جاميكا كينكيد تكتب: سيرة فستان

جاميكا كينكيد
جاميكا كينكيد

جاميكا كينكيد، إحدى أبرز الكاتبات الأفرو- أمريكيات المعاصرات، ولدت عام 1949 فى جزيرة أنتيجوا من جزر الكاريبي، باسم إليين بوتر ريتشاردسون. انتقلت إلى الولايات المتحدة فى عام 1966 وعملت كمربية وموظفة استقبال حتى أتمت دراستها الثانوية، وتعلمت الفوتوغرافية حتى حصلت على درجة البكالوريوس. نشرت عملها الأول فى عام 1973، وبدأت تشارك فى مجلات متعددة متخذة اسمها الأدبي، جاميكا كينكيد. التحقت فى عام 1976 بطاقم مجلة نيويوركر. ألهمت تجربة كينكيد كفتاة نشأت فى أنتيجوا تحت ضغوط الفقر والاستعمار وأمها المضطربة، كتابتها القوية والمتوترة والمثيرة للجدل أحيانًا. تفيض كتابتها بشعور حاد ونافذ وتعالج قضايا العرق والنوع والاستعمار وهموم المراهقين والفقد والعلاقة المشحونة بين الأم والابنة. تعيش جاميكا كينكيد الآن فى فيرمونت مع زوجها وابنيها. وتُدَرِس فى جامعة هارفارد.

هذا الثوب الذى أرتديه فى الصورة الفوتوغرافية المطبوعة بالأبيض والأسود، التى التُقِطت لى فى الثانية من عمري، كان أصفر، من البوبلين القطني، (قماش ذو ملمس خشن، صُنع أول الأمر فى بلدة أفيجنون الفرنسية ثم جلبه الهوجنوتيون إلى انجلترا.

ولم أعرف ذلك حينها بالطبع ، حاكته لى أمى،درجة الأصفر تلك، لون فستانى الذى كنت أرتديه وأنا فى الثانية، هى نفس درجة الأصفر للذرة المسلوقة، الطعام الذى حرصت أمى على تقديمه لى فى صورة أو أخرى، عصيدة أو مخفوق، المُكوِن النِشوى لوجبة الظهيرة.

لأنها رخيصة ومتاحة، (لم أعرف ذلك حينها بالطبع)، ولاعتقادها أن الأطعمة الصفراء والخضراء والبرتقالية غنية بالفيتامينات بشكلٍ خاص، رأت أن الذرة المسلوقة تحديدًا ستكون مفيدة لي. لكنى لم أكن مهتمة حينها (إلا أنى أهتم الآن) بما آكل، ولا أعرف شيئًا عن العَوز والوفرة (لكنى أعرف الآن).

ولا أعى فكرة الغِنى والفقر (لكنى أعى الآن أننا كنا فقراء حينها)، وكنا نأكل نوعا معينا من اللحم المسلوق «استلزم أن تمضغه أمى لى بأسنانها قبل أن تضعه فى فمي»، وبعض أنواع السمك المسلوق، والبيض المسلوق (بيض الدجاج لا البط)، وكبد العجل المسلوق، واللبن البقري.

وبالتالى لم أكن لأتحرى حالة الذرة المسلوقة، عصيدة أم مخفوقة، لأننى لم أكن أستطيع فصل الأشياء حينها «كما أستطيع وأفعل الآن»، لكنى متى رأيت هذا الوعاء ذو المحتوى الأصفر المدهش سكنتُ فى مكانى وصمَتُ، لم أصرخ، ولم يدفعنى ذلك للبكاء. قصَّت عليَّ أمى حينها حكاية (لا تقُصها عليّ الآن.

ولا تذكرها الآن، ولا تذكر أنها قصتها عليّ الآن) عن رجلٍ أكل الذرة المسلوقة مرة واحدة على الأقل يوميًا طوال عمره، منذ كان فى مثل عمرى حينها، فى الثانية، وعاش لزمنٍ طويل جدًا، وحين مات عن عمر المائة تقريبًا.

