حكايات| من قصور الخلفاء إلى «اليوتيوب».. تاريخ التلاوة النسائية

التلاوة النسائية للقرآن الكريم
التلاوة النسائية للقرآن الكريم

كتب رشيد غمرى

يوما بعد يوم تتحول التلاوة النسائية للقرآن الكريم إلى ظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا «يوتيوب» و«بودكاست» و«فيسبوك»، حيث تحظى بعد القارئات بمئات الآلاف من المتابعين.

 

وأعاد صناع المحتوى التعريف بتاريخ التلاوة النسائية، وتقديم تسجيلاتها النادرة، إلى الأذهان عصرها الذهبى فى ثلاثينيات القرن الماضي، قبل أن يتم منعها بفتاوى وقرارات رسمية. لكن للأمر جذورا أقدم تحتاج إلى إعادة اكتشاف، خصوصا مع انفتاح المستقبل أمام التجربة، عبر وسائل لا تحتاج إلى استئذان، ولا يمكن الرقابة عليها.

يتنامى الاهتمام بظاهرة قارئات القرآن على مواقع التواصل الاجتماعي، التسجيلات القديمة المتاحة نادرة، بسبب ضياع الأسطوانات، واعتماد الإذاعة فى الثلاثينيات على التلاوة المباشرة، هذا الفراغ يملؤه الآن تسجيلات حديثة لفتيات وسيدات، تنال تلاوتهن الاستحسان، المصرية «منة الله رمضان» واحدة من المقرئات، ولديها قناة على «اليوتيوب» وصفحة على الفيسبوك، وتحظى بمئات الآلاف من المتابعين، كذلك القارئة «الزهراء حلمي»، التى افتتح بصوتها قبل عامين المؤتمر الوزارى لمنظمة التعاون الإسلامى الدولى بحضور الرئيس عبدالفتاح السيسي، وعديد من المسئولين الدوليين ورجال الدين، كما توجد تسجيلات لنساء عديدات من كل أنحاء العالم.

 

 

 

التاريخ المحجوب

يندهش الباحث في تاريخ التلاوة النسائية من الانطباع العام بهامشيتها، على خلاف الحقيقة، ومن ندرة توثيق تجارب قارئات اشتهرن فى عصورهن. والمعلومات المتاحة تجبرنا على ترجيح أن المفقود أكثر بكثير. المصدر الذى يكاد وحيدا هو عدة صفحات من كتاب «ألحان السماء» لمحمود السعدني، ويعتبرها البعض دليلا على طرافة الظاهرة واستثنائيتها، ما يجافى الواقع، حيث كانت قارئات مطلع القرن الماضي، مجرد قمة لجبل الثلج المخفى تحت محيط من النسيان.

وهو ما تؤكده دراسة للكتورة أميمة أبو بكر، حول عشرات من النساء المغيبات من تاريخ العمل الديني، بالكاد يعثر على ذكر لهن.

وتخلص إلى أن النساء تحدين الأطر التقليدية، واحتللن مكانة أكبر بكثير مما يبرزه التاريخ.

كما نجد أسماء نساء أخريات من المتصوفات قارئات القرآن ومنشدات المدائح ممن حظين باهتمام الخلفاء والسلاطين مثل مهر خاتون الصوفية التركية التى عاشت خلال القرن الخامس عشر.

 كما عرف من قبل عن زبيدة بنت جعفر المنصور أنها كانت تملك مائة جارية حافظات للقرآن مجيدات لتلاوته، ولكل منهن ورد يومى بحيث لا تنقطع التلاوة من قصر الخليفة.

شذرات تاريخية


مما يرويه الباحث المتمكن فى تاريخ التلاوة «هيثم أبو زيد» أن الشيخ «شلبى طوبار»، وهو أحد الأعيان، وجد الشيخ الشهير نصر الدين طوبار، قد دخل فى منافسة فى التلاوة مع قارئة للقرآن من دمياط كان اسمها الشيخة «زوزو»، وصفت بأنها صعبة، وإن كان قد تمكن فى نهاية ليلة طويلة فى الفوز فيها. وهو أمر جلل، لأن الرجل كان معروفا بأنه لا ينافس من الرجال، لتمكنه ومكانته.

ومن الطبيعي أنها لم تكن امرأة وحيدة نبتت من الفراغ، لتصل إلى هذا المستوى، وهو ما يؤكده التاريخ الاجتماعي، حيث كان من تقاليد المآتم المصرية، أن تقام ثلاثة أيام، مستعينة بمقرئات للنساء.

وبالرجوع إلى عصر محمد على سنعثر على قارئة للقرآن تميزت حتى صارت محل تبجيل وعناية الوالي، وهى «أم محمد»، والتى أحيت المآتم فى قصور كبار قادة الجيش، ورجال الدولة، وأرسلها الباشا إلى الأستانة، لتقرأ القرآن فى حرملك السلطانة. وعندما رحلت شيعت فى جنازة مهيبة إلى مقبرة خاصة فى الإمام الشافعي.

