أماني أحمد تكتب: لمار

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

قبلَ أن تخبرنى أمّى حكايةَ اسمي، تهمسُ فى أذني: «لمار» يعنى بريق الذهبِ والألماس، وَيعنى النور. وأنتِ النورُ الذى أضاءَ عتمتَنا يا لمار.                                                                                    

الحكايةُ تقولُ إنَّ الأختَ التوأمَ لأبى التى توفيت بعد ولادتِهما بدقائق معدودة كانَ اسمُها لمار، وإنَّ أبى لم يتوقَّف عن البكاءِ والصراخِ أسبوعًا كاملًا بعد ذلك. وعلى كلِّ لسان، جرَت حكايةُ الجنين الذى تعلَّق بأختِه التوأم وهوَ فى رحمِ أمّه، وَبكى عليها أسبوعًا متواصلًا بعدَ الولادة.                                             

وكبُرَ أبى وفى خياله طيفُ لمار، يلاحقه مدعومًا بحكايات جدَّتى عنها. بنى علاقة أخوّة روحيَّة معها من دونِ أن يراها، وعاهَدَ نفسَه أن يسمّى مولودَه الأوَّل لمار إن كانَ بنتًا. وهكذا أصبحَ اسمى لمار.                   

ولم أكرَه اسمى يومًا، بل على العكسِ كنتُ أحبُّه كثيرًا، وَخصوصًا أنَّه مهَّد لى الطريق كى أحظى بمحبّةٍ ورعايةٍ خاصّة من والدي. ولكنّنى كنتُ أشعرُ أنّ ثمّة لعنة تختبئُ خلفَ هذا الاسم الذى ارتبط فى ذهنى بحياةٍ خاطفةٍ لعمَّة مسكينة.                                                                                          

وتجلُسُ أمّى كلَّ ليلةٍ قربَ رأسى قبلَ أن أنام، ولا تنفكُّ تكرِّرُ على مسمَعى هذِهِ القصَّة ، وأنا أُخفى عنها امتعاضى وألمي ، عن أيّ نورٍ تتحدَّثُ أمّي؟ النورُ الذى كسَحَني، وخطفَ أحلى أيَّام شبابي؟                  

وحصلَ ذلكَ فى يومٍ مشمسٍ من أيّام الربيع. كنتُ أجتازُ الشارعَ لأصلَ إلى السوبرماركت، كى أشترى لها بعضَ الأغراض، حينَ فوجئتُ بسيّارةٍ مُسرعةٍ كانَت آخرَ ما استطعتُ رؤيتَه. لم أستفِق من الغيبوبةِ إلا بعد مرورِ شهرَين. ولكنّ الخبرَ المفجعَ كانَ بانتظارى كى يقلبَ حياتى رأسًا على عقِب.

لا يعرفُ الإنسان قيمة الشيء إلّا بعدَ أن يفقده، وأنا لم أعرف قيمةَ الحريَّةِ إلا بعدَ أن أصبحتُ أسيرةً لكرسيٍّ متحرِّك! ومنذُ تلك اللحظة صرتُ أتحسّرُ على كلِّ لحظةٍ كانَ بوسعى أن أحرّك فيها قدميّ ولم أفعل.                             

ولم تكُن حياتى كالجميع. كانَت حياةً مكبّلةً بالقيودِ لشخصٍ يحلُم أن يرقصَ وَيقفزَ وَيمارسَ الرياضةَ وَيتمشّى وَيسبح. شخصٌ يحلُم أن يعيش،ولم أكن قد بلغتُ الرابعةَ عشرةَ حين زارَنى الشللُ وأطالَ مكوثَه كَضَيفٍ ثقيلٍ. أوَّلُ أحلامى الضَّائعة كانَ متابعةَ الدراسة، فمَدرستى لم تتقبَّل وضعى الجديد.

وباءَت محاولاتُ والدى لإقناعى بإدخالى إلى مدرسةٍ مخصَّصةٍ لذوى الاحتياجاتِ الخاصَّة، فالرَّفضُ كانَ يتكاثفُ فى داخلى ليخرجَ كَسَحابةٍ ممطرةٍ على وجهي. وهكذا مضَت أيّامى مع دروسٍ خصوصيةٍ على يدِ أساتذةٍ يَحضرونَ إلى البيت، ومطالعة مكثفة. كنتُ أقرأُ مختلفَ أصنافَ الكتبِ وَأنواعها بنهم، حتّى بنيتُ لى عالمًا وَهميًّا حالِمًا يفيضُ بالأملِ والحياة.                                                                                               

ومع مرورِ الوقتِ أضفَت المطالعةُ جانبًا من الوعيِ على شخصيَّتي ، فلم أعُد الفتاة المسكينة التى تنتظرُ أن تحنّ عليها والدتُها بروايةِ قصَّةِ اسمِها المزعومة ، ولا أن يجود عليها أبوها بنظراتِه الحانيةِ التى تُشعرُها بالضعفِ والأمانِ فى آنٍ واحد. أصبحتُ لمار ذات النظرة الثاقبة والواعية التى تؤمن بالحياة والقدر وترسمُ لوحة آمالٍ زاهية منبئة بمستقبلٍ أجمل.                                                                            

ولما بلغتُ العشرين، قرَّرتُ أن أدرسَ الموسيقى، فَهى وحدَها من أعانَنى على إعادة اكتشافِ روحى الحيويَّة والنشطةِ والمحبّةِ للحياةِ من جديد. أحببتُ آلةَ القانونِ كثيرًا وَباشرتُ تعلّمَ العزفِ عليها بحماس.             