وكان متوردًا ونضرًا، بكرمشات المواليد على بشرته لا تجاعيد المسنين، وحين سُجى جسده وفتحوا بطنه ظهرت فى جوفه مَسَحات صفراء، بنفس درجة اصفرار الذرة المسلوقة. كنت عاجزة حينها (ولستُ كذلك الآن) عن الإعجاب بهذه القصة أو مَقتِها، كما عجزت حينها (ولستُ كذلك الآن)، عن فهم ما يعنيه عُمرى حينها، العامين، أو ما يعنيه عُمر المائة عام.

ولم أكن أعرف حينها (إلا أنى أعرف الآن) بوجود ما يسمى جوف الإنسان، وأن هذا الجوف له لون، وأن هذا الجوف لو كان بنفس درجة اصفرار الذرة المسلوقة، فقد أرادت أمى أن أعرف ذلك.

وذات يوم صحو، غير ممطر«وكان هذا غريبًا، واستثنائيا، ويدمر صورتى الذهنية الثابتة للنهار» قصدت أمى أحد متاجر هارنيز «امتلك العديدين ممن يُدعون هارنى متاجر، وباعوا نفس البضائع، لكنى لم أعرف حينها ومازلتُ لا أعرف لو أنهم من نفس العائلة» واشترت مترًا ونصف المتر من قماش البوبلين القطنى الأصفر لتحيك لى فستانًا، فستانًا سأرتديه لالتقاط صورة يوم أُتِم عاميَ الثاني. فى الداخل، كان المتجر باردًا ومُظلما.

وكان هذا جيد لأن الخارج كان حارًا وبالغ النصوع. لم يساعد شخص اسمه هارنى أمى فيما تريد، ساعدتها امرأة تُدعى آنسة فيرنا وكانت لطيفة، لطيفة حتى أنها دغدغت خدى أثناء حديثها مع أمي، فمِلتُ نحوها كأنى سأقبلها، وحين اقترب خدها من شفتايَ فتحتُ فمى وعضضتها بقوة بنواجذى الطفولية الصغيرة.

ولم تخترق صرختها الهواء بسبب المفاجأة، لكنها نظرت لى بحدة كأنها تعرفنى جيدًا، ثم لاحقًا، بعدها بزمنٍ طويل، حين دنوتُ من الثانية عشرة، وكانت تتردد على مشفى المجانين، كنت أمر بها وأرشقها بالحجارة، فتستدير وتنظر لى بحدة.

ولم تكن تعرف من أنا، لم تكن تعرف أى أحد على الإطلاق، أبدًا. عرضت آنسة فيرنا على أمى خمس لفائف ملساء من القماش، أبيض، أزرق بلون البحر، أزرق سماوي، أصفر، ووردى، فاختارت أمى الأصفر بعدما رفعته لتضعه فى مقابل لون شعرى النحاسى حينها (لم يعُد كذلك الآن).

ودفعت ثمنه، جنيها ورقيا واحدا يحمل رسمة للملك جورج الخامس «رجلٌ قبيح، بأنفٍ حاد وقاسٍ وناتئ العظام، لا الأنوف اللطيفة الناعمة الممتلئة التى ألِفت رؤيتها لاحقًا» ثم تلقَّت الباقى، ريالات، وشلنات، وفلورِنات، وأرباع بنسات.

وحملتنا أمى، أنا وقطعة قماش البوبلين الأصفر المُشتراة للتو، ملفوفة فى ورقة بنية ومطوية تحت ذراعها، ثم خرجت من متجر هارنيز، وبعد عدة أبواب فى الشارع، دخلت متجر موردوخ (نسبة لمالكيه، عائلة موردوخ)، حيث اشترت شلَّتَين من خيط أصفر للتقصيب، بنفس درجة أصفر قماش البوبلين تقريبًا. لم تصحبنى أمى لأى مكانٍ تقصده فحسب، بل حملتنى بين ذراعيها، وأحيانًا على ظهرها، وخلال تلك المهمة، حملتنى بين ذراعيها.

