرتي
الجبرتي

لا يختلف اثنان على مصداقية الجبرتي كأحد أصدق المؤرخين الذين تناقل الجميع ما دونه من كتابات ومخطوطات باعتبارها الروايات الأكثر صدقًا وتوثيقًا للحقبة الزمنية التي عاش فيها الجبرتي ودونها بكل دقة وأمانة بحيث يمكن اعتباره شاهدًا على العصر خلال الحملة الفرنسية وما سبقها وتلاها من أحداث جسام مرت بها مصر.

وفي هذه السطور نبحر سويًا في تفاصيل إحدى الحوادث العجيبة التي دونها الجبرتي بأسلوبه المشوق الممتع عن شائعة انتشرت كالنار في الهشيم بين أهل المحروسة عن قيام الساعة يوم الجمعة الموافق 26 من ذى الحجة عام 1147 .

وشهدت البلاد حالة جنونية غير مسبوقة بعد أن أيقن الناس أن القيامة ستكون بعد ثلاثة أيام فقط.

هذه الرواية مع غرابتها وطرافتها تثبت أن الشائعات ليست وليدة اليوم ولكنها إرثًا بغيضًا يعود عمره إلى مئات السنين.

والأعجب انها تجد دائما آذانًا تسمعها وعقولا تصدقها حتى مع تعارضها مع أبجديات العقيدة وبديهيات المنطق.

يروي الجبرتي في الجزء الأول من كتابه الأشهر( عجايب الآثار في التراجم والأخبار) أنه في يوم الأربعاء رابع عشرين الحجة آخر سنة سبع وأربعين ومائة ألف، أشيع في الناس بمصر بأن القيامة قائمة يوم الجمعة سادس عشرين الحجة، وفشى هذا الكلامُ في الناس قاطبةً حتى في القرى والأرياف، وودع الناس بعضهم بعضًا، ويقول الإنسان لرفيقه: «بقي من عمرنا يومان» وخرج الكثير من الناس والمخاليع إلى الغيطان والمنتزهات، ويقولون لبعضهم البعض: «دعونا نعمل خظًّا ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة» وطلع أهل الجيزة نساءً ورجالًا وصاروا يغتسلون في البحر، ومن الناس من علاه الحزن وداخله الوهم، ومنهم من صار يتوب من ذنوبه ويدعو ويبتهل ويصلي، واعتقدوا ذلك ووقع صدُقه في نفوسهم، ومن قال لهم خلاف ذلك أو قال هذا كذب لا يلتفتون لقوله، ويقولون: «هذا صحيح، وقاله فلان اليهودي وفلان القبطي» وهما يعرفان في الجفور والزايرجات ولا يكذبان في شيء يقولانه، وقد أخبر فلان منهم على خروج الريح الذي خرج في يوم كذا، وفلان ذهب إلى الأمير الفلاني وأخبره بذلك، وقال له: «احبسني إلى يوم الجمعة، وإن لم تقم القيامة فاقتلني» ونحو ذلك من وساوسهم. وكثر فيهم الهرْج والمرْج إلى يوم الجمعة المعين المذكور فلم يقع شيء، ومضى يوم الجمعة، وأصبح يوم السبت فانتقلوا يقولون: «فلان العالم قال إن سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفعوا في ذلك، وقبل الله شفاعتهم»، فيقول الآخر: «اللهم انفعنا بهم، فإننا يا أخي، لم نشبع من الدنيا، وشارعون نعمل حظًّا» ونحو ذلك من الهذيانات .. وكم ذا بمصرَ من المضحكات ولكنه ضحكٌ كالبكا.

وانتهت رواية الجبرتي التي تضع علامة استفهام كبيرة على سلوك العامة الذين رفضوا الاعتراف بأنهم ضحية لكذبة كبيرة خدعها بهم أحد الخبثاء وظل يضحك عليهم في أعماقه ، وأرادوا أن يبرروا لأنفسهم تصديقهم لشائعة لا وجود لها وابتدعوا شائعة جديدة تداري خيبتهم وجهلهم وزعموا أن الأولياء والأتقياء مثل الامام الشافعي والسيد احمد البدوي والشيخ ابراهيم الدسوقي تشفعوا لتأجيل موعد يوم القيامة ، وقبل الله عز وجل شفاعتهم!!!

هل هناك شطط وعبث أكثر من ذلك؟!