ممدوح رزق يكتب: طائر إثر طائر: مخاتلة الوجود

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

ثمة كاتب فى سعيه للتعرّف على تجارب وشهادات الكتّاب الآخرين حول «الكتابة»، ربما خاصة المقترنة ب «تدريسها»؛ فإنه يستهدف مسبقًا الحصول على تأكيدات للرؤى والأفكار التى استقرت فى وعيه خلال رحلته الشخصية مع الكتابة، لاسيما بالطبع لو استخدم ذلك الكاتب الآخر نفس الصيغ اللغوية التى تشكلت داخل هذا الوعى فى تعبيره عن تلك الرؤى والأفكار، أما إذا كانت هذه التجارب والشهادات تحمل اختلافًا أو تنافرًا مع ما سعى هذا الكاتب للحصول عليه، أى أنها لم تقدم الدعم المنتظر ل «المفاهيم» الثابتة فى قناعاته حول الكتابة، فإنه قد يرجو ألا ينطوى هذا الاختلاف أو التنافر بأى حال على تهديد حقيقى أو على الأقل على نوع من التحدى لتلك المفاهيم التى تستحوذ عليه، وإلا سيجد نفسه مضطرًا لمجابهتها باعتبارها «أخطاءً». هل «خطأ» هى الكلمة المناسبة هنا، خاصة حينما نتحدث عن حيوات متباينة ومن ثمّ عن مسارات غير متماثلة للكتابة؟

إن معيار الإجابة عن هذا السؤال يتحدد فى الإجابة على سؤال آخر: ما الذى يُفترض مجادلته حقًا؛ الكاتب أم ما يستحوذ عليه؟ الذات فى حقل الاختبار الأدبى أم ما تتحدث عنه حين ترغب فى سرد تجربتها أو تدوين شهادتها؟ الفرق واضح للغاية: أن «تقيّم» مفاهيم الكاتب.

وأن تفكك السلطة التى تنتج هذه المفاهيم . من «يقيّمون» مفاهيم الكاتب هم أنفسهم الذين يقرأون أعماله مثلما يطالع المعلم موضوعات مدرسية لأحد طلابه: «أحسنت. هذا سيئ. كان ينبغى أن تفعل كذا. ما كان يجب عليك كتابة ذلك».

وأما الذين يطاردون هيمنة «المعرفة» التى توظف أحكام الوصاية والتفضيل والإدانة عبر أجساد الكتّاب فإنهم لا يقاربون المختلف أو المتنافر بوصفه «اعتداءً» على ذواتهم أو عقائدهم وإنما بوصفه «آخر» فحسب.

«وهكذا ترعرعت بالقرب من هذا الرجل الذى جلس إلى مكتبه طوال النهار وخط كتبًا ومقالات عن الأماكن والأشخاص الذين رآهم وعرفهم. قرأ الكثير من الشعر، وسافر فى بعض الأحيان. استطاع أن يسافر إلى حيث يشاء بدافع من الشعور بالغاية.

وإذ من مزايا العمل فى الكتابة أنها تمنحك عذرًا لفعل أشياء بعينها وزيارة أماكن بعينها واستكشافها. والميزة الأخرى أن الكتابة تحفزك على النظر عن كثب إلى الحياة، الحياة بكليتها فى غمار تخبطها وتأرجحها».

وفى كتابها «طائر إثر طائر» الصادر عن «دار أثر» بترجمة إيمان معروف؛ تسترجع الكاتبة الأمريكية آن لاموت خطواتها نحو «تعليم الكتابة»: مطالعات الكتب فى الطفولة بين والدين يقرآن طوال الوقت. علاقة أبيها الكاتب بأصدقائه من المؤلفين الذين كانوا يحضرون إلى المنزل للشرب وتناول العشاء. إرشادات أبيها للسجناء فى برنامج الكتابة الإبداعية. اتسامها فى الصغر بالتوتر والخجل وغرابة المظهر.

كتابة قصائد مبكرة تشبه الأغانى الشعرية الإنجليزية القديمة،الانغماس فى الكتابة بالمرحلة الثانوية،التنقل بين الجماعات الأدبية والسياسية والعرقية المختلفة لاكتساب الخبرات والأفكار. كتابة المقالات لصحيفة الكلية. هجران الدراسة والحصول على وظيفة كاتبة طابعة. الكتابة فى المقاهي. العمل فى تدريب التنس وتنظيف المنازل. إصابة والدها بورم فى الدماغ. نشر كتاب قصصها القصيرة الأول حول مرض أبيها. تعاقب نشر كتبها. البدء فى ورشتها للكتابة.

