وضعه الأول بين «خفافيش الأدب» فوصفه الثانى بـ«الكاتب المراحيضى»

عبقرية العقاد| «سجال العقاد والرافعي.. لا يزال على «السيخ»!

الرافعى والعقاد
الرافعى والعقاد

بقلم: د. وليد كسّاب

لبثتُ عُمُرًا أعافُ مطالعة كتاب «على السفود»؛ لأسباب رأيتها أخلاقيةً فى المقام الأول، إذ كانت نفسى تحدّثنى حديث اللائم، وتسألنى سؤال المستنكر: ما شأن الأدب بهجاء مقذع يكتبه الرافعى فى شأن خصمه العقاد مهما بلغت العداوة بينهما؟ وكيف طاوعته نفسه تصدير غلاف الكتاب بصورة لرجلٍ يشوى على النار شخصًا وضعه فى سيخ؟! وكيف يصف قامة كبيرة مثل العقاد بـ(المراحيضى)؟!

ولقد ظللتُ على موقفى لا أحيد عنه حتى اتفق لى مناقشة أستاذنا الراحل د. الطاهر مكى، ودار حوار طويل حول أهمية الكتاب - رغم ما تضمنه من هجاءٍ مُغرِقٍ - باعتباره يُقدِّم نموذجًا فى النقد القائم على الأصالة والإحاطة الكبيرة باللغة والأدب.
والمتتبع للعلاقة بين الرافعى والعقاد؛ يدرك أنها قد شهدت موجات من المدِّ والجزر، كان العقاد فيها - على ما يبدو - هو البادئ بالهجوم، ففى عام 1914 أصدر الرافعى الجزء الثانى من كتابه (تاريخ آداب العرب)؛ فتصدى له العقاد بمقالة يوم 16 مايو فى صحيفة (المؤيد) تحت عنوان: «فائدة من أفكوهة»، انتقد فيها الرافعى وكتابه، ثم إنه عرَّض به عندما ذيل مقالته بالمقولة المشهورة: «كلّ ذى عاهة جبَّارٌ»، ولعله قصد بذلك صَمَمَ الرافعى، وهو أمرٌ لم يكن يليق بمثل الأستاذ العقاد أن يقوله.
ثم عاد العقاد فى عام 1917، فأثنى على أسلوب الرافعى قائلا: «إنَّه لَيَتَّفِقُ لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يَتَّفِقُ لكاتب من كُتَّابِ العَربيَّةِ فِى صَدْرِ أيامها»؛ لكن سرعان ما تغيّر الأمر؛ حيث أصدر العقاد وشكرى كتابهما (الديوان) عام 1921؛ فحمل فيه العقاد على الرافعى فى مقالة عنوانها: «ما هذا يا أبا عمرو؟!»، نقده فيها نقدًا شديدًا، وجعله من «خفافيش الأدب».. وقد ظلت العلاقة على هذا النحو إلى أن مات الرافعى فجأة.

وكان كتاب (على السفود) نقطة فارقة فى المعركة بين الرجلين، والحقيقة أننى لا أبرئ ساحة الرافعى من التجاوز فى كتابه؛ بل ربما يكون قد أدرك هذا التجاوز بنفسه؛ من ثم أحجم عن إعادة نشر الكتاب؛ لكنا لا نغضُّ الطرف عما يحويه من نقدٍ حقيقىٍّ، يمكن أن نعدَّه نوعًا من النقائض الأدبية، تماما كشعر النقائض بين جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم من شعراء العربية، ولنا أن نتصوَّر خلو أدبيات العرب من شعر الهجاء بداعى مجافاته للأخلاق والآداب العامة؛ لا شك أننا كنا سنفتقد كثيرًا من المفردات اللغوية والأساليب التى ابتكرها الشعراء والمعانى التى عمدوا إليها؛ فأظهروا جمال العربية وقدرتها على التعبير عن مختلف الأغراض.
لكن بموت الرافعى لم تضع الحرب أوزارها بين الرافعيين والعقاديين، فشهدت مجلة (الرسالة) معركةً عنيفةً بدأت سنة 1937 تعليقًا على ما كتبه محمد سعيد العريان من نقد للعقاد فى سياق الحديث عن أستاذه الرافعى، وسرعان ما انضم إليها محمد الغمراوى ومحمود شاكر وعلى الطنطاوى وغيرهم كثير فى معركة لم تقتصر على مصر فحسب.

ولم تتوقف المناوشات بين الفريقين عند هذا الحد؛ فأصدر العريان كتابًا، وأصدرت نعمات أحمد فؤاد كتابًا، وكذلك فعل العوضى الوكيل؛ فتصدَّى لهما حسنين حسن مخلوف - أحد حواريى الرافعى القدامى بطنطا - بكتاب يرد فيه التهم عن الرافعى.
ومن عجب أن يستمر الأمر سجالا حتى الآن بين الرافعيين والعقاديين فى الصحافة وعلى مواقع التواصل الاجتماعى، وكأن المعركة بين اتجاهين متضادين لا جامع بينهما، والحقيقة أنها كانت معركة بين شخصين أكثر منها بين اتجاهين، بدليل ما ذكره أحمد حسن الزيات عن الرأى الحقيقى لكلٍ من الرجلين فى الآخر؛ إذ كان كلٌ منهما يُقرُّ للآخر بالفضل والتميز.. لكنها حظوظ النفس وغيرة الأقران.
إن الرافعى والعقاد ينتمى كلٌ منهما إلى مدرسة الأصالة التى ترى الدين واللغة والتاريخ مقومات حضارية لا تفريط فيها.. والخلاف شخصى لا بُد أنه قد زال برحيل الرجلين.. ويجب التعامل مع تفاصيل المعركة وما أفرزته من أدبيات بموضوعية لا انحياز ولا شطط؛ فكلا الرجلين كانت له مَيزاته وعيوبه، ولا أحد فوق سلطة النقد.. ولا بُد أن هناك تفاصيل لم يقف عليها الفريقان «وما كنت لديهم إذ يختصمون».

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 8/3/2023

أقرأ أيضأ :