خواطر الأمام الشعراوي | صون نعمة العقل

الأمام الشعراوي
الأمام الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 219 من سورة البقرة: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».

حيث يقول: والحق سبحانه وتعالى عندما قال: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر»، ذكر لنا المفاسد وترك لنا الحكم عليها، قال سبحانه مُبَلغّاً رسوله: «قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» ولو لم يقل «وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» لاستغرب الناس وقالوا: نحن نأخذ من الخمر منافع، ونكتسب منها، وننسى بها همومنا، كانت هذه هى المنافع بالنسبة لهم، لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من نفعهما، أى أن العائد من وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما، وهذا تقييم عادل، فلم تكن المسألة قد دخلت فى نطاق التحريم.

لأنها مازالت فى منطقة النصح والإرشاد. وقوله تعالى: «وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا» يجعل فيهما نوعا من الذنب، لقد كان التدرج فى الحكم أمراً مطلوباً لأنه سبحانه يعالج أمراً بإلف العادة، فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة.

والعادة شيء يقود إلى الاعتياد؛ بحيث إذا مر وقت ولم يأت ما تعوّدَتْ عليه نفسيتْك ودمك يحدث لك اضطراب. وما دامت المسألة تقود إلى الاعتياد، فالأفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع الاعتياد.


ولقد كانت بداية الحكم فى أمر الخمر أن أحداً من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم نهائياً، وجاء ليصلي، فقال: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)  أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)» وبعدها نزل تأديب الحق بقوله:»يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ..» «النساء: 43».


وفى ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر ألا يقربها؛ فالإنسان الذى يصلى صدر عليه الحكم ألا يقرب الصلاة وهو سكران، فمتى يمتنع إذن؟ إنه يصحو من نومه فلا يقرب الخمر حتى يصلى الصبح.

ويقترب الظهر فيستعد للصلاة، ثم العصر بعد ذلك، ويليه المغرب فالعشاء، أى لن يصبح عنده وقت ليشرب فى الأوقات التى ينتظر فيها الصلاة، إذن فلا تصبح عنده فرصة إلا فى آخر الليل، فإذا ما جاء الليل يشرب له كأساً ثم يغط فى نومه. ويكون الوقت الذى امتنع فيه عن الخمر أطول من الوقت الذى يتعاطى فيه الخمر.


ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع، حدثت بعض الخلافات والمشكلات التى دفعتهم لأن يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضح لهم حكماً فاصلاً فى الخمر فنزل قوله تعالى: « ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِى الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ» «المائدة: 90-91».. فقالوا: انتهينا يا رب.


وإذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على الإنسان عقله؛ لأن العقل هو مناط التكليف للإنسان، وهو مناط الاختيار بين البدائل، فأراد الحق أن يصون للإنسان تلك النعمة.


ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر فى صورة الأصحاب، ويحرص كل منهما على لقاء الآخر، فأى خيبة فى هذه الصداقة؟!
ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله، يأخذ ماله ويبقى على صداقته، والعجيب الأكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر . ولو لاحظت حياة هؤلاء الذين يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بلا احتياط ولا ينتفعون أبداً بما يصل أيديهم من مال مهما كان كثيراً.

ولماذا؟ لأن المال حين يُكتسب بيسر، يُصرف منه بلا احتياط، هذا هو حال من يكسب، أما بالنسبة للخاسر فتجده يعيش فى الحسرة والألم على ما فقد، وتجده فى فقر دائم، وربما اضطر إلى التضحية بعرضه وشرفه، إن لم يبع ملابسه، وأعز ما يملك.

ويحدث كل ذلك بأمان زائفة، وآمال كاذبة يزينها الشيطان للطرفين، الذى كسب والذى خسر، فالذى كسب يتمنى زيادة ما معه من مال أكثر وأكثر، والذى خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب.


وعندما يتعود الإنسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه، ويعتاد أن يعيش على الكسب السهل الرخيص، وحين لا يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس.

اقرأ ايضاً | الشيخ عبد التواب قطب: رمضان فرصة للتصالح مع النفس وتصحيح الأخطاء

نقلا عن صحيفة الاخبار : 

DN_2023-3-2