عمر الجضعى يكتب: لا يسمعونني

اللوحات للفنان: سيف وانلى
اللوحات للفنان: سيف وانلى

كلهم لا يسمعوننى، يعجز كلامى عن بلوغ آذانهم الضخمة التى كأنها آذان أفيال هرمة. مهما صرخت لا يسمعوننى، بل يعطوننى قلمًا أن أكتب أو يومئون بوجوههم وتتحرك أيديهم طلبًا منى أن أحكى بالإشارة.

اتفق من حولى على هذا. أسمع ما يقولون فيما بينهم، لكنهم ينكرون سماع أى شيء منى ويفترضون أننى لا أعى ما يقولون، ظننت فى أول يوم أن زوجتى كانت تتجاهل كلامى عامدة لغضبها عليَّ فى أمر لا أدرى ما هو. ثم وجدت كل أهلى يفعلون مثلها، وأصدقائى كذلك، فظننت أن هذا مقلب منهم وكمين اتفقوا عليه. تحول الأمر بعد فترة إلى أن أصبح كل من لقيته لا يسمعني.

لا أحد يلبى ندائي، ولم أجد من يضحك على نكاتي، أو يجارينى فى الحديث ويفهم مني . حتى لو وجهت لهم قبيح القول ما أثر فيهم فى شيء، لا ينهروننى لو كذبت عليهم، أو وشيت بينهم، أو ذممت أى شيء يحبونه.

وبالغت لأختبرهم؛ قلت لزوجتى إن وزنها قد زاد، وهى لا تحسن اختيار ملابسها ، وطبخها لا لذة فى أكله، وإن جمالها بدأ يفر منها. ما جاءنى منها رد قاس، ولا عويل حارق، ولا تهديد بالخلع. ألقيت أشنع الألقاب على أصدقائى وجيرانى وزملائي، وسميتهم كل حسب ما يستحق وما يملى على مزاجي. لم يعترض منهم أحد.

وطال بى الزمن على هذه الحال، فأرسلت زوجتى أطفالنا الثلاثة إلى أمها خوفًا عليهم من ملاحظة ما سمته تصرفاتى المرضية. وطالبتنى بكل قلم عندها أن أزور معالجًا نفسيًا. تعاميت عما كتبت.

وكثرت مشاكل زملائى معى وأثر هذا على أداء مهامي، فطردنى مديرى من العمل. كتب لى موظف الموارد البشرية رسالة فيها إخطارى بتوقيفى عن العمل بلا أجر حتى أعود إلى رشدي، أو أن أحضر تقريرًا من طبيب مختص يشفع لي.

وأخذتنى زوجتى إلى عيادة الأنف والأذن والحنجرة، رغم سلامة أنفى من أى انسداد، وخلو حنجرتى من أى شكوى سوى بحة من زعيقى الأجوف المتكرر. وأما أذناى فهما اللتان شككت أن البلاء منهما، وأنهما ربما تحرفان كلامهم إذا وصلنى وتغيرانه فتجعلنى أظنهم لم يفهمونى.

وفحصنى الطبيب وعرضنى على اختبارات السمع والنطق. لسانى قويم، وسمعى لا علة فيه، وحنجرتى تغرد كل صوت يخرج منها. شهدت كل أجهزتهم على ذلك. كل الموجات الصوتية أسمعها بوضوح كما خرجت من الجهاز، وكل كلمة أقولها تلقطها أجهزتهم وتسجلها كما نطقتها.

ولكن جحد الطبيب كل النتائج والبراهين، وقال لها: «زوجك لا أدرى ما مرضه.» عجبًا! ترك الدلائل وما تقوله أجهزته التى تعينه وفيها يثق، وصار مثلهم. أى انحياز جاهلى هو فيه.

لم أركز فيم كانا يتحدثان. خرجت من العيادة دون زوجتى، وانتظرتها فى السيارة،وعملى هو فى قسم خدمة العملاء. أتلقى اتصالاتهم وأساعدهم فى حل مشاكلهم. أكتب شكاواهم وأدون كل ما يقولون، ثم أعود لمكالماتهم المسجلة أسمعها مرة أخرى وأدقق ألا فاتنى شىء.

وفى وسط أزمة التجاهل هذه وإنكار الناس سماعهم لي، أصبح العملاء يشتكون منى بدلًا من أن يشكوا لى. يدعون أننى لا أتفاعل مع مطالبهم. عشر سنوات وأنا أنصت لمشاكلهم، وأحل مصاعبهم، وأنبه زملائى فى الأقسام الأخرى عن قصورهم فى الخدمة المقدمة لهم. وخسرت كل هذا لأنهم لا يسمعونني.

ولم أجد وسيلة لأتفادى الفصل، وبقيت أتحصل مبلغًا شهريًا من الحكومة يساندنى حتى أجد عملًا آخر؛ عملًا صامتًا لا أسمع فيه لأحد، ولا أحد يسمعنى،واعتادوا علىَّ ويئسوا من تحسن حالي، وأنا كذلك اعتدت عليهم.

ونسى كل من حولى وجودي، بينما إنصاتى لهم ازداد. يتكلمون فى أسرارهم أمامى ويظنون أننى لن أعرفها. تتصل زوجتى على صديقاتها وأهلها فى حضوري، وتحكى ما لا تريدنى أن أعرف. تذكرنى بالسوء حينًا وقلة صبرها عليَّ دائمًا. وأما أصدقائى فأعرف ما يريدون وما يظنون عنى من حديثهم ونكاتهم عليَّ وتحسرهم لفقدى وأنا لازلت بينهم.

وتمكنت من رؤية الناس على حقيقتهم، يكشفونها لى دون علم منهم. لا أستار ولا أسرار. فضحوا أنفسهم وأنا الحافظ لها رغمًا عنى،وأما أطفالى فما عادوا يحفلون بى مثل قبل، وماذا يريدون بأب لا يجيب على أسئلتهم ولا يلاعبهم. ظللت أتحاشى الجلوس معهم. لعلهم إذا كبروا يفهمون ما أنا أعاني. أظن أن أكبرهم ذا العشر سنوات سيفهم قريبًا.

اقرأ ايضاً | جمال العتّابي: التشكيلي العراقي غسان فيضي قدرة عالية في تجسيد اللون والحركة

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-11