تساؤلات

ريحتها إيه!

أحمد عباس
أحمد عباس

الفكرة عبثية جدًا لاحت لى لما طالت المكالمة مع أحدهم واستدعاها رأسى الملعون، ذلك الذى يرمينى دائمًا على مهالك متتالية أو على الأقل يضعنى على بدايات الطرق ويفتح كل الاحتمالات فجأة ثم يدعنى أنزلق وراءه بسلاسة شديدة، لا أعتنى حينها إذا كان سيورطنى من جديد أو لا، لكن فى كل مرة يستدرجنى وأنا كالعادة أتدحرج خلف أفكاره كطفل لاهٍ يركض خلف كرة بالون شاردة.


كان الحديث لحظتها قد اشتد واستنفد كل المفردات البعيدة والقريبة فى وصف شخص مؤذٍ يتلذذ بالدهاء ويمارسه بوضاعة على ضحاياه مستهدفًا الأقربين دائمًا، ولما استهلكنا كل العبارات افترض رأسى فرضية مزعجة تتساءل.. ماذا لو أن للنفوس روائح تُشتم!
انزعجت جدا من مجرد الفكرة ونفضتها عن رأسى ثم رددت بصوت مسموع: لا لا.. الحمد لله، أنهيت المكالمة ونمت فى أمان الله لكن رأسى ظل منتصبًا ليلة كاملة، شممت فى هذه الليلة روائح لا حصر لها وكلما هفت رائحة أنتفض وأفتح عينى حتى أدرك أنه مجرد حلم، وكعادتى أعافر بما أوتيت من صبر لأستعيد نومى حتى أنجح، لتعود الروائح من جديد واحدة تلطشنى من هنا وأخرى تجذبنى من هناك وواحدة تغمرنى وهذه تثير اشمئزازى أما تلك فتخيفنى جدا فأصحو مذعوراً من جديد.. اللعنة على هذه الفكرة وهذه الليلة.. لدى اجتماع هام فى الصباح والنهار يقترب، أرجوك نم.. قولتها لنفسى مرات وأنا أحايلها وأسايسها.
استعدت أخيرًا سيطرتى ونمت، ثم بدأت الفقرة الجديدة من هذا العرض الساهر، تحول أنفى فجأة إلى شىء آخر لا أعرفه فما أن أرى فى عين أحدهم رعبًا إلا وأتتبعه فأشم رائحة ترعبنى، وما أرى ملامح مطمئنة إلا وأتعقبها فتتغير الرائحة وأطمئن والجميع حينها يمشون فى طوابير طويلة، يشمون روائح بعضهم فيصيبهم ما يصيبهم، فهمت من المشهد أن - وياللأسى- صاحب الرائحة هو الوحيد الذى لا يعرف رائحة نفسه وكل من حوله يشتمونها بوضوح، أما هو فيشم رائحة آخر غيره، وهكذا.


فتحت عينى على نوبة سعال مميتة كادت تزهق روحى لما عرقلتنى رائحة آذتنى وأصابتنى بكحة شديدة، لم أتمهل لأعرف رائحة مَن لكنها مؤذية أما صاحبها فوالله- كان فى رداء فاخر جدا جدا وله برفان صاخب لم يستر رائحة نفسه، ثلاثون دقيقة إضافية ضاعت فى التوسل لرأسى أن يهدأ فقط.. أرجوك لدى اجتماع عاصف بعد ساعات قليلة وما تزال ذقنى طويلة ويجب أن أستحم، دعنى أنام من فضلك.. هكذا سايست رأسى حتى استكان من جديد.
أخ!، العرض مايزال دائرا هناك، أهلًا بك فى الجزء الرابع من المسرحية الاستعراضية «ريحتها ايه»، ملامح الناس تبدلت تمامًا فى هذا المقطع، الذين كانوا خائفين تحولوا والفرحين غضبوا والمنافقين استقاموا والبائسين سعدوا والسعداء بكوا والمتكبرين ذُلوا والمقسطين ظلموا وصارت الروائح فوضى تغمر الجميع، وأنا ضائع بين هؤلاء وأولئك فى فضاء من روائح أشمها لأول مرة، احترت جدا فيما يدور.. هل تتغير روائحنا مع نوايانا أو يعتاد الذين حولنا روائحنا أو أننا نعلو ونهبط ونختلف ونتجدد ونتعلم ونتحسن ونسوء وهكذا، وهذا تساؤل يستحق ليلة بكاملها، انكفأت على وجهى بينما كنت أشمشم فى العابرين، واستفقت على ضربات قلب سريعة وموجعة كادت أن تخرج لحامات ضلوعى عن بعضها ونهجان مستمر وأنا أردد: الحمد لله ربنا يديم ستره، أما إجابة السؤال الأول «ماذا لو أنه للنفوس رائحة»، فكل ما عرفته عن إجابته هو أنك لن تحلق ذقنك ولن تستحم ولن تلحق باجتماعك الملعون.