عاجل

صالح لبريني يكتب: شَبِيهٌ بِالنَّهْرِ إلى بحيرة تامدة التي تسكن خاطري والمهدّدة بالزّوال

اللوحة للفنان: عمر الفيومى
اللوحة للفنان: عمر الفيومى

١

كَالنَّهْرِ أَنْحَتُ مَجْرَى الْأَبَدْ... أَحْفِرُ الْخُضْرَةَ... وَأَسْتَلْقِى عَلَى هَامِشِ الْفُصُولْ...أَكْتُبُ تَارِيخَ الشَّجَرْ... وَعَلَى نَاصِيَةِ الْمُنْحَدَرَات أَكْتُبُ عُزْلَةَ الْحَجَرْ... وَأُلْقِى نَظْرَتِى الْأَخِيرَة... أَعْرِفُ أَنِّى سَأَعُودُ فِى غَيْمَة...فِى بَسْمَةِ سَاقِيَة... فِى لُهَاثِ الصَّيَادِينَ الصَّاعِدِينَ إِلَى الْبَرّ... وَأَجْهَلُ عُبُورِي... أَقِفُ وَحِيداً أُرَوِّضُ الْوَقْت... أُغَيِّرُ دَفَّةَ الْخَرِيرِ جِهَةَ الصَّحْرَاء... وَأَقْلِبُ مُعَادَلَةَ الْعَطَش... أُبَدِّلُ الْعَقَارِب وَالدَّوَائِر... وَأَنْسِفُ مُثَلَّثَ الطِّين ، وَاَنْتَصِرُ لِنُقْطَةِ الْمَاءِ والرّيحِ وَ النّار...كَائِنَاتِي:  حُرْقَةٌ فِى نَايٍ... وَحَفِيفٌ فِى هَزَّةِ الظِّلَال... وَمَاتَبَقَّى مِنْ لَسْعَةِ الْوَرْد ...وَلَوْعَةِ الْجُلَّنَار...!!!

٢

يَا حَارِسَ الْمَاءِ... فِى الرّمْلِ عَطَشٌ أبَدِيّ... وَتِيهٌ يَصْهَلُ فِى رَجْفَةِ الْأَوَابِدِ... وَحَيْرةِ الْوُحُوشِ... وَتِلْكَ الْكُثْبَانُ حَدَوَاتٌ تَرْشُقُ الْقَوَافِل... بِضَوْءِ الْمَسِير... وَأَسْرَارِ الْغُمُوض... وَدَهْشَةِ الْعَيْنِ أَمَامَ زَحْفِ الزَّوَابِع... وصمْت المدَى... وتُوبّخ لعْنةَ السَّراب... أَقْرأُ كِتابَ الْغَيْمِ علَى أَفْواهٍ عَطْشَى... كَيْ تَمْحُوَ جُرْحَ الأَرْضِ... وتُغَنّى لِعُزْلَةِ الرَّبَوَاتِ هَيْبَةَ الْهَدِيل... وَرَشَاقَةَ الطَّيْرِ عَلَى جِبَالٍ تَحْرُسُ... الْتِبَاسَ الضَّوْءِ والظِّلالِ... يَا حَارِسَ الْمَاء... مَاذَا لَوْ أَيْقَظْتَ الْعِطْرَ  فِى الْأُصُصِ... وَأَنْقَذْتَ الْأَشْواكَ مِنَ الْوَرْد... وَعَلّمْتَ الْمَجْرَى إِيقَاعَ الْيَنَابِيع... مَاذَا لَوْ أَيْقَنْتَ أَنَّ السّرابَ مَاءُ الْمُسْتَحِيل... وأنَّ الأَرْضَ أُرْجُوحَةُ النَّخِيل... وَيَقْظَةُ التّيهِ...!!!

٣

كَنَهْرٍ أَزَلِيٍّ... أُوقِظُ فِى دَمِى رَائِحَةَ الْأَرْض... أُشَذِّبُ الْمَدَى مِنْ غُبَارِ الْخَرِيف...وَأَنْتَبِذُ أَقْصَى الْعُزْلَة...أَنْتَقِى الظِّلَالَ الْبَعِيدَة...أَعُدُّ الْأَشْجَارَ...الرِّمَالَ الْخَلْفِيَةَ...السَّوَاحِلَ الْمُنْزَوِيَةَ فِى هَزِيعِ اللَّيْل...الْأَنْدَاءَ الْفَارِغَةَ مِنْ الصَّيْف...الْأُغْنِيَاتِ الصَّاخِبَةَ عَلَى شِفَاهِ الْأَمَازِيغِيَّاتِ...تَرَاتِيلَ الْفُقَرَاءِ الْمُشْتَعِلَةَ بِالْفَيْض... وَأَنْضُو عَنِّى نَقِيقَ الضَّفَادِع...أُوَدِّعُ الْأَسْمَاكَ فِى الشِّبَاك...أُودِعُ الثِّمَارَ فِى أَرْحَامِ الْجُذُور...وَاُلْقِى بِحَيَاتِى فِى الْبَحْر...!!!

