لحظة السويس

إيهاب فتحى
إيهاب فتحى

  قبل ثلاثة أعوام كتبت مقالا بعنوان ( معادلة الثلج والصحراء فى الشرق الأوسط) ونشر فى العزيزة (صباح الخير) مناسبة المقال كانت توقيع اتفاق السلام بين إسرائيل ودولة الإمارات برعاية الولايات المتحدة والصراع الممتد بين واشنطن وبكين من ثلوج أوكرانيا إلى صحراء الخليج .

تولى المقال نقد التفسيرات التى تم تداولها وقتها حول هذا الاتفاق وهى فى أغلبها تنتمى إلى فئة "الكليشيهات" المعتادة عند وقوع حدث مماثل، كان الكليشيه الدائم منذ ظهور إسرائيل فى المنطقة العربية برعاية أمريكية هو أن أى قرار للإدارة الأمريكية تكون إسرائيل طرفا فيه يكون سببه البحث عن أصوات اللوبى اليهودى مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية وبالإضافة أن الرئيس الأمريكى يبحث عن شعبية. يتم التعامل هنا وفق هذا " الكليشيه" مع دولة بحجم الولايات المتحدة ـ الحقيقة هى ليست دولة بل امبراطوريةـ كأنها دائرة انتخابية فى دولة محدودة يتنافس فيها المرشحون على مئات الأصوات.
بنفس المنطق يتم التعامل مع الرئيس الأمريكى على أنه مطلق السراح فى إصدار القرارات وعقد الاتفاقيات لكن امبراطورية مثل الولايات المتحدة توجد بها مؤسسات تشريعية وأمنية ولوبيات مصالح متنافسة ومتوافقة  تدير تريليونات الدولارات عبر البحار تستطيع بسهولة تحجيم قرارات الرئيس الأمريكى النهم فى الحصول على الأصوات التى قد تكون على حساب مصالحهم أومصالح أمريكا.
أما بالنسبة للشعبية التى سيحققها الرئيس الأمريكى من وراء الاتفاق فلا أعتقد أن المزارعين فى ولايات كألينوى وأيوا بمجرد سماعهم توقيع الاتفاق الإماراتى/ الإسرائيلى سيخرجون أمام مزارعهم الشاسعة لفول الصويا والذرة حاملين صور دونالد ترامب (الرئيس الأمريكى وقتها) مؤكدين على انتخابه لتحقيقه هذا الاتفاق المعجز.
يبدو أن تاريخ الانتخابات الأمريكية لا يوافق هو الآخر على هذا "الكليشيه" فالرئيس الأمريكى هارى ترومان الذى اعترف بإسرائيل بعد تأسيسها بـ 11 دقيقة والصديق الصدوق للوبى اليهودى وصل به الأمر إلى الانسحاب من الانتخابات بعد 18 يوما لأنه اكتشف مدى تدنى شعبيته بل هذه الشعبية المتدنية جعلت مرشح الحزب الديمقراطى أدلاى ستيفنسون يخسر أمام مرشح الحزب الجمهورى داويت أيزنهاور فى انتخابات العام 1952
بعد 40 عاما وفى الانتخابات الأمريكية للعام 1992 يخسر جورج بوش الأب أمام السياسى الشاب بيل كلينتون بعد أن أزاح بوش الأب خطر العراق من أمام إسرائيل نتيجة حماقة صدام حسين ونظم مؤتمر مدريد للسلام حتى يعيد صياغة وضع إسرائيل فى الشرق الأوسط لكن فى النهاية سقط بجدارة فى الانتخابات أمام منافسه الذى تكلم بلغة عصره وبحديث الاقتصاد.
يأتى " كليشيه " آخر من واقع إغلاقنا كل حدث على ذواتنا، رعت الولايات المتحدة الاتفاق سعيا وراء إنهاء القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى، مانراه جميعا منذ تأسيس إسرائيل أن الولايات المتحدة منحازة لإسرائيل بالكامل ولاترى قضيتنا الأولى ونقلت سفارتها إلى القدس دون الاختباء وراء أى اتفاقات، الأهم أن أصحاب القضية الفلسطينيين أنفسهم ذهبوا إلى  أوسلو وتفاوضوا مع إسرائيل دون علم أمريكا والعرب وقتها وارتضوا ببقايا أوسلوا بعد أن رفضوا دعوة مينا هاوس من الرئيس السادات فى العام 1977وكانوا سيحصلون على أضعاف ماحصلوا عليه فى أوسلوا أدى اعتياد " الكليشيهات " نسيان البعض أن هناك " سلاما " موقع بالفعل بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإلى آخر لحظة لن تتخلى أمريكا عن إسرائيل أو أن تكديس أوراق اتفاقيات "السلام" فى البيت الأبيض سيفتح لها المزيد من أبواب المصالح فى منطقتنا العربية.
