خواطر الإمام الشعراوي :الإيمان بالغيب

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

 يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 285 من سورة البقرة فى قوله تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» قائلا ً:عناصر الإيمان فى هذه الآية هي: إيمان بالله وهو غيب, وإيمان بالملائكة وهى غيب من خلق الله، ولو لم يبلغنا الله أن له خلقاً هم الملائكة لما عرفنا، إن الحق أخبرنا أنه خلق الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم غيب، ولولا ذلك لما عرفنا أمر الملائكة إيمان بالكتب والرسل.


وقد يقول قائل: هل الرسل غيب؟ وهل الكتب السماوية غيب؟ إن الرسل بشر، والكتب مشهودة. ولمثل هذا القائل نقول: لا، لا يوجد واحد منا قد رأى الكتاب ينزل على الرسول، وهذا يعنى أن عملية الوحى للرسول بالكتاب هى غيب يعلمه الله ويؤمن به المؤمنون. وكيف نؤمن بكل الرسل ولا نفرق بين أحد منهم؟.


ونقول: إن الرسل المبلغين عن الله إنما يبلغون منهجاً عن الله فيه العقائد التى تختلف باختلاف العصور، وفيه الأحكام التى تختلف باختلاف العصور ومواقع القضايا فيها. إذن فالأصل العقدى فى كل الرسالات أمر واحد، ولكن المطلوب فى حركة الحياة يختلف؛ لأن أقضية الحياة تختلف، وحين تختلف أقضية الحياة فإن الحق سبحانه ينزل التشريع المناسب، لكن الأصل واحد والبلاغ من خالق لا إله إلا هو، ولذلك يأتى القول الحكيم: «لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ» فنحن لا نفرق بين الرسل فى أنهم يبلغون عن الله ما تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية الاعتقاد، وما تختلف من ناحية الأحكام التى تناسب أقضية كل عصر.


وبعد ذلك يقول الحق؛ «وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» إذن السماع هو بلوغ الدعوة والطاعة هى انفعال بالمطلوب، وأن يمتثل المؤمن أمراً ويمتثل المؤمن نهياً فى كل أمر يتعلق بحركة الكون. فالذين يريدون أن يعزلوا الدين عن حركة الحياة يقولون: إن الدين يهتم بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج.


وبعد ذلك يحاولون عزل حركة الحياة عن الدين. لهؤلاء نقول: أنتم تتكلمون عما بلغكم من دين لم يجىء لينظم حركة الحياة، وإنما جاء ليعطى الجرعة المفقودة عند اليهود وهى الجرعة الروحية، لكن الدين الإسلامى جاء خاتماً للأديان منظماً لحركة الحياة، فكل أمر فى الحياة وكل حركة فيها داخلة فى حدود الطاعة. ونحن حين نقرأ القرآن الكريم، نجد القول الحكيم: «يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» «الجمعة: 9».


إذن الحق سبحانه يأمر المؤمنين ويخرجهم من حركة من حركات الحياة إلى حركة أخرى، فهو لم يأخذهم من فراغ، إنما ناداهم لإعلان الولاء الجماعي، وهو إعلان من كل مؤمن بالعبودية لله أمام بقية المخلوقات. وبعد أن يقضى المؤمنون الصلاة ماذا يقول لهم الحق سبحانه؟ يقول لهم: «فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «الجمعة: 10». إذن فالانتشار فى الأرض هو حركة فى الحياة، تماماً كما كان النداء إلى السعى لذكر الله.


وهكذا تكون كل حركة فى الحياة داخلة فى إطار الطاعة، إذن (سمعنا وأطعنا) أى سمعنا كل المنهج، ولكن نحن حين نسمع المنهج، وحين نطيع فهل لنا قدرة على أن نطيع كل المنهج أو أن لنا هفوات؟.
ولأن أحداً لن يتم كل الطاعة ولنا هفوات جاء قوله الحق: «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير» فالغاية والنهاية كلها عائدة إليك، وأنت الإله الحق، لذلك فنحن العباد نطلب منك المغفرَة حتى نلقاك، ونحن آمنون على أن رحمتك سبقت غضبك .