الحد الفاصل

د. محمد محمد زيادة يكتب: قانون العمل.. عجلة الإصدار والاستثمار

د. محمد محمد زيادة
د. محمد محمد زيادة

قد يبدو الجنس البشري مشتركًا في العديد من الأهداف والغايات، إلَّا إنَّ لكل مجتمع مبادئَوعاداتٍ مختلفة يَبذل كل غالٍ للحفاظ عليها، وأهدافًا وغاياتٍ خاصة يسعى إلى بذل كل نفيس من أجل تحقيقها، وكوسيلة رئيسة لتحقيق ذلك؛تُصدَر القوانين، لذا نجد قوانين البلادتعكس -وبشكل دقيق- مدَى تحضُّرها وتقدُّمها، وكذا توجُّهها العام في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ومن هنا، تقع على عاتق الحكومات والمجالس النيابية المسؤوليةُالكبرى في فَهم التوجُّه العام للدولة من جانب، واحتياجات المجتمعومُثله ومبادئه من جانب آخر، ومن ثَمَّتسُن القوانين التي تخلِق المناخ الملائم لتحقيق أهداف الدولة والمجتمع دون إفراط في القيود أو تفريط في الحدود. 

دوائر التأثير الأوسع

إنَّ للقوانينِ دورًا رئيسًا في خلْق المناخ العام للدولة، فالقوانين -حتى المتخصص منها- لها تأثيرٌ واسعٌ على جميع المجالات المحيطة،حيث تتخطى تلك الدوائر المنوط بها تنظيمها، فعلى سبيل المثال يؤثر قانون الري على الزراعة، وقانون البيئة على الصناعة، وقانون الصناعة على الاستثمار، وقانون العمل يؤثر على الزراعة والصناعة والاستثمار، إلى غير ذلك من الأمثلة.

فمن الضروري أن يُؤخَذ بعين الاعتبار عند تشريع القوانين دوائر التأثير الأوسع،مع مراعاة عدم تعارض القوانين المختلفة مع بعضها البعض،فضلًا عنتبايُن النصوص في القانون ذاتِه، مع ضرورة تحديد الجهات الإدارية صاحبة الولاية بوضوح،فلابُدَّ أنْتعمل القوانين المختلفة كآلات موسيقية لكلٍّ منها إيقاعهاالخاص في إطار سيمفونية مؤسسيةتسهم في إظهار الدولة بما يليق بتاريخها وحضارتها وحاضرها.

مصر القانون نحو استثمارات عملاقة

عرَفت مصر القانون منذ فجر التاريخ، فالدولة صاحبة الحضارة العريقة كانت موطنًا لأول قانون عرَفه التاريخ البشري، وعبر القرون المتعاقبة كانت القوانين والتشريعات المصرية مصدرَ الإلهام الرئيس للعديد من الدول.

وفي الآونة الأخيرة أولت الدولة المصرية الاستثمار اهتمامًا بالغًا، وحرصت على تهيئة المناخ العامليصبح أكثر قدرةً على جذب الاستثمارات الخارجية ودعم الاستثمارات الداخلية، باعتبار الاستثمارعاملًا أكثرَ تأثيرًا في دفع عجلة التنمية عن غيره، ولتحقيق ذلك يتمُّ تطويرُ البِنية التحتية من طرق وموانئ وشبكات الصرف والري والكهرباء وغيرها، إضافةً إلى البَدء في برنامج الإصلاح الاقتصادي، وكذلك مجموعة من الإصلاحات المؤسسية والتشريعية لتذليل العقبات للمستثمرين.

لذا فمن الواضح للجميع رغبة الدولة المصرية في خلْق مناخ فريد جاذب للاستثمار، غيرَ أنَّ هذا المناخ يواجِه تحديًا جديدًا يتمثَّل في قانون العمل المُزمَع إصدارُهلما له من تأثير حقيق على سوق العمل والاستثمار، فبينما يسعى قانون العمل للحفاظ على حقوق العامل إلَّا إنَّه يغفل أمريْنِ في غاية الأهمية، أولهما: أنَّ إهدار حق رب العمل هو إهدار لحق العامل نفسه،فإهدار حق رب العمل يؤثر وبشدة على  قدرته في الاستمرار في استثماره، فيؤثر مباشرةًعلى استقرار العامل في عملهومصدر دخله، وثانيهما: أنَّ شدة القوانين تُقابَل بالمزيد من التحايُل عليها وعدم تطبيقها؛ وهو ما يؤدي إلى ضياع حقوق العامل ورب العمل والدولة بأسرها.