ولم تشتكِ، لم تشتكِ أبدًا (لكن لاحقًا امتنعت عن ذلك دون مبرر، على الأقل مبررًا أستطيعُ تذكره الآن)، حدثتنى وغنت لى بعاميتها الفرنسية كعادتها (لكنى لم أكن أفهم العامية الفرنسية حينها كما لا أفهمها الآن، لذا لم أعرف أبدًا ما رددته لى حينها).

وعادت سيرًا إلى بيتنا فى شارع دكنسون باي، متوقفة بين حينٍ وآخر للحديث مع أناسٍ تعرفهم (رجالًا أو نساء)، تحدثت إليهم بالإنجليزية أحيانًا، وبالفرنسية أحيانًا، وإذا أثنوا على جمالى (إذ أن الناس كانوا يفعلون ذلك مرارًا حينها ولا يفعلونه الآن) ضحِكَت قائلة أنى لا أحب التقبيل (ولا أعرف إن كان ذلك حقيقيًا حينها لكنه بالطبع غير حقيقى الآن).

وفى تلك الليلة بعدما تناولنا عشاءنا من السمك المسلوق وصوص الليمون، وخرج زوجها (الذى لم يكن أبى ولم أعرف ذلك حينها لكنى أعرفه الآن) إلى الميناء، أخرجَت قطعة القماش الأصفر من اللفافة البُنية وطوتها ثم شكلتها بثنيات مُنظمة، وبالمقص صنعت فتحات الأكمام والرقبة وفُرجات دقيقة لفتحة فى الظهر والكتفين، ثم بدأت تحيكه بخيط أصفر، خيط التطريز، ومعها الإبرة والمقص فى السلة التى أتت بها من بيتها فى دومينيكا حين غادرته وهى فى عمر السادسة عشرة.

وبعدها ولأيام، وبعدما تُنهى أمى أعمالها المنزلية اليومية، (غسيل الملابس، غسل الأطباق، تنظيف الأرضية، تحميمى، ابنتها الوحيدة، وتلقيمى مِلعقة من زيت كبد الحوت)، كانت تجلس فى مدخل الباب، نصف جسدها فى الشمس والنصف الآخر فى الظل.

وتُخيط كل تلك الأجزاء المختلفة معًا لتحيك فستانًا من البوبلين الأصفر، خاطت له حاشية وثَنَيات: كانت مبتدئة فى تعليم نفسها التطريز، ذات قدرة محدودة على تقطيب غرزة منتظمة «سلسلة، وجذع، مستقيمة، ومقلوبة»، بدت صدرية الفستان عادية، بسيطة.

ولم تكن تفاصيل نمط التطريز تُرى إلا عن قرب، وفى الواقع، لا من بعيد ولا فى الصورة الفوتوغرافية، لاحقًا حين تمكَنَت أكثر من هذه الصنعة، صارت صدريات فساتينى مُحملة بالغرز، والشارات، وفروع الأشجار، والماسات، وياقات الدانتيل، وأنواع من الطيور لم ترها أمى بنفسها من قبل (بجعات)، وأنواع من الزهور لم ترها بنفسها من قبل (تيوليب)، وأنواع من الطيور لم ترها بنفسها من قبل (دببة) فى الواقع، رأتهم فى صورة بكتابٍ فحسب.

ولم يكن لبشرتى لون الكريمة، ولا لشعرى ملمس الحرير ولون الكتان، ولم تلمع عيناى كالجواهر الزرقاء فى تاج، لم تكن أوقات الأصيل التى جلست خلالها أشاهد أمى تحيك هذا الفستان رائعة، ولم تمتد المروج الخضراء والمراعى والتلال والوديان قِبَلي؛ لكن صورة لفتاة تبلغ من العمر عامين، فتاة لبشرتها لون الكريمة، ولشعرها ملمس الحرير ولون الكتان، فتاة تتلألأ عيناها كالجواهر الزرقاء فى تاج، فتاة أصائلها (وصباحاته ولياليها) رائعة.

