رمضانيات l«المشكاة».. إضاءة المساجد بأنوار الفن

المشكاة
المشكاة

محمد نور

الاهتمام بجمال المساجد ورونقها عادة مصرية قديمة، فالقاهرة مدينة الألف مئذنة - فى إشارة إلى العدد الهائل من مساجدها - تعج بمئات المساجد القديمة والحديثة، التى تتلألأ بأبوابها الخشبية المزخرفة، وسجادها المصنوع من أجود الخامات، وصولًا إلى المنابر والمآذن شاهقة الارتفاع، والمشكاوات بأشكالها المتعددة، والنجف الضخم الذى يزين أسقفها.

مؤخرًا، افتتح الرئيس عبدالفتاح السيسي،  «مسجد مصر»، بمركز مصر الثقافي الإسلامي في العاصمة الإدارية الجديدة، وهو المسجد الحاصل على 3 شهادات من موسوعة جينيس للأرقام القياسية، في احتوائه على أكبر منبر، وأكبر نجفة، وأثقل نجفة، حيث يصل ارتفاع أكبر منبر إلى 16.5 متر، وعرض 2 متر، بأجود أنواع الخشب من الجوز والموجنا والتيك والأبانوس والمبل والأرو، فضلًا عن تصنيعه يدويًا، ويضم المنبر عدد 40 درجة وارتفاع مستوى الخطيب يبلغ 7.5 متر، ومزود بمصعد لوصول الخطيب إلى منسوب إلقاء الخطبة، ويعلوه قبة من النحاس المطلي بالذهب ومطرزة بزخارف يدوية.
أما عن أكبر نجفة في العالم بموسوعة جينيس للأرقام القياسية، بنجف صحن المسجد، يبلغ قطرها 22 متًرا وارتفاع 22 مترًا، وتزن 25 طنًا، ومثبتة عن طريق 120 نقطة تثبيت، وبها برج سفلي بارتفاع 6 أمتار، والنجفة مزودة بـ4 طارات مضيئة قطر الكبرى منها 22 مترًا والأخرى 18 مترًا، وتحتوى على 105 مشكاوات مضيئة، وأكثر من 5 آلاف وحدة إضاءة، وحوالي 400 متر أشرطة إضافة ليد.

العصر المملوكى
شهدت الفنون بصفة عامة تقدما عظيما فى العصر المملوكى، ولم يقتصر دور الفنان على اقتباس بعض العناصر الزخرفية التى وصلت إليه نتيجة تعدد أجناس المماليك أنفسهم، واتساع نطاق العلاقات السياسية والتجارية مع دول العالم الإسلامى والدول الأوروبية فقط، بل اهتم فنانو العصر المملوكى بتنمية بعض الفنون الزخرفية وتقليد بعض أنواع المنتجات الفنية التى كانت تحظى بإقبال الناس عليها، وقد ظهر إبداع الفنان المملوكى على التحف الزجاجية فتنوعت الزخارف عليها من زخارف نباتية وحيوانية وزخارف كتابية فضلا عن الرنوك التى كانت تتميز بها الفنون المملوكية، كما تنوعت أيضا الزخارف الكتابية على التحف الزجاجية، فكانت هناك كتابات قرآنية وأدعية وكتابات تاريخية وتذكارية ظهرت عليها الخاصة بالسلاطين والأمراء وخاصة المشكاوات، لأنها كانت أكثر التحف الزجاجية إنتاجا فى العصر المملوكى كما يذكر على بعضها المكان الخاص بها وأحيانا توقيع بعض الصناع.

ويقول الدكتور ضياء زهران، أستاذ الفنون والعمارة الإسلامية بكلية الآداب، إن المشكاة هى الوسيلة أو الزجاجات أو القناديل التى كانت توضع فيها المصابيح، وقد استُمد هذا الاسم من الآية الكريمة: «اللَّهُ نُورُ السَّمَأوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ»، والمشكاة عبارة عن إناء يوضع فيه مصباح النار، وهو إناء صغير به الزيت والفتيل الذى يوقد للإضاءة، وذلك لحفظه من هبَّات الهواء ولتوزيع الإضاءة فى المكان، وكان المصباح يثبت فى داخل المشكاة بواسطة أسلاك تربط بحافتها، وتشبه المشكاة فى شكلها العام إناء الأزهار (الزهرية)، فهى ذات بدن مُنتفخ ينساب إلى أسفل، وينتهى بقاعدة ولها رقبة على هيئة قمع مُتسع، ألوانها بين الأحمر والأخضر والأبيض والوردى، ولكل مشكاة مقابض أو آذان قد تكون ثلاثه أو أكثر تعلق بها سلاسل معدنية تجتمع كلها عند كرة بيضاوية الشكل.

عصر  المشكاوات!
أضاف، أن العصر المملوكى أمدنا بأمثلة عديدة ومختلفة من المشكاوات الزجاجية المزخرفة بالمينا والمموهة بالذهب والخالية من الزخارف بما يقرب من 300 مشكاة، وهى موزعة فى متاحف العالم، وبعض المجموعات الخاصة منها لإنارة المساجد والأضرحة والخانقاوات وكانت أكثر شيوعا، ومنها لإنارة القصور والمنازل وهى قليلة، ومنها لإنارة الكنائس.