عصر الأسطوانات
فى عام 1911 قدمت شركة أوديون تلاوة نسائية للشيخة «مبروكة»، ما يدل على مكانة النساء فى عالم التلاوة قبلها بعقود. والشيخة مبروكة مجهولة تقريبا، عدا ما ذكرته الفنانة «هدى سلطان» من أن والدها كان يأتى بها لتلاوة القرآن فى منزل العائلة بضواحى طنطا خلال رمضان، وكانت تجلس قربها. كذلك يمكن العثور على تسجيلات نادرة للشيخة «ودودة المنيلاوية» ترجع إلى الفترة نفسها وعلى أسطوانات حجرية أيضا.

وغالبا لم يبق منها سوى تسجيل لسورة يوسف. وفى الفترة نفسها راجت أسطوانات لقارئة شهيرة أيضا، هى الشيخة «سكينة حسن». ويذكر أنها ولدت كفيفة بمحافظة أسيوط أواخر القرن التاسع عشر، ولها تسجيل على «اليوتيوب» يرجع إلى عام  1911. وهناك روايات حول أنها كانت تتلو فى القصر فى عهد فاروق، وكان لقبها «الست سكينة».

كما ورد أنها سافرت إلى بغداد عام 1915، لتلاوة القرآن، فتجمع العراقيون لاستقبالها بموكب مهيب. كما وصفها البعض بأنها كانت أعظم مجودة للقرآن فى عصرها.


وكما ينبئنا تاريخ الغناء بأن العديد من رواده، جاءوا من خلفيات التلاوة والإنشاد الديني، كالشيوخ المسلوب، وسلامة حجازى وأبو العلا محمد وسيد درويش وزكريا أحمد، فإن الأمر ينطبق على النساء، اللائى اتجه بعضهن إلى الغناء الدينى والدنيوي، مسجلات أسطوانات لكليهما، مثل الشيختين ودودة المنيلاوية، وسكينة حسن.

مقرئات الإذاعة
قدمت الإذاعة المصرية قارئات القرآن منذ عام ١٩٣٥ وقبل مرور عام على بدء البث. وكانت التلاوة تتم على الهواء، وهو سبب عدم وجود تسجيلات من تلك الفترة للرجال والنساء على السواء. وفى الخامسة والنصف من 22 أبريل عام 1935، كانت الشيخة «منيرة عبده» أول امرأة تتلو القرآن فى الإذاعة المصرية، وهى التى بدأت ممارسة التلاوة العلنية منذ بلغت السادسة عشرة. وهى ليست الوحيدة، فالشيخة «كريمة العدلية» كانت تقدم تلاوتها من خلال الإذاعات الأهلية، قبل أن تعتمد فى الإذاعة المصرية فى أبريل عام ١٩٣٦.

وكان الشيخ علي محمود الذي يعتبر أستاذا للشيوخ محمد رفعت، وطه الفشني، والبهتيمي، يفضل تلاوتها على الجميع. أما ثالث امرأة قدمتها الإذاعة فهى الشيخة «خوخة إسماعيل»، وحظيت بثلاث تلاوات صباحية فى الأسبوع، نوهت عنها مجلة الراديو المصري، كذلك أذيعت تلاوات للشيخة نبوية النحاس.

وكان آخر من انضم للإذاعة الشيختان منيرة أحمد الحضري، وعطيات إبراهيم، عام ١٩٤٠، ولم يقتصر بث التلاوة النسائية على الإذاعة المصرية، فاستعانت بهن إذاعتا لندن وباريس حتى صدر قرار الوقف فى إذاعة مصر، حتى رضخت الإذاعات الأجنبية، بضغوط من كبار الشيوخ وقتها. وفى نوفمبر عام ١٩٤٥ كان صوت الشيخة عطيات إبراهيم آخر صوت لتلاوة نسائية ينقله الأثير.

من أوقف المقرئات؟
وفقا لحديث الشيخة منيرة عبده لـ«آخر ساعة» عام ١٩٤٩، فقد أخبرهن أحد المسئولين بالإذاعة بأن هناك مانعا شرعيا من استمرارهن، وأن بعض الشيوخ أفتوا بذلك، وأن الإذاعة رجعت إلى مفتى البلاد وقتها الشيخ حسانين مخلوف، فقال إن الأمر يحتاج إلى نظر وإعادة مراجعة من الناحية الفقهية. ويبدو أن تلك الفتوى كانت شفاهية، لكن كان واضحا أن وراء الأمر حملة، وضغوطا، استندت إلى رأى فقهى يعتبر صوت المرأة عورة. وفى ذلك الوقت كانت التلاوة النسائية فى الإذاعة محل قبول عام، واستحسان. لذلك أحدث إيقاف المقرئات صدمة لأغلب المستمعين، وبعث الكثيرون برسائل تطالب الإذاعة بعودة التلاوة النسائية، لكن دون جدوى.