وامتدت قِبلها المروج الخضراء والمراعى والتلال والوديان - صورة رأتها أمى على رُزنامة تعلن عن صابون جيد ومعطَّر (صابون لم تكن قادرة على شرائه حينها ولكن يمكننى شراؤه الآن»، تلك الصورة لفتاة ترتدى فستانًا أصفر بكشكشات دقيقة على صدره ربما خلقت فى أمى الرغبة فى أن تحظى بابنة تبدو هكذا أو ربما خلقت بداخلها الرغبة فى أن تحاول جعل الابنة التى رُزقت بها بالفعل تبدو هكذا. لا أعرف الآن ولم أعرف حينها.

من كانت تلك الفتاة حقا؟ (لم أسأل حينها لأننى لم أستطع أن أسأل حينها لكنى أسأل الآن) ومن حاكَ فستانها؟ ولابد لهذه الفتاة من أم، هل كان لدى تلك الأم بعض الأصدقاء، أو صحبة نساء، هل جلسوا معًا تحت شجرة «أو فى أى مكان آخر» وقارنَّ قوة الجرعات المستخدمة للتخلص من حمل، أو ناقشن قدر الرضا المتحقق من فوضى الانتقام أو سلاسة الغفران. وهذه الفتاة ذات البشرة الكريمية والشعر بلون الكتان، كيف كان شكل جوفها، ماذا أكلت؟ (لم أسأل حينها لأنى لم أستطع أن أسأل حينها وأسأل الآن ولكن لا أحد يستطيع أن يجيبني، إجابة حقيقية).

ولم يكن عيد ميلادى الثانى حدثًا بارزًا فى حياة أى شخص، وبالتأكيد لم يكن كذلك بالنسبة لى (لم يكن الأول ولم يكن الأخير، فأنا الآن أبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا)، لكن أمي، ربما بسبب الظروف (لم أكن أعرف حينها ولا يساعد أن أعرف الآن)، أو ربما بسبب عادات راسخة (فى عائلتها فحسب، إذ لم يفعل الآخرون ذلك)، ثقبت أذنى ضمن الاحتفال ببلوغى عمر العامين. فى أحد الأيام، عند الغسق (لم أكن لأسميه هكذا حينها)، حُمِلتُ إلى منزلِ شخصٍ ما (امرأة من دومينيكا، امرأةً كانت بشرتها غامقة بقدر ما كانت بشرة أمى فاتحة، ومع ذلك فقد كانتا متشابهتَين لدرجة جعلتنى واثقة الآن، كما كنتُ حينها، أن لهما نفس اللسان).

وبشوكتين تم تسخينهما على النار، ثُقبت شَحمَتى أذنَىّ. لا أعرف الآن (ولم أستطع أن أعرف حينها) لو أن ما عانيته من ألم يشبه بأى شكل من الأشكال ما عانته أمى من آلام أثناء ولادتى أو حتى لو أن أمى بثقبها لأذنى بهذه الطريقة.

وحينها، قصدت التعبير عن العداء أو الكراهية تجاهى (ولكن بدون قصد وبدون معرفة أنه من الممكن أن أقصد ذلك). لعدة أيام بعد ذلك، ظلت شحمة أذنى متورمة ومغطاة بقشرة ذهبية (ربما كانت تتلألأ فى نور الشمس الحاد حينها، لكنى لا أستطيع أن أتخيل إلا بهذه الصورة الآن).

ولابد أن ألم شحمة أذنى قد ملأ كل كيانى حينها، ولابد أن ألم شحمة أذنى كان لا يطاق، إذ كانت تلك هى المرة الأولى التى انفصل فيها عن ذاتي، وأصير شخصين (طفلين صغيرين حينها، فى عمر عامين)، أحدهما يمر بالتجربة، والآخر يراقب الذى يمُر بالتجربة. والمراقب.

وربما لأنه صنيعة إرادتى (القوية حينها، والتى صارت أقوى الآن)، الدور الحقيقى الأول والوحيد لتشكيل ذاتي، هو الذى أُعول عليه من بينهما غالبًا طوال حياتي، وهو من بين الاثنين الذى أؤمن أن صوته هو الصوت الحقيقي.

