ذكرى«العاشر من رمضان».. ملحمة البـطولة والإيمان

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

قبل نحو نصف قرن من الآن، وتحديداً فى العاشر من رمضان عام 1393 هجرى الموافق السادس من أكتوبر عام 1973 ميلادي، صنع أبطال الجيش المصرى ملحمة بطولية سجل التاريخ فصولها وتفاصيلها بحروف من نور، وحكاية عزة وشرف تتوارثها الأجيال، جيلا من بعد جيل.. واليوم تحتفل مصر بالذكرى الخمسين لمعركة الكرامة والفخر التى انتصر فيها الجيش المصرى على العدو الإسرائيلي، واستعاد أرض سيناء، بعد احتلالها لمدة 6 سنوات.. فى مثل هذا اليوم، وتحديداً عند دقات الساعة الثانية ظهراً، بدأت ملحمة العبور العظيم، بعدما نفذت أكثر من 200 طائرة حربية مصرية ضربات جوية على العديد من الأهداف الإسرائيلية بالضفة الشرقية للقناة، حيث استهدفت الطائرات المصرية مراكز القيادة الإسرائيلية ومحطات الرادار والإعاقة الإلكترونية وبطاريات الدفاع الجوى وتجمعات الأفراد والمدرعات والدبابات والمدفعية والنقاط الحصينة فى خط بارليف ومخازن الذخيرة.

جاء نصر العاشر من رمضان ليرسخ مكانة شهر رمضان المبارك باعتباره شهر الانتصارات العظيمة سواء قديماً أو حديثاً، ومنها انتصارات المسلمين على أعدائهم فى غزوة بدر الكبرى يوم 17 رمضان عام 2 هجري، بالإضافة إلى فتح مكة يوم 20 رمضان عام 8 هجري، فضلًا عن موقعة عين جالوت التى انتصر فيها المصريون على جيش التتار.

وفى يوم العاشر من رمضان عام 1393 الموافق ليوم 6 أكتوبر 1973، علت صيحة «الله أكبر» فى أرجاء أرض الفيروز، وزُلزلت الأرض من تحت أقدام الأعداء الغاشمين، وألقت صيحة النصر الرعب فى قلوبهم، حتى كتب الله النصر المبين لأبناء أرض الكنانة.

لم تكن صيحة «الله أكبر» فى أرض المعركة قد سبقها تدريب على الدعاء بها، ولكنها انطلقت من قلب ووجدان الجنود المصريين لحظة عبورهم قناة السويس، لتؤكد أن النصر آت لا محالة، ومن هنا كانت حرب العاشر من رمضان أو السادس من أكتوبر ملحمة بطولية بكل المقاييس، وستظل روح العاشر من رمضان شاهدة على بسالة وصبر وعزيمة الجندى المصرى الذى عبر خط بارليف المنيع فى نهار شهر الصيام ليحقق النصر المبين .

توقيت الحرب
لم يأت اختيار يوم العاشر من رمضان ليكون يوم المعركة المجيدة صدفة، فقد كان هو الوقت المناسب فى الجبهة السورية، لا سيما أن فى شهر نوفمبر يبدأ الجليد يتساقط على هضبة الجولان السورية، ووقتها ستكون حالة الطقس غير مناسبة للحرب فى الجبهة السورية، علاوة على أن شهر أكتوبر كان متزامناً مع شهر رمضان وقتها، وهى مناسبة إسلامية لا يتوقع فيها حدوث عملية هجوم شاملة.. وانتهت حسابات القادة العسكريين وقتها إلى أن مدة تنفيذ العملية العسكرية المصرية لعبور القناة، تستغرق 8 ساعات، وأول رد فعل للعدو سيكون بعد 6 ساعات وفقاً لقواعد انعقاد مجلس الوزراء للعدو واتخاذ قرار الحرب، ومن ثم يكون التوقيت الزمنى المناسب لساعة الصفر بين 12 إلى 2 ظهراً، بحيث تنتهى العملية العسكرية المصرية مع نهاية اليوم، ويعجز العدو عن الرد لحلول الظلام، وتكون مصر أمام نجاح حقيقى على أرض المعركة.