٤

تَعْبُرين نَهْراً يَتَأَفَّف منْ ظَلَالِي... يَرْكُنُ سَوَاحِلَ بَعيدَة... وَيُفَجِّرُ الْغُيُوم فِى الْمحَاجِر... تَبّاً للرِّيح جاءت مُتأَخِّرة... والسُّفُن تُلْقِى حِبَالَهَا فِى يَدِ الصَّيادِينَ...  وَتُغَادِرُ شُطُوطَكِ الذَّابِلَة...  عَفَّ الْكَمَانُ أَوْتَارَهُ وانْتَحَرْ  فَلاَ رَقْصَ...  وَلَا غِنَاء  دَبَّ الْجَلِيدُ فِى الْعَزْف  وَغَابَتِ الشَّمْسُ مِنَ الضَّاحِية... لَيْلٌ كَاسِحُ الْأَلْغَامِ شَعْرُكِ يَدَاكِ نَارٌ قَدِيمَةٌ تُلْهِبُ ثَلْجَ الْوَقْت...  تُؤَنِّبُ ظَهِيرَةً تَسَلَّلَتْ إلى خَيْمَةِ اللّيْل...  هَذَا النّهَارُ  لِصٌّ...  وَتِلْكَ الشُّرْفَةُ أُغْنِيَةٌ تَتَدَحْرَجُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلِ الذَّاكِرَة... تَبْكِى أَشْرِطَةً مُبْتَلَّةً بِلَوْعَةِ الِانْتِظَارِ وَطُولِ السَّهَر... وَتُعَاتِبُ قَمَراً هَشَّمَ مِزْهَرِيَّةَ السَّرْدِ عَلَى نَاصِيَةِ الْأَلْسِنَة...  وَأَنْتِ وَحْدَكِ تُغَازِلِينَ شَالَكِ الْأَحْمَر...  تُطِيلِينَ النَّظَر فِى مَرَايَا النَّار فاشْتَعِلِي...   واخْمِدِي...  وَكُونِى رَمَادَ الْبَارِحَة  تَلْعَنِينَ قُبَّعَةَ الْحَاضِر...  وَجْهٌ وُجُوهٌ وَتِلْكَ أَقْنِعَة...  فَمَا يُضِيرُكِ لَوْ بَاضَتْ قُبَّعَة قَمَراً رَمَادِيَ الْبَيَاض... شَمْساً فِى صِيغَةٍ مُذَكَّرَة  أَرْضاً عَطْشَى...  وَحَمَاماً يَغْتَسِلُ مِنْ غُبَارِ الْحَقِيقَة...!!!

٥

كَمَا النَّهْر أَنْحَتُ مَجْرَى الْأَبَد...  أَحْفِرُ الْخُضْرَةَ وَأَسْتَلْقِى عَلَى هَامِشِ الرَّمْل...أَكْتُبُ تَارِيخَ الشَّجَر...عُزْلَةَ الْحَجَرِ عَلَى نَاصِيَةِ الْمُنْحَدَرَات... وَأُلْقِى نَظْرَتِى الْأَخِيرَة... أَعْرِفُ أَنِّى سَأَعُودُ فِى غَيْمَةٍ... فِى بَسْمَةِ سَاقِيَةٍ... فِى بُخَارِ الصَّيَادِينَ الصَّاعِدِينَ إِلَى الْبَرّ... وَأَجْهَلُ عُبُورِي... أَقِفُ وَحِيداً أُرَوِّضُ الْوَقْت... أُغَيِّرُ دَفَّةَ الْخَرِيرِ جِهَةَ الصَّحْرَاء...وَأَقْلِبُ مُعَادَلَةَ الْعَطَش... أُبَدِّلُ الْعَقَارِب وَالدَّوَائِر... وَأَنْسِفُ مُثَلَّثَ الطِّين... وَأَنْتَصِرُ لِنُقْطَةِ الْمَاءِ والرّيحِ وَ النّار... مَمْلَكَتِى حُرْقَةٌ فِى نَايٍ... وَحَفِيفٌ فِى هَزَّةِ الظِّلَال... وَمَاتَبَقَّى مِنْ لَسْعَةِ الْوَرْد وَلَوْعَةِ الْجُلَّنَار...!!!