ولكن بالطبع لا يمكن التعويل على رؤية المراقب باعتبارها الحقيقة النهائية التى يجب تصديقها، لأن المراقب قد نسج بينى وبين الشخص الذى يخوض التجربة غشاءً واقيًا، يسمح لى أن أرى ولكن لا أشعر إلا بقَدْرٍ يُمَكِنُنى من التعامل مع اللحظة. وهكذ.

ويومَ بلغتُ من العمر عامين، الخامس والعشرين من مايو عام 1951، ثُبِتَ قِرطين، حلقتين ذهبيتين صغيرتين من غُيانا البريطانية (هكذا كانت تُسمى حينها، ولم تعد كذلك الآن)، فى ثُقبى شحمَتى أذنى (التى كانت قد تعافت حينها)؛ كما وُضِع زوج من الأساور الفضية من مكانٍ آخر غير غُيانا البريطانية (وكان هذا المكان أيضًا يُسمى باسمٍ ما حينها، لكن له اسم آخر الآن)، واحدًا على كل معصم، وحذاء جديدا من باتا فى قدمي.

فى عصر ذلك اليوم، حُمِمْتُ ونُثِرَ مسحوق البودرة على جسدي، وأُلبِستُ الفستان المُحاك من البوبلين الأصفر، الذى خِيطَت جميع طبقاته بثبات موجود فقط فى العالم الحقيقى (أدركُ ذلك الآن)، من أعلى رأسي.

وربما كان لهذا الفعل برمته شعور اللف فى كفن. حملتنى أمى بين ذراعيها (كالعادة)، وأخذتنى إلى ستوديو مصوِر، رجل يدعى السيد ووكر،لالتقاط صورتي. بينما كانت تسير وهى تحملنى بين ذراعيها (دونما شكوى)، وحرارة الشمس لا تزال غامرة لدرجة جعلتها بدت كأنها القوة التى أبقتنا ثابتتين على سطح الأرض، لا الجاذبية،  وضعتُ شفتَى على أحد جانبى رأسها (صدغها) وأمكننى استشعار إيقاع الدم ينبض فى جسدها؛ وضعتُ شفتيّ على حلقها وسمعت صوت ابتلاع لعابها المتجمع فى فمها.

ووضعتُ وجهى على رقبتها وتنشَّقتُ بعمق رائحة لم أستطع تحديدها حينها (كيف يمكننى تحديدها، لم أكن أعرف ما يقارن بها) ولا أستطيع الآن، لأنها ليست من حيوان أو مكان أو شيء، كانت (ولاتزال) رائحة فريدة تخصها، تركت أثرًا بهذا العمق الذى جعلها فى النهاية جزءًا من حواسى الأخرى، وحتى الآن (أجل، الآن) تمثل هذه الرائحة طعمًا وملمسًا ورؤيةً وصوتاً.

وكان السيد ووكر يسكن شارع تشيرش، فى منزلٍ أدهشنى (حينها، وليس الآن) لأنه ضم شرفة أرضية (بعكس منزلي) وعِدة غُرف (بعكس منزلي، فى الحقيقة تكوَّن منزل السيد ووكر من أربع غرف، بينما ضم منزلى غرفةً واحدة) وكانت نوافذه مغلقة (بعكس نوافذ منزلى المفتوحة دائمًا). تحدث إلى والدتي، لم أفهم ما قالوه، ولم يتكلموا نفس اللغة. كنت أعرف أن السيد ووكر رجل، لكن لا أعرف كيف عرفتُ (الآن، وحينها، وفى أى وقت).

