محمود الوردانى يكتب: عن سردية فيروز كراوية ( 1 – 3 )

محمود الوردانى
محمود الوردانى

يفاجئك كتاب فيروز كراوية«كل ده كان ليه» سردية نقدية عن الأغنية والصدارة.. عن دار ديوان-301 صفحة من القطع الكبير، ويفاجئك هذا الجُهد الضخم حقا ورحلة البحث والتقصى الممتدة المترامية الأطراف. يفاجئك هذا الكم الهائل من المراجع والكتب والمقالات وقصاصات الصحف وتصريحات الفنانين والمعنيين وحواراتهم فى برامج التليفزيون وعلى الشبكة العنكبوتية. وربما لايفاجئك  درايتها ومعرفتها الحرفية بالموسيقى والغناء فهى فنانة وأصدرت من قبل خمسة ألبومات غنائية ونحو أربعين عملا غنائيا منفردا.

لكن ما سيفاجئك هو أنك لن تحتاج لمن يشرح لك المعانى الدقيقة للمقامات والموازيروقوالب الموسيقى والغناء، لأنها أوردتها فى سياق يمكنّك من التعرف على معانيها، فقد كان القارئ العادى غير المتخصص أحد هواجسها، وضرورة أن يفهم، وفى الوقت نفسه لم يكن ممكنا لها أن تنجز هذا العمل المتخصص دون استخدام تلك المصطلحات التى تخص أبناء المهنة.

لا أبالغ عندما أكتب هنا أن المكتبة المصرية كانت تحتاج بشدة لهذا الكتاب- المرجع- النقدى الذى يستند إلى منهج ماركسى متماسك وقادر على بناء «سردية» وهو الشكل الذى اختارته الكاتبة لتقدّم من خلاله رؤيتها.

وأريد بشدة أن ألفت الانتباه لهذا الإنجاز المعرفى والسوسيولوجى والتاريخى والفنى الحافل المحمّل بما يقترب من 400 مستند ومرجع تشتبك معهم الكاتبة وتتفق وتختلف معهم. يكفى أن أقول لك إن الكتاب يتابع رحلة الأغنية وتحولاتها على مدى قرن ونصف القرن.

ومنذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين. من عصر الطقطوقة والدور والأغنية وبواكير المسرح الغنائى، وحتى حقبة الراب والمهرجانات وعصر الإنترنت.

كتبت فيروز التاريخ، تاريخنا غير الرسمى، وليس مجرد تاريخ الأغنية أو تاريخ التطور الموسيقى. كان يعنيها بشدة فى سرديتها أن تقدّم الواقع والظروف والتفاصيل الدقيقة للتحولات والتغيرات والانقلابات فى مدى زمنى هائل، وأن تقدّم الأغنية داخل سياق ملموس.

ولذلك كان عليها أن تمتلك المعرفة بالواقع، والأهم المنهج المتماسك- وليس المنهج المُكبّل الجامد- بل المنهج المتسم بالمرونة والقدرة على تحليل ظواهر على هذا القدر من التعقيد والفرادة.

ومن جانب آخر، اختارت الكاتبة الطريق الأكثر صعوبة والذى يتطلب جهدا مضاعفا، وهو أن تتابع رحلة الأغنية من بداياتها وبواكيرها الأولى، وأن تعيد قراءة الأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية المرتبطة بها. الواقع وقراءته والاشتباك معه على مدى صفحات الكتاب لم يكن حلية أو حتى امتثالا لمنهج، بل مسرحا دارت على خشبته التحولات العاصفة.

وعلى الرغم من اشتباكها مع هذا الكم الهائل من المصادر المختلفة، إلا أنها كانت حريصة أيضا على أن تنتهى إلى وجهة نظر، ظلّت تدافع عنها طوال الوقت، وهى أن الأغنية والموسيقى ليست انعكاسا ميكانيكيا غبيا للواقع السياسى والاجتماعى، وفى الوقت نفسه هى جزء فاعل ومؤثر من الواقع ومشتبك معه.

وفعلى سبيل المثال، ترصد فى القسم الأول «من الحرملك إلى قلب تحولات المدينة» بدايات الغناء النسائى فى مصر فى القرن التاسع عشر، عندما جرى تغير فى «وضعية» النساء الاجتماعية، سمح لهن باقتحام الممارسة الفنية.

وفى الوقت نفسه كان  مايجرى فى الواقع هو نقطة التقاء محورية لمصر مع مشاريع التحديث السلطوية بصعود محمد على وأسرته للحكم، فى أعقاب الحملة الفرنسية وما أحدثته، ثم الاحتلال البريطانى وتأثيره، وفى الأسبوع القادم إذا امتد الأجل أواصل قراءة الكتاب.

اقرأ ايضاً| محمود الورداني يكتب: الفاجومي ونوارة (3) عن زينب والسيدة أم زينب