وأشار إلى أن أقدم المشكاوات التى يحتفظ بها متحف الفن الإسلامى ترجع لعصر الأشرف خليل بن قلاوون، وصاحب أكبر عدد من المشكاوات هو السلطان الناصر حسن بن قلاوون، ويبلغ عددها 19 مشكاة على بعضها كتابات باسمه، إضافة لمشكاوات باقى السلاطين الأمراء، موضحا أن الزخارف التى كانت تزين أبدان المشكاوات بألوان المينا المتعددة والخطوط المذهبة، فقد اقتصرت على الزخارف الكتابية، ورسوم النباتات والأزهار مثل زهرة اللوتس وزهرة نبات الخشخاش وزهرة عود الصليب وغيرها، وقد تكون هذه الرسوم محصورة فى أشكال هندسية، أو تكون منتشرة فى بدن المشكاة، والأشكال الهندسية المتعددة، ولا يخرج عن هذه القاعدة سوى بضع مشكاوات صُنعت لبعض سلاطين المــمـــاليك مـــــن آل قــــــــلاوون، واســــتخدمـــت فــــى زخارفهـــا رســـوم «البــــط»، كمــــا حظيت المشــــكاوات برســـم الرنوك الحيوانية التى ترمز إلى القــوة والشجاعة وأهمهــــا النســـر والببــر والفهــد، أو رنــــــوك كتابية وهى خاصة بالســــلاطين، أو رنـــــــــــوك وظائفية مثل الكأس والبقجة والســلاح، وبالنسبة للزخارف الكتــــابيـــــة فيمكـــن تقســـــيمها لقســـمين، كتـــابات دينيـــة تتضــمن جمل دعائية أو آيات قرآنية وخاصة سورة النور وآية الكرسى وسورة التوبة، وكتابات تاريخية تشتمل أم السلطان وألقابه وصفاته، وقد كُتبت هذه الزخارف الخطية بالخط الثلث المملوكى أو الخط الكوفى المضفور على أرضية مؤرقة جميلة.

الأسلوب الصناعى
وأوضح زهران، أنه بالنسبة للأسلوب الصناعى والزخرفى الذى استُعمل فى صناعة وزخرفة الزجاج فقد ظلت على ما كانت عليه من قبل من حيث الأسلوب الصناعى من نفخ فى الهواء ونفخ فى القالب لعمل التضليعات والتفصيلات الكثيرة من رسوم هندسية ونباتية وكتابية، كما استُعملت طريقة الزجاج فى الزخرفة سواء كانت بنفس لون العجينة أو ملونة وذلك فى عمل خطوط بارزة رفيعة أو سميكة حسب الحاجة تلتف حول الرقبة أو البدن، وفيما يتعلق بطريقة التذهيب، والطلاء بالمينا، وهو أسلوب زخرفى يميز االمشكاوات الزجاجية المملوكية، والمينا هى كلمة فارسية الأصل عُرفت بأنها حجر من الرصاص المعتم المعروف بأول أكسيد الرصاص ثم يخلط بالألوان المتعددة التى اقتصرت فى الغالب على أربعة أو خمسة ألوان، وعملية تنفيذ الزخرفة والطلاء بالمينا على المشكاوات الزجاجية تمر بمراحل متعددة منها رسم الخطوط الخارجية للزخارف بواسطة الريشة، وملء المساحات الكبيرة بالفرشاة، وحرق المشكاة فى الفرن الخاص بذلك، وتحديد موضوع الرسم باللون الأحمر، إضافة إلى الطلاء بالمينا حسب اللون المطلوب والقوام المتفاوت فى السمك، وتكتسب المينا لونها من نوع الأكسيد المستخدم، فأكسيد النحاس مثلاً يعطى اللون الأخضر، وأكسيد الحديد يعطى اللون الأحمر، وأكسيد القصدير يعطى اللون الأبيض المعتم، أما اللون الأزرق فيُعمل من مسحوق اللازورد والزجاج الشفاف، وتتطلب درجات لا تقل عن500 وتصل الى 750 م تقريباً، وهذا المدى الحرارى يعمل على تثبيت الدرجات اللونية حرارياً، وبوسائط مصهرة مع السليكا فتمتزج بسطح المشكاة، ولا يتم إزالتها بسهولة.