واختير توقيت الساعة 2 ظهراً ليكون ساعة الصفر لأنه علمياً لا يصح بدء المعركة والشمس أمام الجنود لأنها ستكون عائقا كبيرا، والأفضل أن تتم العملية عندما تتعامد أشعة الشمس على الرؤوس وهو ما كان.

وحمل دراسة توقيت الحرب اللواء عبد الغنى الجمسي، ثم رفعها للفريق الشاذلى، ثم للمشير أحمد إسماعيل، ثم للرئيس السادات، وتمت الموافقة على الميعاد، وبالفعل كانت ساعة الحسم الساعة 2 ظهراً يوم 6 أكتوبر 1973.

الأبطال صائمون
أجمع الجنود والضباط أنهم خلال أيام الحصار، لم يجدوا ما يأكلونه وتعددت الأفكار لتوفير لقيمات تسد رمقهم ومنها فكرة خلط «الجلوكوز» مع البسكويت أو اللبن الصناعى، لتكون هذه الوجبة سحورهم وإفطارهم خلال صيام شهر رمضان، أو خلط الدقيق مع الماء وتعريضه للشمس وتناوله كخبز واعتادوا أن يقتسموا الطعام، فسواء كان الجندى مسيحيا أومسلما فالجميع صائمون. 
الأجواء الرمضانية لم تكن تختلف عنها فى الأيام العادية، فالحياة العسكرية لا يختلف إيقاعها ولا عقيدتها بحسب الظروف والمناسبات، بل كانت التدريبات فى أوجها، وقد قال بعض الجنود عن الأجواء الرمضانية: الحياة فى رمضان كانت عادية جداً، الكتيبة كلها كانت صايمة، بالاضافة للمشاركة فى مناورات إستراتيجية ضخمة، والتدريب فى أى وقت سواء فى رمضان أو غيره، وذلك للوصول لأعلى درجات الاستعداد القتالى طوال الوقت .

أسرار النصر
عبر أثير الإذاعة المصرية استمع الجنود المرابطون على جبهة القنال طوال الليل بجفون لا تغمض وأعصاب لا تهدأ استعداداً لساعة الصفر إلى القرآن الكريم لصلاة فجر العاشر من رمضان. وتلى القارئ الشيخ من سورة آل عمران بقول الله تعالى: « قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ»، ثم قول الله تعالى: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».. على الجبهة فى سيناء  كان كل شىء ساكنا إلا  صوت المذياع والجنود يستمعون فى خشوع إلى قرآن الفجر.

أكد اللواء أركان حرب محمد الغباري، مدير كلية الدفاع الوطنى الأسبق، أنه توجد العديد من العوامل التى حققت النصر من أهمها التخطيط والاعداد الجيد والتسليح والتدريب المستمر والعمل الجمعى لتحقيق النصر العظيم، وتواكب مع ذلك التأهيل المعنوى للقوات وإعداد الجندى إيمانياً من خلال برامج التوعية الدينية التى أعدتها إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة والتى ارتكزت على إعلاء قيمة التضحية والفداء والاستشهاد واستمرت فى اطار الخطة العامة لإعداد بناء القوات المسلحة والتى بدأت عقب هزيمة يونيو 1967. 

وقال: لقد استلهم الجندي المصري روح معركة بدر التى بنيت على أساس استرداد حقوق المؤمنين الذين تركوها حال هجرتهم من مكة إلى المدينة المنورة، وكيف أن فئة قليلة بإيمانها وعقيدتها وتخطيطها الجيد واختيار زمان ومكان وأرض المعركة حققت النصر المبين على الفئة الكثيرة، وتحقق وعد الله تعالى بالنصر الذى يتحقق بالإيمان واليقين أن الحق ينتزع وأن الله تعالى نصر الحق.

وأضاف الغباري أن تلك الروح الوثابة والعقيدة الراسخة لقواتنا المسلحة التى تتوارثها الاجيال هى التى مكنتها من الانتصار فى حروب الجيل الرابع ودحر الإرهاب ومواجهة التحديات التى تتخذ العديد من الوسائل والأدوات والأساليب الحديثة والتى تعمد إلى تفتيت المجتمعات وبث الاكاذيب والشائعات التى تستخدم كوسيلة وأداة من أدوات العمليات النفسية لهدم وتفكيك الدول من الداخل.

