من دفتر احوال

ثقافة «المقصلة»

جمال فهمى
جمال فهمى

فى مثل هذه الأيام قبل سنوات بعيدة، عندما كانت ثورة يناير مازالت تثير نقاشا صاخاب بعضه جاد وأغلبه خليط من تفاهة وجهل وغرور، سمعت من أحدهم عبارة كان يقولها بانفعال يلامس حدود الهتاف معناها: إن رموز نظام الرئيس حسنى مبارك لابد أن تتم تصفيتهم فورا من دون تحقيقات ولا محاكمات ولا كلام فاضى من هذا النوع.. هكذا قال، ثم أردف معتبرا أن ذلك لو لم يحدث فلن تكون هناك ثورة ولا يحزنون !!


وقتها استفزتنى هذه الكلمات الموتورة التى تخلط على نحو فاحش بين الثورة وما يجب أن يواكبها من إجراءات تؤدى إلى كشف حقيقة ما جرى من مآسٍ أدت للثورة، وتفتح باب الحساب العادل للمسئولين عنها، وبين انتقام أهوج سوف يفجر براكين من عنف مجنون لن يكون باستطاعة أحد السيطرة عليه.
آنذاك حكيت لبعض الشباب الغض حكاية «المقصلة» الرهيبة التى كادت فى إحدى مراحل المسار الطويل للثورة الفرنسية أن تكون عنوانها الوحيد، وقلت وقتها إنها بدأت بفكرة لم تخل من نزق طريف، لكنها انتهت بمفارقة مروعة فيها من العظات والعبر التاريخية ما يكفى لكى يتعلم هؤلاء المأخوذون والمندفعون بالشطط والغرور نحو الهاوية.


إن جنون العنف والإرهاب والتخوين والتكفير إذا ما انطلق وانفتحت أبواب الجحيم على مصراعيها فلن يُستثنى أحد ولن ينجو من النار هؤلاء الذين أشعلوها واستحضروا كل الشياطين.


واستهللت القصة من نهايتها، أى من أن آلة الذبح والقتل الجهنمية تلك التى ارتبطت سيرتها بسيرة ثورة عظيمة رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة، حصدت فى أقل من خمس سنوات أرواح نحو 35 ألف إنسان يتقدم صفوفهم جميعا أبرز وأهم قادة الثورة المحفورة أسماؤهم حتى الساعة، ليس فقط فى لحم تاريخ فرنسا وحدها بل تاريخ الإنسانية جمعاء، من أمثال «دانتون» و»مارا» و»سان جوست» و»هيبير» و»ديمولان» و»كوندورسيه» و»أندريه شينيه» و«مدام رولان» و»بابيف»، فضلا عن «ماكسميليان روبسبير» ذلك القاضى السابق والثائر الخطير الذى رفع شعار «سلامة الشعب أهم من شكليات العدالة»، فلما انعقدت له القيادة فى ذروة مرحلة الإرهاب الثورى طبق هذا الشعار بحذافيره ووسع دائرة المشبوهين سياسيا فذبح الآلاف بالشبهة حتى جاء عليه الدور وقُتل هو نفسه بالطريقة عينها!!
أما بداية حكاية المقصلة فتبدو الطرافة فيها واضحة جدا، إذ كانت فكرتها من نبت خيال النائب والطبيب البارز جوزيف جيلوتان الذى عرض على الجمعية الوطنية التأسيسية (برلمان الثورة) ذات يوم اقتراحا خلاصته أننا مادمنا قمنا بثورة شعارها الرئيسى المساواة بين المواطنين أجمعين فلابد من تعميم طريقة الإعدام بقطع الرأس على كل المحكومين بهذه العقوبة، ومن ثم يتعين فورا إنهاء التمييز الموروث من العهد البائد فى وسيلة تنفيذ حكم الموت بين المدانين المنتمين لطبقة النبلاء والمجرمين العاديين، وقال الدكتور الثورى مسوغا فكرته: إن المجرم النبيل يتمتع وحده بميزة الإعدام ذبحا بينما زميله المجرم المنحدر من طبقات الشعب يعدم شنقا!!
وشفع جيلوتان اقتراحه الذى وافق البرلمان عليه بتصميم مبتكر لآلة قتل جديدة أبدعها هو بنفسه وتتميز بأنها ذات نصل حام قاطع يجذ الرءوس بسرعة ودقة وبألم أقل.. منتهى الرقة والإنسانية!!


أحال البرلمان بسرعة اختراع معالى النائب إلى طبيب مرموق آخر هو أنطوان لويس سكرتير الأكاديمية الملكية للجراحة حتى يبحث الموضوع، وبالفعل قام هذا الأخير بكتابة تقرير ذكى ورحب فيه باختراع جيلوتان، وبناء على هذه التزكية صدر مرسوم بتعميم استخدام آلة الذبح المبتكرة التى أطلق الناس عليها فى البداية اسم «لويزون» أى «لويزة الصغيرة» نسبة للدكتور لويس صاحب تقرير إجازتها، غير أن منشورا رسميا صدر بعد ذلك أعاد الفضل والحق لصاحبه الأصلى وتضمن تسمية المولود الدموى الجديد «جيلوتين»، وهى لفظة مؤنثة مشتقة من اسم الدكتور صاحب الاختراع!!
هذا المنشور أثار غضب جوزيف جوليتان لأنه لم يكن يريد تخليد اسمه بهذه الطريقة، أى مقترنا بآلة قتل شنيعة أفلت رأسه هو نفسه منها بمعجزة عندما كان واحدا من «المشبوهين سياسيا» الذين اعتقلهم روبسبير وأمر بقتلهم جميعا على «الجيلوتين».. بيد أن روبسبيير نفسه أدركه حكم (ثورى أيضا) بالإعدام على تلك المقصلة قبل يوم واحد من تنفيذ الأمر بقتل مخترعها!!!