المقابض
ويشير أستاذ الفنون والعمارة الإسلامية إلى أن زخارف مقابض المشكاوات خضعت فى بداية العصر المملوكى لمحاولات جادة من الفنان للوصول بها إلى الشكل الذى يرضاه، فهو تارة يحيطها بمنطقة لوزية مدببة من أسفل، وتارة أخرى يحيطها بدائرة صغيرة أو جامة مفصصة، وقد لجأ الفنان فى بعض الأحيان إلى الاستغناء عن حصر مقبض المشكاة داخل مناطق زخرفية بتوسيع الجزء الأسفل من المقبض حتى يمكن استغلال هذه المساحة فى زخرفتها بشكل نباتى مبسط لا يخلو من الجمال، ثم ما لبث الفنان أن استقر فى النهاية فى عصر الناصر محمد بن قلاوون على إحاطه مقبض المشكاة غالبا بمنطقة لوزية مدببة من أسفل، أو مدببة الطرفين، يحيطها بإطار خالٍ من الزخارف أو مزخرف برسوم نباتية مكررة، ويتضح ذلك فى مقابض مشكاتى السلطان الناصر محمد بن قلاوون المحفوظة بمتحف الفن الإسلامى بالقاهرة، كما يظهر فى مشكاة الأمير آل المحفوظة بمتحف الفن الإسلامى، وهى محصورة داخل منطقة لوزية مدببة من الطرفين مزخرف إطارها برسوم نباتية عربية مكررة، والمقابض جزء لا يتجزأ من بدن المشكاة، وتضيق فى الجزء العلوى منها للحفاظ على ثبات المشكاة، لافتا إلى أن لون زجاج المشكاوات المملوكية تميز بأنه معتم قليلاً يميل للون الأصفر بدرجات متفاوتة نظرا لمكونات السليكا التى تكتنفها بعض الشوائب، وكذلك وجود فقاعات ناتجة من عيوب الصناعة، وهذا مما يميزه فى تلك الفترة ووجود الفقاعات الهوائية ناتج من الأسلوب الصناعى للمشكاوات المملوكية وهو أسلوب النفخ فى الهواء وهى ميزة تميزت بها غالبية المشكاوات الزجاجية فى هذا العصر.

اللقب.. والرنك!
من جانبه، قال الدكتور عبد المعطى البيومى سالم، الأستاذ بقسم الحضارة بحامعة الأزهر، إن المشكاوات كانت تستخدم لإنارة المساجد وكانت من الأشياء التى أولاها سلاطين المماليك اهتماما كبيرا، وتشبه المشكاة فى شكلها العام الزهرية، فهى ذات بدن منتفخ أو كروى أو بيضاوى ينساب إلى أسفل، وينتهى بقاعدة ولها رقبة على هيئة قمع متسع وتستدق قليلا عند التصاقها بالبدن، وبداخل المشكاة يوضع إناء صغير به الزيت والفتيل الذى يوقد للإضاءة، وزُخرفت المشكاة بالزخارف الكتابية، وهى عبارة عن كتابات تتضمن جملا دعائية أو آيات قرآنية، أو تاريخية تشتمل اسم السلطان وألقابه وصفاته، لافتا إلى أن هذه الزخارف كُتبت بالخط الثلث المملوكى أو الخط الكوفى المضفور على أرضية مؤرقة جميلة، واستُخدمت المشكاوات فى العصور الوسطى وخاصة فى مصر والشام، وقد احتلت مكانًا أثيرًا فى أوقات الاستزادة من الإضاءة خلال المناسبات خاصة شهر رمضان.

أضاف، أن هناك مشكاوات صُنعت للسلاطين، فألقاب السلطان واسمه كانت تُكتب بخط واضح على بدن المشكاة، كما يوضع اسمه فى أشرطة كتابية بأسفل وأعلى المشكاة، أما بعض الأمراء فكانوا يكتفون بوضع «رنكهم»، و«الرنك» تعنى بالفارسية «اللون»، وهى تعنى فى العصر المملوكى «الشارة» التى توضع على البيوت والأماكن والأشياء المنسوبة إلى صاحب «الرنك»، ومعظم الرنوك يدل على وظائف أصحابها، فشعار «الدوادار» الدواة، وشعار «السلحدار «السيف، والساقى شعاره الكأس، و«البريدى» شعاره درع مقسم إلى ثلاثة أقسام أفقية ثم اتخذ من «بغل البريد» رنكًا له بعد ذلك، مشيرا إلى أن عدد المشكاوات الإسلامية يبلغ نحو 300 مشكاة كاملة معظمها يعود إلى عصر المماليك، ولكن هناك صعوبة فى تحديد أماكن صناعتها سواء فى مصر أو سوريا بسبب تشابه طرق الصناعة والزخرفة بالبلدين.

تطور كبير
الدكتور محمد أمين بدوى، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر، يقول إن إضاءة المساجد شهدت تطورًا كبيراً، بداية من المشكاوات والمصابيح ووصولاً إلى الثريات العملاقة، لافتا إلى أن الكعبة المشرفة قديماً كانت محاطة من جميع جهاتها بأساطين عدة، بين كل أسطوانتين غطاء خشبى فى الأعلى مزين بنقوش وكتابات جميلة، ويتدلى من ذلك الغطاء سلاسل وحلقات يعلق عليه الشمع والمصابيح ليلاً، وفى القرن السادس الهجرى كان حول الكعبة المشرفة أخشاب مركوزة عليها مشاعل توقد فى صحاف من حديد.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 29/3/2023

أقرأ أيضأ : وزير الأوقاف: مركز مصر الثقافي ودار القرآن الكريم لا مثيل لهما في العالم