بناء وتنمية
ويقول اللواء أركان حرب محمد زكي الألفي، أحد أبطال حرب العاشر من رمضان، والمستشار بأكاديمية ناصر العسكرية، إن ذكرى حرب العاشر من رمضان تمثل شرارة البناء والتنمية والعمل والإنجاز فى مختلف المجالات وعلى جميع الاتجاهات الاستراتيجية بالدولة، وانطلاقة نحو الإصلاحات التى تشهدها قطاعات الدولة ومؤسساتها بفضل هذا الإنجاز العسكرى الكبير الذى أظهر شجاعة وبسالة الجندى المصرى وإصراره على الانتصار والموت فى سبيل أن يعيش هذا الوطن بعزة وكرامة، ولولا نجاح العبور فى هذا التاريخ المجيد ما كان يمكن أن نستعيد الأرض التى احتلها العدو، وما كان يمكن لمصر أن تستمر فى عملية البناء والتنمية والاستقرار رغم وجود العديد من التحديات والتهديدات والعدائيات التى تحيط بنا منذ عام 1973 ولم تتوقف حتى الآن وأتخذت أشكالا مختلفة.

وأضاف اللواء الألفي، أن جيش مصر العظيم درع الوطن الحصين قدم ولا يزال العديد من التضحيات من أجل الدفاع عن حقوق الشعب المصري، ويقوم بدوره الحاسم فى اقتلاع جذور جماعات العنف والإرهاب التى تحاول العبث بأمن واستقرار البلاد.

اقرأ أيضًا | محافظ الغربية يهنئ الرئيس والشعب المصري بذكرى العاشر من رمضان 

لا خوف ولا تراجع
وقال اللواء نصر سالم، أحد أبطال حرب أكتوبر والخبير الاستراتيجى، إن الشرف والعزة، كانا شعاراً أساسياً للجيش المصرى فى أثناء الحرب، فكان الأبطال يحاربون بشرف دون خوف ولا تراجع، حيث كانت كل خطوة تسجل تاريخًا عريقًا وتراثًا يورث.

وأضاف اللواء سالم أنهم ظلوا أياما عديدة متواصلة متماسكين لم يتراجعوا خطوة للوراء، وكان كل من الجنود يكتب مذكراته حتى تكون ذكرى، لافتًا أنه بعد مرور أعوام عديدة على هذه الحرب المشرفة بدأ فى كتابة مشاهد وأسرار كثيرة حول حرب أكتوبر فى كتابه «180 يوماً خلف خطوط العدو»، حتى تكون ذكرى خالدة فى عقول المصريين كافة.

وقال : «تحمل رجال الاستطلاع الصيام أياما طويلة، وكنا نعيش على القليل من الخبز والماء الذى كان يحاول بدو سيناء توفيره لنا من وراء العدو الذى كان يلاحقنا فى كل مكان».

وأوضح سالم أن رجال الاستطلاع كانت أيامهم كلها رمضان وصيام قبل العبور وبعده، وقال: «هذا منحنا النصر فى أكتوبر أمام عدو حاول جاهداً خلق صورة مستفزة أمام العالم بأنه القوة التى لا تقهر، وأن المصريين أمامهم نصف قرن حتى يستعدوا للوقوف أمامه».

عرق ودم
وقال اللواء طيار الدكتور هشام الحلبى المستشار بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، إن التخطيط كان أساس الانتصار، وجرى التدريب على كل التفاصيل المتعلقة به بشكل محترف، وهناك مقولة مهمة، وهى أن العرق فى التدريب يوفر الدم فى المعركة، وبالتالي كان العبور سيمفونية رائعة أبهرت العالم.

أما اللواء أركان حرب محمد عبد المنعم طلبة، أحد أبطال سلاح المدفعية فى حرب أكتوبر فقال إنه على الرغم من صدور فتوى رسمية من مشيخة الأزهر تبيح للجنود الافطار فى نهار رمضان اثناء الحرب، إلا ان القادة والجنود البواسل واصلوا الصيام متوكلين على الله فى شهر الخيرات والانتصارات، وكان كل فرد على الجبهة يبحث عن الشهادة دفاعاً عن الوطن ليلقى وجه الله وهو صائم.