٦

ضَوْءٌ قَادِمٌ... الطَّرِيقُ خَيْطٌ نَحِيلٌ... وَهَذَا الْمَدَى مَمَرٌّ مَجْهُولْ... وَتِلْكَ الَّتِى تُسْنِدُ بَابَ الرَّحِيل... تَتْرُكُ غُبَارَ الْوَقْتِ عَالِقاً فِى الِانْتِظَار وَتَغِيبْ... أَنَا النُّوتِيُّ التَّائِهُ... أَقِفُ غَلَى مَاءِ التُّخُومِ حَيْرَانَ النَّظَرَاتِ... ظَامِئَ الْمَعْنَى... شَاهِداً عَلَى الرّيحِ تَعْبُرُ قَوَارِبَ الْمَوْتَى... جَذْلَى بِمِلْحِ الْأَرْضِ...!!!

٧

أَيّها النَّبْعُ الْبَعيدْ... خَلْفَ الْجَبَلِ السَّعيدْ... تَنَامُ سُعاد... تُطَرّزُ الْمَدَى بِمَا تَيسّر مِنْ النّشِيدْ...  تَحْلُم بِأرْضٍ تَبْتَسِم...  وَعُيونٍ بِالغُيوم تُزهِر... تَقِفُ عَلَى رَبْوَة الْجنُوب سَاهِدة... تَخْرسُ شَمَالَ الشَّمس... وَتَلوِى رؤاها شَرْقَ الجليدْ... تنثره ورداً يَانِع الحُمرة... فى دمى نارَ جَوى رماد... وسعادُ فى يديها الغياب حداد... !!!

٨

فِى تلْك البُحيْرةِ... كَانَ وجْهِى صُورةً فِى يقْظته... يَدِى شَجرَةً خَضْراء... قَدَمَايَ جُذوراً تأْبَى الرّحيل... أَنْفاسِى بُخَارُ أَرْضى الْيانعَة بدهْشَة العصَافير... كَانَ جَسَدِى ظِلالاً لِلْغُرباء... نَشِيدَ غُيومٍ ترْقُص عَلَى جِبَالِ الْمَدَى... فِى انْتظَارِ زَفَّةِ الرَّبِيع... !!!

٩

فِى تِلْكَ الْبُحيْرة... كُنْتِ مَائدَة شهية... تحُفُّك ملَائكَة النّدَى... تحْرُسكِ كتائِبُ الْعُزلة... وابْتهالُ الْخطاطيفِ السَّابِحة فِى زَهْوِ الخَرير... كُنْتِ طِينَ الْأَبَدية... نَخِيلاً إلى البَدْر يَسْعَى... وينحنى على أرضنا الأُولى... !!!

١٠

فِى تلْك الْبُحيْرة... يُوقظُنى شَجَى الْحاضِر... الْأرضُ تخْلعُ الشَّجَر... تسْلخُ النَّشيد مِن الخرير... نَارَ الْجَوى مِنْ أنْفاس القصَب...وَتطْرُدُ الشّمْس مِنْ سَماء العشِيرة... !!!

11

فِى تلْك البُحيْرة... ذبُلت خُطايْ... أَيْنَع شجْوِي... واَنْتفَض حدْسِى معْلناً... أنّ الرّحيل قادمٌ... أنّ الرمْلَ سيرَةٌ تكتُب وَجَع الْأَرض... حُزْن الظهيرة من شغبِ الطُّفولة...!!!

12

فِى تلْك البُحيْرة... صحْراء تكْبُر... عطَشٌ يَكبُر... ريحٌ تكْبُر... شواهدُ الماء تكْبُر... وفِى رؤايَ تصْغُرُ التّراتيل

يدِى خريفاً تصغُر... يَشْحَبُ الْحنينُ فِى قدميَّ... والذّكرى تصغُر... ويكبُر الْأسى فِى التّهاليل...!!!

13

ذاكَ النَّهرُ الصغيرُ... غَارَ فِى دَمِى ونَامْ...لَمْ يَعُدْ يُزهرُ فِى أرْضِي... وَيغْرِى الْآنامْ... ذَبُل الْمجْرى... ودَفنْتْ ظلالَها الْأَشْجَارْ... وذاكَ الطّيْر حَملَ عُشّه... واللَّقلاقُ... الْخُطّافُ... رَحلُوا جَميعهُمْ تَاركينَ خلْفهُم الصّحراء... ورَملُ البوارْ... البُيوتُ ستطْوى الذّكرياتِ... أنفاسَ الجُدران...صُورَ العائِلة... صمْتَ النّوافذْ

وتذْهبُ بَعيداً تأْكلُها حسْرةُ الأيّام... تلوكها ألسنة العجَم... أنّ هُنا كانتْ بُحيْرةٌ تجودُ على الدّوام... انطفأ ضوءُها... وَحَلّ فى مَداها طميٌّ وظلامْ...!!!

اقرأ ايضاً | أحمد الزناتي يكتب: لا تسبّ حياتك: من أفكار ويليام جيمس وفلسفته

نقلا عن مجلة الأدب: 

2023-3-4