وربما لأنه واصل تمسيد شعره، وفرده بأصابعه، والتربيت عليه بلطف، وشد خصلاته بقوة، ولأنه أُعجِب، وقال إنه مُعجَب بفستانى المَحيك من البوبلين الأصفر مع نفثات خفيفة من الدخان (ما منحنى جواً زائفًا من الرِقة)، ولأنه أُعجِب وقال انه معجب بشريط التَفتا المضفور فى شعري. خطر لى أنه قد لا يكون رجلاً على الإطلاق، لم أرَ رجلاً يفعل أو يقول أيًا من هذه الأمور، حينها لم أكن رأيتُ سوى نساء يفعلن أو يقُلن أيًا من هذه الأمور. وقف (السيد ووكر) بجوار صندوق أسود بستارة مُثَبَتة على الجزء الخلفى منه (كانت تلك كاميرته. لم أعرفها حينها، لكنى أعرفها الآن) وطلب من أمى أن تُوقِفُنى على طاولة، طاولة صغيرة، طاولة جعلتنى أبدو أطول، لأن المشهد فى الخلفية، الذى ستُلتقط الصورة عليه، كان شاسعًا للغاية، حتى أنه طغى على بِنيتى ذات العامين، ما جعلنى أبدو كتمثال، لا طفلة على الإطلاق. عندما حملتنى أمي، حملتنى من الإبطين بيديها، ضغط إبهامها بعمق على كتفى عن طريق الخطأ (وربما تعمدت، لكن كيف يمكن أن يتسبب لى مَن يُحبنى فى كل هذا الألم بشكلٍ عابر؟)، فصرختُ ثم نظرتُ إلى وجهها (كما أفعل الآن) ولم أرَ مبررًا لفعلتها تلك، لكن لم أرَ فيها أى ضغينة، رأيت امتلاء نظراتها بشيءٍ ما فحسب، وهو شعور لم أرَ حينها (ومقتنعة أنه كذلك الآن) له علاقة بي؛ وربما أدركَت فى تلك اللحظة أنها مرهقة.

ولا جسديًا فحسب، بل مرهقة من هذه العملية برمتها، الاحتفال بعيد ميلادى الثاني، إحياء ذكرى حدث، ميلادي، الذى ربما لم ترغب فى حدوثه بالأساس وربما حاولت منعه مرارًا، ثم أخيرًا، فى محاولة لتمنحه بعض الجمال، توصَّلَت لمترٍ ونصف  المترمن البوبلين الأصفر حاكت منها فستانا، وعلمت نفسها التطريز وشراء الأقراط الذهبية من أماكن لم تحتفظ بأسمائها، وأساور فضية من أماكن أخرى لم تحتفظ بأسمائها أيضًا. والسيد ووكر، الذى لم يكن مهتمًا على الإطلاق بتقلبات والدتى ولم يخطر له أبدًا التعاطى مع الفوضى العشوائية لحياةٍ كحياتها (ولم يكن فى ذلك ما هو غريب، كل حياة، كما أعرفُ الآن، هى فوضى عشوائية).

وتأملَنا للحظة بينما أمى، بخلاف النظرة فى عينيها، تقول لى كلمات لطيفة ومُحبة بصوتٍ لطيف ومُحب، ثم اتجه نحو مرآةٍ مُعلقة على الحائط وضغط بإصبعين من أصابعه بثرة بحجم رشة رمل على خده؛ كان للبثرة سطح أبيض لامع وانفتح بصوتٍ خافت، ثم سال منه شريط طويل من الصديد الثقيل الأصفر متعرجًا على خد السيد ووكر مُحاكيًا، تقريبًا، الزخرفة على كعكة عيد الميلاد التى انتظرتنى فى المنزل، تزينت كعكة عيد ميلادى بسلسلة من أنواع النباتات والحيوانات التى لم ترها والدتى من قبل (ولم ترها حتى يومنا هذا، وهى فى الثالثة والسبعين).

وبعد ذلك اليوم، لم أرتدِ فستان البوبلين الأصفر ذا التطريز الذى علمت أمى نفسها أن تُطرزه. حفظَته لى بعناية لارتدائه فى مناسبةٍ خاصة أخرى؛ ولكن بحلول الوقت الذى أتت فيه مناسبة خاصة أخرى (عرفتُ حينها تلك المناسبة الخاصة بوضوح تام، ويمكننى ذِكر تلك المناسبة الخاصة بوضوح الآن ولكنى لا أريد ذلك)، لم يعد الفستان مناسبًا لى، كنتُ قد كبُرتُ جدًا عليه.

اقرأ أيضاً | «كاروناتيلاكا» يكتب : لم نتعلم من أخطاء الماضى بعد

نقلا عن مجلة الأدب: 

2023-3-11