لا تحتاج الولايات المتحدة لبذل أى جهد من أجل تفتيت القضية الفلسطينية فالانقسام الفلسطينى / الفلسطينى يقوم بدوره بين سلطة لاتعرف ماذا تريد وإمارة حماس التى تبيع القضية لمن يدفع أكثر.
هذا كان نقد الكليشيهات التى حامت حول الاتفاق الذى وقع قبل ثلاث سنوات، أما تفسير خلفيات هذا الاتفاق فكانت تقودنا إلى مصطلح " فرق التفكير المنفتح " الذى يطرح أبعادا مختلفة حول الحدث السياسى الذى يتم تحليله وفى نفس الوقت يقودنا إلى الصراع الرئيسى فى العالم بين الولايات المتحدة والصين.
قبل توقيع الاتفاق اكتشفت الولايات المتحدة أن خصمها الصينى اللدود الذى وجدته يقفز إلى الملعب الذى أهملته وهو الشرق الأوسط وأين إلى تل أبيب ، فوجئت واشنطن أن العلاقات وصلت بين بكين وتل أبيب إلى المرحلة التى تهدد مصالحها الاستراتيجية فالصينيون اشتروا إسرائيل كما قال وزير الخارجية الأمريكى وقتها مارك بمبيو فى زيارة التأديب التى قام بها إلى إسرائيل لينتهي كافة العلاقات المتشعبة بين الحليف المتمرد وبكين.
لم تكتف الولايات المتحدة بحملة التأديب بل طلبت تشكيل لجنة تعيد تقييم كافة العلاقات بين تل أبيب وبكين لأن أكثر ماأثار غضب الولايات المتحدة المعاهدة التى وقعتها إسرائيل مع الشركات الصينية لإدارة ميناء حيفا على المتوسط لمدة 25 عاما والذى تستقر فيه قطع الأسطول السادس الأمريكى لم تقنع الصين بالميناء المتوسط بل أرادت تفعيل المعاهدة لإقامة ميناء فى أشدود على البحر الأحمر بتكلفة 3 مليارات دولار ، هذا غير حصول الصين على كافة التقنيات المتقدمة من إسرائيل والتى هى فى الأصل تكنولوجيا أمريكية بل اشترت الصين عددا من شركات التكنولوجيا المتقدمة فى تل ابيب ، لقد تأكدت واشنطن أن حليفها الرئيسى فى الشرق الأوسط يتجه شرقا إلى بكين.
أشرف على هذا التحالف السفير الصينى الجديد فى تل أبيب "دو واي" المتخصص فى تدمير النفوذ الأمريكى والذى كان سابقا سفير الصين فى أوكرانيا، عقب زيارة بمبيو التأديبية عثر على السفير " دو واي " ميتا فى ظروف مريبة داخل شقته بضاحية هرتسليا شمال تل أبيب.
صرخت إسرائيل مطالبة بالتعويض عن خسائرها بعد فرمان واشنطن بوقف كافة العلاقات الخطرة بين تل أبيب وبكين هنا لايمكن تجاهل الحليف الإسرائيلى المدلل ولا حسابات الرأسمالية اليهودية التى بدأت تطل على المستقبل من نافذة بكين.
قبل أن تقول الولايات المتحدة كلمتها لإسرائيل كان الخليج العربى هو الآخر يوجه بوصلته إلى الشرق الصينى ، فعلت إيران المعاهدة الاستراتيجية التى وقعتها مع الصين فى العام 2016 لتشترى الصين إيران فعليا ب 400 مليار دولار لمدة 25 عاما وتستولى على أهم الموانئ على خليج عمان والبترول والغاز
لم يقتصر تحرك التنين الصينى على طهران بل تطورت العلاقات بين بكين وأبوظبى عقب زيارة الرئيس الصينى شي بينج إلى الإمارات فى 2018 لتصبح الإمارات المركز المالى الأول الذى يدير تعاملات بكين فى الشرق الأوسط وإفريقيا.
أدرك الأمريكيون وهم يحومون بسفنهم وحاملات طائراتهم أمام شواطئ الصين فى بحرها الجنوبى أن التنين التف حولهم ويصنع تحالف الفرقاء فلو غفلوا عما تفعله بكين لوجدوا أن إسرائيل وإيران أصبحتا فى حلف مصالح واحد  مع التنين الصينى ومن ورائهم ظهير مالى إماراتى بمعنى آخر طردت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط.
