رحلة المجد والألم بين عندليب الغناء وعندليب السينما

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

اللحظة التى فارقنا فيها «عندليب السينما» النجم الأسمر أحمد زكى يخيل لى أنها كانت بالأمس، حضوره العبقرى جعلنا ننسى تاريخ رحيله بالجسد فى 27 مارس 2005، كيف يكون قد غاب عنا 18 عامًا وهو حاضر أمامنا على الشاشة وساكن داخلنا فى الوجدان؟! 

إقرأ أيضاً|السلطان قلاوون يصلي بالناس يوميًا في شهر رمضان

إنه مثل صورة أسطورية مثل «عندليب الغناء» عبد الحليم حافظ، حضورهما العبقرى يجعلهما أحياء أكثر من الأحياء، وهناك مشتركات كثيرة بينهما، مشتركات اليتم والمرض والألم والعذاب والحرمان من الحب، كل منهما صهر الألم واليتم والتيه والدموع فى بوتقة من الصدق الذى أفرز لنا «عندليبًا فى الغناء» مازال يشدو وتلتف حول صوته أجيال من الشباب لم تعاصره، و»عندليبًا فى السينما» يندر أن تتكرر موهبته لأن الله لم يخلق سوى عبد الحليم واحد.. وأحمد زكى واحد. 
عندما التقيت النجم الأسمر أحمد زكى لأول مرة فى كواليس مسرحية «مدرسة المشاغبين»، تجسدت أمامى طيبة القلب ونقاء ابن الريف الخجول الذى صدم فى أخلاق المدينة المتوحشة، قال لى فى أول حوار أجريته معه إن بيوت وقصور الثقافة الجماهيرية بالزقازيق كانت المتنفس الأول للتعبير عن نفسه كممثل، لم يكن يعرف أنه عندما يأتى للقاهرة لكى يلتحق بمعهد الفنون المسرحية سيعانى من صعوبة التجانس السريع مع الوسط الفنى لأنه إنسان بسيط قضى سنوات عمره بالزقازيق وسط بسطاء لم يتلوثوا بعقد العظمة أوهيستريا الشهرة، لهذا تعب أحمد زكى - كما قال لى - من الانتظار والوعود والأحلام والأفلام التى لا تأتى، وفجأة، توقفت مع نفسه فى يوم ميلاده الثلاثين، ليراجع السنوات التى مرت من عمره دون أن ينجز شيئًا من الطموحات التى كان يحلم بتحقيقها، أحس أن القاهرة سرقت من حياته عشر سنوات كاملة بلا إنجاز أو طموح يتحقق، كانت الأشياء تختلط فى نفسه، الابتسامة بالحزن، والحزن بالضحك، والضحك بالدموع، وهو إنسان سريع البكاء، يدخل السينما ليشاهد ميلودراما من الدرجة الثالثة ينفعل وتسيل دموعه، وعندما يبدأ فى تحليل الفيلم الذى شاهده، يكتشف أنه فيلم سخيف فيضحك من نفسه على نفسه التى تتأثر وتبكى بشكل غير طبيعى، ويعود ليقنع نفسه بأن من لا يبكى هو فى النهاية إنسان يحبس أحاسيسه ويكبتها، تلك هى المشاعر التى نقلتها لى كلمات وأحاسيس «عندليب التمثيل» فى اللقاء الأول.  


وصف لى أحمد زكى حياته بأنها ميلودراما من نمط أفلام مخرج الروائع حسن الإمام، تبدأ الميلودراما التى خطها له القدر من لحظة ميلاده عام 1949، رحل والده وهو لم يكمل عامه الأول، لم تحتفظ ذاكرته بقسمات وجه أبيه، وتزوجت أمه بعد رحيل والده بفترة قصيرة جدا، قال لى إن والدته كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء، زوجوها وانتقلت لتعيش مع زوجها الجديد، لم تأخذه ليعيش معها فعاش متنقلًا يتنقل بين بيوت العائلة، فى السابعة من عمره رأى أمه التى تركته لتعيش مع زوجها الثانى عندما جاءت إلى البيت الذى يعيش فيه، رآها امرأة حزينة جداً، تنظر إليه بعينين حزينتين، قبلته دون أن تتكلم معه، ثم غادرت المكان، وجهها لم يفارق خياله أبدا، اكتشف فى السابعة من عمره أنه لم ينطق كلمة أبى أو أمى، وقال لى إنه عندما عمل بالفن كان يشعر فى داخله بارتباك عندما تمر أمامه كلمة بابا أو ماما فى حوار الأفلام والمسلسلات، لهذا تجذرت فى داخله شجرة الإحساس باليتم وتغلغلت فى كل تفاصيل حياته، وأصبحت الغربة من العلامات التى تقرأها فى عينيه، فلم يكن أمامه غير التمثيل الذى يفرغ فيه مشاعره المكبوتة، فأصبح حالة استثنائية تحتاج لكتاب إذ ما أردنا أن نكتب عنه.