«إن رؤية نفسك فى عالم النشر تبدو فكرة رائعة: يمكنك الفوز بكثير من الاهتمام دون الحاجة إلى الظهور فعليًا فى مكان ما. ففى حين يتعين على الآخرين الذين لديهم ما يقولونه أو يريدون أن يكونوا مؤثرين مثل الموسيقيين أو لاعبى البيسبول أو السياسيين ، أن يخرجوا أمام الملأ، فإن الكتّاب الذين يميلون بطبعهم إلى الخجل، يمكنهم البقاء فى المنزل وتحقيق الشهرة فى الآن نفسه. ثمة العديد من المزايا الواضحة لهذا؛ إذ لست مضطرًا للتأنق على سبيل المثال، ويمكنك تجنب سماع استهجانهم لك وجهًا لوجه».

ولكن ما كان جديرًا بالاهتمام بالنسبة لى من بين كل ما كتبته «لاموت» عن ضرورة الإصغاء، والتحلى بالجرأة والأصالة، والسماح للنفس بارتكاب الأخطاء، والكتابة كل يوم لبعض الوقت  كعزف السلم الموسيقى على البيانو أو كإعادة ترتيب الأشياء مسبقًا مع النفس، والكتابة كعهد شرف والالتزام بإنهائها، والتقاط كل ما يُسمع وتدوين كل شيء، والكتابة كحالة ثورية من الصبر.

وعدم إعطاء أولوية الاهتمام للنشر، والتخلى عن الإيمان بتحقيق الكتابة للنجاح المالى وراحة البال والفرح والمكانة المُرضية؛ ما كان جديرًا بالاهتمام بالنسبة لى هو تلك الصفات التى أطلقتها على الكتابة بدءًا من نصوصها الأولى وحتى تلك التى استخدمتها كنماذج لشرح أفكارها.. الصفات الخاضعة ل «سلطة التقييم».

«القصص الفظيعة»، «جملة سيئة للغاية»، «المسودات التافهة» إلخ.. إنها لا تستخدم تعبيرات مثل «غياب التوافق» أو «فقدان الملاءمة» أو «عدم التناسب» مثلًا فى حديثها عن «الكتابة»، وإنما تستعمل دون تردد مقاييس «الجودة والرداءة»، «الجمال والقبح»، «الصواب والخطأ»، وهو ما يشير إلى رضوخ أفكارها بشكل مطلق إلى «سلطة التقييم»، إلى عدم محاكمتها أو مساءلتها، حتى لو كنا نتحدث عن محاولات بدائية أو مخططات تجريبية للكتابة.

فى إحدى «المحاضرات الصغيرة» التى تضمنها كتابى «استراقات الكتابة» كتبت هذه السطور:

«يكاد الندم على كلمات أو سطور أو ربما صفحات تحوّلت من تلصص على اللغة داخل مسودة سرية إلى يقين عارٍ فى أوراق مطبوعة أمام عيون الآخرين؛ يكاد هذا الندم أن يكون تاريخًا جوهريًا للكتابة.. لكن عن أى ندم أتحدث؟ إنها لحظة الألم الخالدة التى لا تنفصل أبدًا عن حكمة تخديرها المؤقت فى اللحظة التالية.. الجرح المزمن الناجم عن الشعور بارتكاب حماقة لا سبيل لمحوها، والذى كلما نزف مجددًا يعيد إليه إدراك بديهى التئامه: لم يكن الأمر كذلك وقت كتابته.

وكل ما يبدو خاطئًا، قبيحًا، سيئًا يستند فى حقيقة الأمر لأحكام لا تخصني، وإنما تنتمى إلى شخص عليه أن يمنح تلك الصفات العقابية للكتابة  أى كتابة  نتيجة عدم انسجامها مع ما يؤمن به، أو ما يعتقد لحظة القراءة أنها الأفكار الأكثر صوابًا عن العالم. تخص معايير ما قبل الوجود الناشئة عن الزيف الأعظم (الخير والشر) والمتجذرة فى أرواح كائناته.. فى كل شخص يوجد هذا الإحساس بالتنافر.. الغريزة التى تحكم على هذا التنافر بأنه اعتداء على الذات.. تهديد للحياة والموت كما تستقر صورة كل منهما فى الوعي.

وهذه الأحكام تخص ذلك الشخص الكامن فى داخلى والذى تتماثل عفويته (التقييمية) مع الآخرين بكيفية عابرة.. القارئ الذى يقرر بأن ما كان ضروريًا أو فى أقرب احتمال لوجوبه وقت الكتابة ربما لم يعد ملائمًا فى الحاضر.. الإنقاذ الاعتيادى من تلك الحسرة يرجع لتذكير بالغ البساطة والمشقة معًا بأن لكل لحظة كتابتها دون مقارنات تفاضلية مع لحظة أخرى تسبقها أو تخلفها.. كل لحظة مختلفة وغير منتهية حين تكون نصًا، أى تخلق مبرراتها أو دوافعها اللغوية المستقلة عن لحظات أخرى.

