عصير القلم

أحمد الإمام يكتب: كل انسان وعنده عذره

أحمد الإمام
أحمد الإمام

..كان أبي رحمه الله يردد دائما عبارة لم أفهمها وقتها ولكنني الآن أصبحت مؤمنًا بصحتها. 
كان يقول « كل انسان عنده عذره حتى لو ماقالوش» وكان يتخذ من هذه العبارة السحرية وسيلة للتصالح مع كل تصرف أحمق يرتكبه أحدهم في حقه ويلتمس له العذر دون أن يقدمه، ويخترع مبررات لهذه الحماقة حتى لو بدت بدون مبرر منطقي.

لم تكن تعجبني حكمة والدي واعتبرتها تساهلا مبالغا فيه، وكنت أرى أن كل شخص يجب أن يتحمل نتيجة أفعاله وتصرفاته ، الإحسان يقابل بالاحسان ، والإساءة لا تستحق الإ الإساءة.
ولكن بعد مرور سنوات تغيرت نظرتي للأمور واكتشفت أن أبي كان محقًا.

أيقنت مع الوقت وتراكم الخبرات أن كل انسان لديه مبررات خاصة تتحكم في كل تصرفاته وأفعاله حتى لو بدت للجميع تصرفات غير أخلاقية وبعيدة عن المنطق.
ليس من حقك أن تنصب من نفسك قاضيًا تصدر أحكامك على سلوكيات البشر وتنتقد افعالهم مهما بدت لك خاطئة ، فأنت لا تعرف الظروف المحيطة بهذا الشخص وحجم الضغوط التي يتعرض لها.

عليك أن تحترم الضعف الانساني وزلات الآخرين ، فكل انسان مهما كانت درجة صلابته والتزامه الاخلاقي معرض للخطأ في ظروف معينة وتحت ضغوط محددة ، وانت لست أفضل منه حالا .. كل ما هنالك أن ستائر الستر مازالت تغطيك وتمنع عنك الفضيحة التي أبتلي بها غيرك وتعايره بها.  

في كتابه الرائع «الله والانسان» يغوص الدكتور مصطفى محمود رحمه الله في أعماق النفس البشرية معبرًا عن حالة فريدة من التسامح مع أخطاء البشر وتجاوز خطاياهم.. حيث يقول
«لقد تعودت ألّا أحتقر إنسانا بالغًا ما بلغ من الحقارة فهو حصيلة ظروف صنعت خيره و شره ، وأنذل الناس له منطق في أفعاله .. منطق قد يسمو على منطق النبلاء الذين يقرأون الجرائد في ضوء الأباجورات و يمددون أقدامهم على وهج المدافئ و يتثائبون وهم يقولون باشمئزاز : سافل .. وغد .. منحط  .

لقد كان « فرنسوا فيللون » أفّاقًا ولصًّا وشاعرًا .. وحينما كان يموت بالسل في سجنه نحيلاً أزرق متقطع الأنفاس كان يترنم بالقصيدة الخالدة التي يقول في آخرها :
أيها الدود في قبري عذرًا
فلن تظفر مني بوليمة دسمة
فقد أكلني الناس على الأرض
ولم يتركوا لك إلّا العظام .

لذلك ترفق بالبشر ولا تأكل لحمهم بالغيبة والنميمة ولا تجلدهم بسوط لسانك .. لان كل انسان عنده عذره حتى لو ماقالوش.