 

أم كلثوم والتلاوة
من الصعب العثور على أكثر من تسجيل لتلاوة القرآن الكريم بصوت أم كلثوم. وهى التى بدأت حياتها بحفظ القرآن وتجويده، وكمداحة ومنشدة للتواشيح الدينية. وكان آداؤها للتلاوة ذا شعور مهيب، حتى أن بعض مستمعيها كانوا يبكون من شدة التأثر. وفى فيلم سلامة عام ١٩٤٥ ورغم منع الإذاعة للتلاوة النسائية، حرصت على أن تتلوا آيات من القرآن بصوتها. وفى عام ١٩٥٨ عبرت مجددا عن رغبتها فى تسجيل القرآن كاملا بصوتها. ومن خلال علاقتها بالكاتب مصطفى أمين، طرحت الفكرة من خلال مجلة آخر ساعة، وكأنها اقتراح من المجلة، فعرضت آخر ساعة الأمر على القراء، مقترحة أن يكون ذلك لصالح دعم الطلاب غير القادرين، ثم فى العدد التالى استعرضت الآراء وردود الأفعال. وجاء فى العنوان أن المفتى يقول «لامانع.. وكبار المقرئين أول المعترضين» فى إشارة تجاوزت التلميح إلى أن المنافسة كانت وراء المنع. وقد ذكرت نعمات أحمد فؤاد فى كتابها «أم كلثوم وعصر الفن» أن كوكب الشرق سعت أكثر من مرة إلى تسجيل القرآن بصوتها، لكنها كانت تصطدم بصخرة الرفض.

محاولات لم تنقطع
بعد تلاوة أم كلثوم فى فيلم «سلامة»، ظهرت التلاوة النسائية فى السينما عدة مرات، منها فيلم «الله معنا» للمخرج «أحمد بدرخان» عام 55 حيث ظهرت الشيخة «منيرة عبده» فى أحد المشاهد، وهى تقرأ القرآن على النساء فى أحد المآتم. وفى عام ١٩٦١ قدم المخرج «حلمى رفلة» المطربة «وردة الجزائرية» فى فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» وهى تتلو القرآن بعد أن دربها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكانت تلك محاولات لاختراق الصمت حول المنع.. وعلى المستوى الشعبي، استمرت تلاوة النساء لبعض الوقت.

وذكر محمود السعدنى «الحاجة دربالة» من الجيزة، والتى ظلت تمارس عملها فى المآتم. ولم يقتصر الأمر على العاصمة، فقد ذاع صيت أخريات فى بعض المحافظات ومنهن الحاجة خضرة فى المنوفية، وأم زغلول فى السويس، والشيخة رتيبة فى الدقهلية، والشيخة عزيزة الإسكندرانية.

ووفقا لهيثم أبو زيد كان هناك أيضا الشيخة حسنى من باب الشعرية، والشيخة ليلى حسن فى الصعيد. كما عثر على أسطوانات لتلاوة السورية فاطمة مهنى، ويحتمل أنها صدرت فترة الوحدة، منقولة عن تسجيلات أقدم. ولم تنته المعركة عند المنع فى الأربعينيات، فبعد سبعين عاما من التوقف تقدم الشيخ المستنير المرحوم أبو العينين شعيشع عام 2009 كنقيب لقراء القرآن وقتها، بطلب لقبول قارئات للقرآن فى الإذاعة المصرية، وهو ما تصدى له مسئولون بإذاعة القرآن الكريم، وعلى رأسهم الإعلامية هاجر سعد الدين، رافضة بشدة تحت ذريعة أن صوت المرأة عورة! ورغم ذلك وبكل شجاعة، قبلت النقابة وقتها عددا من النساء، بعد أن اجتزن كافة الاختبارات.

عودة القارئات
كان جدار الصمت قد اخترق منذ التسعينيات، وعاد ذكر قارئات مثل الشيخة  الفتاة سمية الديب. وفى يناير 2021 نعى شيخ الأزهر قارئة القرآن تناظر محمد مصطفى النجولى فى صفحته على الفيسبوك واصفها بواحدة من كبريات قارئات القرآن. كما عادت التلاوة النسائية من أوسع الأبواب على شبكات التواصل، وبأصوات فتيات مسلمات من أنحاء العالم، وبعضهن يعشن فى المهجر، معتبرات التلاوة على اليوتيوب والبودكاست، وسيلة للتمسك بهويتهن، وبعضهن حققن نجاحا كبيرا. ومن أشهرهن مريم مسعود وسامية مبارك ومريم أمير ومدينة جاويد وجينفر غروات وسمية حسن وفيرهاتول فيروزا.


دار الإفتاء المصرية حسمت الأمر بالفتوى رقم 3482 بتاريخ 25 مارس 2019 بأن صوت المرأة ليس عورة، وأنه يجوز لها الجهر فى قراءة القرآن فى حضور الرجال الأجانب.

 

 

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 5/4/2023

أقرأ أيضأ : داود يهنئ الدكتور أحمد عمر هاشم بمناسبة اختياره شخصية العام الإسلامية