قبل كارثة الطرد التى كانت ستحل بواشنطن أسرعت إلى هذا الاتفاق بين إسرائيل والإمارات لتعمل على إسكات الصراخ الإسرائيلى المطالب بالتعويض عن خسائر فض تحالفه مع بكين خاصة فى الجانب التكنولوجى.
بعد ساعات من توقيع اتفاق "السلام" تم توقيع الاتفاق الأهم بين الشركة الإماراتية السيادية فى الاستثمار التكنولجى أبيكس التى ستقدم التمويل إلى مجموعة تيرا التكنوليجية الإسرائيلية وهى أحد نتاجات معهد حاييم وايزمان ذراع إسرائيل التكنولوجى والذى كان يمد الصين بأحدث التطورات العلمية.
بالنسبة للموانئ فالإمارات تمتلك شركتين هما الأضخم فى إدارة الموانئ حول العالم ويمكن لهما أن يحلا بدلا من الصين فى إدارة الموانئ الإسرائيلية وهو ماحدث.
فى نفس الوقت فإن الدخول الأمريكى بهذه القوة مع الإمارات عن طريق الاتفاق سيكون بداية تحجيم النفوذ المالى الصينى فى الخليج الذى يخدم مبادرة الحزام والطريق.
كان هذا قبل ثلاث سنوات وانتهى مقال الثلج والصحراء باستفسار " حتى هذه اللحظة مازال التنين الصينى صامتا يراقب اختطاف حلفائه الجدد ولم يقل كلمته بعد".
قبل أيام جاء الرد الصينى بإعلان توقيع الاتفاق الإطارى بين السعودية وإيران فى بكين وبرعايتها لتعود بكين إلى الشرق الأوسط من جديد بحليفين يتقاسمان مناطق نفوذ فى المنطقة يمتد من لبنان إلى الخليج وبينهما اليمن والعراق وسوريا وبالتأكيد هذا النفوذ الغنى بالموانئ الاستراتيجية وخطوط المواصلات المرتبطة بالمبادرة الصينية ستكون بكين متداخلة فيه.
الآن أصبح على الولايات المتحدة الرد على التنين الصينى الذى لم ينس ماحدث قبل ثلاث سنوات، خرجت عبارات دبلوماسية من واشنطن حول الاتفاق لكن كل الإشارات تقول إن الموقف الأمريكى القادم أو الرد لن يكون به أى دبلوماسية وأنها لن تسمح بتواجد صينى بهذا الحجم فى الشرق الأوسط وإذ كانت قبل ثلاث سنوات نزعت إسرائيل من أحضان بكين بالخطف والتعويض المالى  فإن الحليف الإيرانى الجديد القديم لبكين يمكن إنهاؤه بالحرب.
يبقى سؤال هل يمكن أن تقدم الولايات المتحدة على فعل بهذا الحجم وتشعل حربا جديدة فى الشرق الأوسط عن طريق ضرب المنشآت النووية الإيرانية ؟
يمكن العثور على إجابة لهذا السؤال عند أندري باسفيتش أستاذ العلاقات الدولية والتاريخ بجامعة بوسطن ففى مقالة مطولة نشرها فى فورين أفيرز يشرح الحالة الأمريكية الحالية واصفا إياها بأن واشنطن فى "لحظة السويس" الممتدة لعقدين ويقصد باسفيتتش بلحظة السويس تهور الأمبراطورية البريطانية فى الساعات الأخيرة من نفوذها بشن العدوان الثلاثى على مصر بمساعدة إسرائيلية وفرنسية ردا على قرار الزعيم جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس و أدى هذا العدوان الغاشم إلى غروب الامبراطورية التى لاتغرب عنها الشمس على ضفاف قناة السويس.
يرى باسفيتش أن أحلام استخدام القوة العسكرية لفرض الهيمنة الأمريكية مازالت تسيطر على صانع القرار الأمريكى مع عدم رؤية حقيقة الإخفاقات التى حلت بالولايات المتحدة فى حروبها الأخيرة بالإضافة إلى  تغير المعادلة الدولية وتراجع النفوذ الأمريكى بمعنى آخر أن الرعب الأمريكى من فقد السيطرة والهيمنة قد يدفع واشنطن إلى اتخاذ قرارات مشابهة للقرار البريطانى بشن الحرب لاستعادة هيمنتها وطرد خصومها من الشرق الأوسط.
حتى هذه اللحظة مازال الصمت مسيطرا على واشنطن تجاه الرد الصينى فهل تقتنع الولايات المتحدة بالحقائق التى يفرضها الوضع الدولى الجديد  متعدد الأقطاب ويستمر الصمت أم تتجه بقوة الى لحظة الحرب أو لحظة السويس؟