فلابُدَّ أن يكون قانون العمل في ثوبه الجديدقانونًا متوازنًا، يحمي حق العامل ويضمن له عملًا جيدًا وحياةً كريمة، ولا يُنفر أرباب العمل من المستثمرين،وأن يجعل من علاقة رب العمل بالعامل علاقة تتبادل فيها المنافع بين قطبي المعادلة،فيحفز القانون أرباب الأعمال على الاستثمار في ثرواتهم البشرية من العاملين، لترتقي بذلك المستويات الفنية والإدارية للكوادر،فتتحسن جودة الإنتاج والتصنيع والخدمات بالتبعية، وتزيد القدرة التنافسية؛ لتحقق أرباحمثالية،فيُنفَق منها المزيد على تدريب الكوادر وتحسين مهاراتهم؛ لتتحقق بذلك كله تنمية حقيقية فريدة من نوعها.

دروس الماضي وتحديات الحاضر

قانون العمل رقم"12" لسنة "2003" وتعديلاته ظلَّ هو المظلة الحاكمة لسوق العمل المصري لما يقرُب من عشرين عامًا، إلَّا إنَّ هذا القانون أصبح في الكثير من مواضعه لا يُواكب التغيرات الكبيرة التي شهدها سوق العمل، كما لم يَعُدْ تلك الأداة التي تحفظ الحقوق -بشكل حقيقي قابل للتطبيق- سواءً للعامل أو لرب العمل، فالصياغة غير الدقيقة لبعض مواد قانون العمل أدَّت إلى تحايُل بعض أرباب الأعمال على نصوص القانون لضمان حقوقهم، فنجد -على سبيل المثال-بعض الشركات قدتُسلِّم العاملعند تعيينه عقد العمل مرفقًا به استقالته غير المؤرخة واستمارتي تعيينه وفصله في آنٍ واحدٍ ليُوقِّعَ عليهم دفعةً واحدة، وذلك تجنُّبًا لخلْق العامل نزاعًا قضائيًا مضنيًا في حال استمراره في العمل ليوم واحد فقط بعد انتهاء عقده دون تجديد.

كما أنَّ قانون "12" لسنة "2003" وإنْ بَدا أنَّه قانون صارم يسعى لحماية حقالعامل إلَّا إنَّه -وفي حقيقة الأمر-قد أهدر حقوقه في كثير من المواضع،كعدم اتخاذهلإجراءات صارمة في حق أرباب الأعمال عندمخالفتهم القانون، فعلى سبيل المثال قد نجد بعضًامن الشركات تُخالف نصَّ"المادة 38" التي تَنصُّ-اختصارًا- على حق العاملين بالأجر الشهري في تقاضي أجرهم مرةً على الأقل شهريًا، فتقوم بعض الشركاتبصرف الرواتب المستحقة عن شهر واحد بعد فترة تتجاوز الأربعين يومًا مثلًا، ليكون للعامل رصيدٌ مستمرٌ في الشركة في محاولة منها لربط العامل بالعمل.

فلم يستطع قانون "12" لسنة "2003" أن يوفِّر آليَّة واقعيَّة متوازنة قابلة للتطبيق، وما سبق ما هو إلَّا أمثلة بسيطة على واقع مليء بالإفراط والتفريط في حقوق الطرفين، وهو ما يُفسِّر الحاجة الماسَّة إلى قانون عمل جديد ينجح فيما أخفق فيه سابقُه،قانون لا بُدَّ أن نتعلَّمَعند تشريعه من دروس الماضي ونعِيَجيدًا تحديات الحاضر، وأن نأخذ في الاعتبار الفروقات الكبيرة بين القطاعين العام والخاص، قبل التوافُق عليه، فإصدار قانون عمل جديد غير متوازن سيُؤثر وبشدَّة على المناخ الاستثماري للبلاد، وسيؤدي إلى مزيد من التحايُل على موادِّه، وضياع لحقوق العمَّال وأرباب العمل، ومزيد من البطالة بأشكالها المختلفة.

عجلة الإصدار وعجلة الاستثمار

وفي الختام، لا يسعنا إلَّا أن نؤكد ضرورة تأَنِّي الجهات التشريعية والتنفيذية في إصدار القوانين والتشريعات المختلفة لما لها من تأثير قوي -مباشر وغير مباشر- على المناخ العام للدولة بجوانبها كافَّة، ولعلنا في هذ المقال قد أعطينا مثالًا -وإنذارًا مبكرًا- بقانون العمل الجديد؛ لكونه من أكثر القوانين ذات التأثير القوي والمباشر على أهم قضيةسياسية اقتصادية اجتماعية تحتلُّ المكانة الأولى حاليًا في الدولة المصرية، ألَا وهي "الاستثمار".

اقرأ أيضا للكاتب د. محمد محمد زيادة يكتب: عامانِ من قتل صناعة الأسمنت الأبيض