وحينَ دخلَ الأستاذُ أوَّلَ مرَّةٍ إلينا، وقبلَ بدءِ الدرس، أحسَستُ بشعورٍ غريب لم أعهده فى نفسى من قبل . كانَت له طلةٌ بهيَّةٌ تبعَثُ الأمانَ والدفء، وعينانِ توحيانِ بالشرفِ والنبل. همسَ باسمي، فانبعثَ صوتُه كنغمةٍ موسيقيَّةٍ هادئة. ومنذُ ذلكَ الحينِ لم أعُد أعلم إن كنتُ مولعةً بالموسيقى، أم بآلةِ القانون، أم بِه.        

ومضَت الأيَّام، وأصبحتُ أعزفُ بمَهارةٍ أبهَرَت الجميع، وكانَ لوقعِ نبضاتِ القلبِ بالغ الأثرِ فى خروج المعزوفةِ جميلةً مُحمَّلةً بكلَّ هذا الإبداع. وهل يمكنُ لشيءٍ أن يفجّرَ فينا الإبداعَ غيرَ الحبّ؟ غيرَ أنَّ ذلكَ لم يدُم كثيرًا، فقد عرفتُ أنَّ أستاذى متزوّجٌ وَلديه طفل.

وعرفتُ ذلكَ فى اليومِ الذى اعتذرَ فيهِ من والدى قائلاً إنّه لم يعُد قادرًا على متابعةِ الدروسِ معى بسببِ ظروفٍ ومشاكل عائليَّة معقَّدة، وبأنّنى أصبحتُ محترفةً الآن، ولم أعُد بحاجةٍ إلى مساعدتِه. كانَ غيابُه مؤلمًا بالنسبة لي، إلا أنَّ مشاعرى التى لم أبُح بِها لأحدٍ قط كانَت تؤنسُنى وتواسينى فى وحدتي.                                                                               

وفى يومٍ مشمسٍ آخر، أيقظَتنى أمّى على خبرِ دعوَتى للمشاركةِ فى حفلٍ موسيقيٍّ تنظِّمُهُ جمعيَّةٌ خيريَّةٌ تُعنى بشكلٍ خاصّ بِذوى الاحتياجاتِ الخاصَّة. كانَ الخبرُ كمعزوفةٍ موسيقيَّةٍ تنسابُ فوقَ مسامعي، فَتطمئننى بأنَّ الله لن يتركَني.                                                                                                        

حينَ دَفَعَت أُمّى الكرسيَّ المتحرِّك بنفسِها نحوَ منتصفِ خشبةِ المسرح، كانَت تتمتمُ قصَّة لمار بِصوتٍ حنون لم يسمَعه سواي، لم تُثِر القصَّةُ انزعاجى هذه المرَّة بل كانَت كَحَبّةِ دواءٍ مُزيلٍ للتوتر. كانَ عزفى رائعًا، لم أنظر إلى الجمهور.

ولم أرتبِك من وجوده، ولكنَّنى كنتُ أتخيَّل صورةَ أستاذى أمامى وهو يبتسمُ لي. وما إن أنهيتُ العزفَ حتى وقعَ نَظَرى عليه بينَ الجموع. إنّه هو.. نعم هو! كانَ يصفّقُ لى بحرارةٍ ويهزُّ رأسَه معبّرًا لى عن ثقتِه وإعجابِه.                                                                                        

لوَهلةٍ، شعرتُ أنَّنى فى حلمٍ جميل. إلا أنَّه لم يكُن حلمًا، بل حقيقةً جليّة. وفى غفلةٍ من تقديراتِ الأطباءِ المتشائمة، وتقاريرِهم المستفيضةِ المدعومةِ بالعلمِ والمنطق، ألفيتُ نفسى واقفةً على قدميّ فى مواجهة جموع المصفقين. بكَت أُمّى بحرارة، وبصعوبةٍ أخبرَتنى من بينِ دموعها عن أستاذى وفى الموسيقى وفى الحبّ أيضًا - الذى غادرَته زوجتُه الأجنبيَّةُ قبلَ فترةٍ عائدةً إلى بلادِها ملبّيةً نداءَ حبٍّ قديمٍ تجدَّد فجأة، تاركةً خلفها طفلتها، وقالت إنَّه جاءَ ليحضر الحفل، وأيضًا كى يطلبُ يدى للزواج.                                   

اقرأ ايضاً | عبدالجواد العوفير يكتب: يدى تُبصِرُ

نقلا عن مجلة الأدب: 

2023-3-4