فصاحة القرآن.. «سلامة الابتداع»

صورة موضوعية
صورة موضوعية

كتب الأستاذ الكبير أبو فهر محمود شاكر ـ كعادته ـ كلامًا نفيسًا فى مطلع كتابه «رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا» يقفنا فيه على معالم منهجه فى التذوق الأدبي وكيف لاحت له بدايات هذا المنهج، ذلك أنه قرأ كلامًا للإمام الجرجاني الكبير يشير فيه إلى أن بعض الشعراء قد يسبقون إلى معانٍ مبتدعة لم يسبقهم إليها أحد ولم يأتِ بعدهم أحد بما يدانيها، وكذا الحال فى الكلام المنثور ففيه من سوابق الابتداع ما فيه، ثم ضرب أمثلة على كلامه، ومن أبلغ ما مثّل به كلمة لسيدنا علي بن أبي طالب رضى الله عنه يقول فيها: «قيمة كل امرئ ما يحسنه»!

وهذا المعنى الذى أشار له شيخ العربية قد سماه بعض البلاغيين بـ«سلامة الابتداع»، وهو ـ فى عُرفهم ـ أن يبتدع الشاعر معنى لم يسبق إليه أحد، ولم يأتِ أحد بعده بما يدانيه!
والأمثلة على ذلك من كتاب الله كثيرة، ولعل أحدًا ينعم النظر فى كتاب الله ليجمع الأمثلة الدالة على «سوابق الابتداع من القرآن الكريم»، ويكشف لنا عن مكنون أسرارها الإعجازية، ولست أدرى إن كان قد تصدى لجمع هذا الباب أحد من الكُتّاب أم لا؟

ومن الأمثلة على ذلك من كتاب الله قوله تعالى فى سورة الحج: ﴿يا أيها الناسُ ضُرِبَ مَثلٌ فاستمِعُوا له إنّ الذينَ تَدعُونَ مِن دونِ الله لن يخلقُوا ذبابًا ولوِ اجتَمعُوا له وإنْ يَسلُبْهمُ الذبابُ شيئًا لا يستَنقِذُوهُ منهُ ضَعُفَ الطالبُ والمطلوبُ﴾!

اقرأ أيضًا | سفراء دولة التلاوة المصرية يحيون مقارئ القرآن الكريم للجمهور وحلقات التحفيظ عالميًّا

تأمّل معى هذا المثل البليغ الذى لم يسبق لأحد أن حام حوله، يقول لهؤلاء الذين يعبدون الأصنام من دون الله: ضُرب مثل فاستمعوا له: إن الأصنام التى تعبدونها لا تستطيع أن تخلق أحقر مخلوق وهو الذباب، بل لو اجتمعت أصنامكم جميعًا فلن تخلقه، ثم يتنزّل القرآن معهم فى التحدى والنزول بالتمثيل، فيقول لهم: «وإنْ يَسلُبْهمُ الذبابُ شيئًا لا يستَنقِذُوهُ منهُ»، إذا سرق الذباب منهم شيئًا لا يستطيعون استنقاذه منه مرة أخرى، فإذا كانت آلهتكم بهذا العجز عن خلق الذباب الحقير، بل يعجزهم الذباب بما يسرقه منهم، فهم أشد عجزًا عما هو أكبر من هذا، فكيف تعبدونها من دون الله؟!

د. محمد عاطف التراس