ولم أتوقف منذ قصتى الأولى فى عمر الثالثة عشر عن نشر كل نص أكتبه مهما كانت رؤيتى له حينئذ، والتى قد تتباين مع ما كنت أختبره مع ذلك النص فى الماضي.. ذلك لأن النص بصمة غير خاضعة لتصنيف الجودة فى سيرتي.. السيرة التى لا تقاس بذلك الذى يسمى (التطور) وإنما بما كانت تجسده كل خطوة منها عند حدوثها.

وبالزمن الخاص الذى توثّقه والذى لن يكون هو نفسه حين تعاود كتابته مصححًا أو مستدركًا ما تظن  كقارئ  أنها عيوب تكشفت بعد فترة طويلة من الاستقرار عليه كحصيلة من الكلمات الجديرة بتمريرها خارج عزلتك كتاريخ شخصي .. ما تفعله فى النصوص اللاحقة ليس معالجة لقبح مستقر فى نص سابق وإنما تأكيد على اتساق كل كتابة مع مراوغة اللغة فى مفترق طرق ما.. الاتساق الذى يحرم التصحيحات والاستدراكات من أى نهاية حاسمة.. كل كتابة هى تجانس مع ما يبصره عماؤك من الملامح المتبدلة لليأس».

وما كان جديرًا أيضًا بالاهتمام بالنسبة لى هو علاقة السخرية التى تعرضت لها «آن لاموت» فى طفولتها بسبب مظهرها وطريقة سيرها بالكتابة.. ليس كل من يتعرضون إلى السخرية فى طفولتهم أو فى حياتهم بشكل عام يصبحون كتّابًا.. لكن بعضهم يتخذ هذا القرار لدافع ما أو بمزيج من الدوافع الواضحة أو الغامضة.

لكن ستكون للسخرية جذور فيها.. أحيانًا كرد اعتبار للذات، كتصفية حساب مع أناس بعينهم، أو كثأر شامل دون تحديد، لكن ما أفكر فيه هو ذلك الغضب  الذى يمكن استشعاره فى كلمات لاموت حول خجلها وتوترها الذى يوجّه الانتقام إلى ما وراء مصادر الأذى الملموسة دون أن يغفل  بالطبع  عن المرور من ظلامها.. أفكر فى خلخلة الحدود المباشرة للثأر باعتبارها مجرد عتبات وليست غايات.. أنفاق فى باطن العالم للتسلل نحو الغيب.. هذا ما يمكن تسميته أيضًا بمحاولة فهم الانتقام.. تشريحه كتدبير ضرورى لتصفية الحساب مع جوهر الأذى.

و«كان من الواضح أننى الشخص الذى سيكبر ليصبح قاتلًا متسلسلًا، أو يحتفظ بالعشرات من القطط؛ ولكن بدلًا من ذلك أصبحت فكاهية. نعم لقد أصبحت فكاهية لأن الأولاد والأولاد الأكبر سنًا الذين لم أكن أعرفهم حتى، كانوا يمرون بجانبى على ظهر دراجاتهم ويسخرون من مظهرى الغريب.

وشعرت فى كل مرة كأن أحدهم يطلق النار عليّ من سيارة مسرعة. أعتقد أن هذا ما جعل طريقتى فى المشى تشبه نيكسون؛ إذ كنت على الأغلب أحاول سد أذنيّ بكتفيّ، لكنهما لم يصلا تمامًا. لذا عملت فى البداية فكاهية ثم شرعت فى الكتابة، على الرغم من أننى لم أكتب دائمًا أشياء فكاهية». 

وبدأت منذ فترة فى دراسة نقدية حول «المهانة» فى حياة الكاتب ولدى شخصيات أعماله.. هذه الدراسة هى مواصلة لمشروع سبق أن نُشر منه كتابى «الغفلة والإدراك / مدخل تفكيكى لفلسفة شوبنهاور».. تتناول الدراسة نماذج عديدة: تشيخوف.. كافكا.. دوستويفسكي.. غوغول.. بورشرت وغيرهم..  لكل كاتب تجربته الخاصة مع «المهانة».

ومن ثمّ فإن لكل منهم شخصياته الأدبية التى تشكلها هذه التجربة.. هذا التشكيل لتجربة المهانة فى الشخصية القصصية أو الروائية لا يقدم تأويلًا لإنسانية الكاتب وحسب، وإنما يطرح كذلك صورة «الكتابة» لديه.. ما يمكن أن تعنيه، ما تنحاز إليه كخبرة جمالية وفلسفية، ما ينبئ بالأثر الذى تريد أن تخاتل به الوجود.  

اقرأ ايضاً | «أحمد فريد» بعد اكتمال القمر: لحظة صدق خير من عُمر| حوار

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-4