صراع الهوية والحداثة.. موروث شعبي

داخل مخازن الكونياك بمصنع NOY حيث تبلغ سعة الخزان الواحد حوالى ١٥٠٠لتر
داخل مخازن الكونياك بمصنع NOY حيث تبلغ سعة الخزان الواحد حوالى ١٥٠٠لتر

كحال معظم بلاد الاتحاد السوفيتى السابق، تعيش أرمينيا اليوم فيما يبدو  داخل هويتين، تظهر وكأنها لا تزال قابعة تحت حقبة الاتحاد السوفيتي؛ سيارات موسكفيتش، وفولجا، ولادا، تغزو شوارع المدينة بشكل كامل، حافلات من نوع لياز677 تنقل يوميًا أغلب مواطنى الشعب، مبان عتيقة ومطار لا يمكن وصفه سوى بأنه مطار سوفيتى؛ ورغم التحديثات التى طرأت عليه إلا أن هويته لاتزال سوفيتية.

 

وعلى النقيض تمامًا يبدو أن الشباب الأرمينى الذى ولد أغلبه فى كنف دولة حديثة لا تنتمى سياسيًا لهذا الاتحاد السياسى، أراد أغلبهم الانتماء لهوية غربية مغايرة أقرب للطابع الأوروبى، فكلما اقتربنا من العاصمة يريفان كلما ازدادت مظاهر الحداثة الأوروبية، بدءًا بالسيارات وصولًا لمظهر وعادات الشعب الأرمينى نفسه، وعلى النقيض تمامًا فكلما ابتعدنا عن المدينة واقتربنا من الريف تزداد وتظهر مظاهر الحقبة السوفيتية، إذ يتمسك غالبية الكبار بالانتماء لروسيا لا الغرب، يعتبرون أنها بمثابة الأخ الأكبر لأرمينيا؛ لكن رغم هذا التناقض إلا أن الأرمن بكافة أعمارهم ربما اتفقوا على شيء واحد وهو حبهم للفنون والاعتزاز بثقافتهم.

 

يعتز الأرمن باختلاف أيدلوجياتهم سواء كانت غربية أو شرقية بهويتهم المسيحية، لم يهادنوا يومًا الاتحاد السوفيتى حول الأمر، ورغم قناعتهم بأهدافه، لكنهم تمسكوا بهذه الهوية. إذ منعت القوانين السوفيتية «الرموز» الدينية إلا أن الشعب تحايل على الوضع، يظهر الأمر من خلال التمثال الأشهر فى العاصمة يريفان وهو تمثال «الأم أرمينيا»، الذى تم بناؤه فى أعلى نقطة داخل العاصمة، يكشف المدينة بشكل كامل فى رمزية تؤكد على أن الأم لا تغفل أبدًا عن رعاية أبنائها، فالتمثال يحكى قصصًا ويوثق تراث الأرمن خلال النصف الثانى من القرن ال20، وضع عام 1967، بعد أن تمت إزالة آخر يعود ل«ستالين» بعد موته، فتم التفكير فى تشييد نحت آخر يمثل هوية أرمينيا فاختاروا المرأة الأرمينية، تقديرًا لتضحياتها، إذ يجرى الاحتفاء بها لمدة شهر كامل سنويًا وتحديدًا فى شهر مارس من كل عام.

اشتهرت أرمينيا دومًا بإنتاجها المميز للكونياك والنبيذ والفودكا، كان الفضل فى ذلك لمصنعين هما؛ ARARAT وNOY إذ يعدا ضمن الأشهر فى العالم، لكن الملاحظ أن كلا المصنعين تمت تسميتهما بناء على موروث شعبى ودينى وثقافى ممتد.

ومستندًا على جزء من تاريخهم القديم، فجبل آرارات هو جبل توراتى مقدس عند الأرمن ويقع الآن داخل حدود تركيا بعد أن احتلته فى فترات سابقة، إذ يرتبط بعدة ديانات، وطبقًا لسفر التكوين، فقد استقرت سفينة نوح على قمته؛ لذلك يحظى بمكانة رفيعة لدى الأرمن، لأنه يرتبط بقوميتهم منذ عصور ما قبل الميلاد، وهو الرمز الوطنى الرئيسى لأرمينيا، ويظهر بشكل بارز فى الأدب والفن الأرميني.

وبينما تمت تسمية الثانى باسم NOY «نوح» حيث يظل اسم نوح رمزًا اختص به الأرمن أنفسهم نظرًا لاستقرار سفينته على جبل آرارات؛ لذلك كان اسم المصنع بالنسبة إليهم يحمل رمزية روحية لطالما افتخروا بها على مرّ تاريخهم.

وكانت جولتنا تحديدًا داخل مصنع NOY، والذى تأسس عام 1877 خلال عهد الإمبراطورية الروسية، إذ يقع داخل أراضى قلعة يريفان التاريخية، فقد حافظ أصحاب المصنع على البعد التاريخى والتراثى للقلعة وتركوا «المدافع» القديمة كما هى تمامًا، فداخل المصنع تم عرض بعض الصور والإمضاءت الشهيرة مثل تلك التى قام بها الروائى الروسى ماكسيم غوركى خلال زيارته للمصنع عام 1928.

 

وكذلك السياسيون خلال حقبة الاتحاد السوفيتي . كما وجدنا إحدى الصور الملتقطة على جبل آرارات ، حيث تظهر زجاجات كونياك «NOY» فى الصورة على أعلى قمة الجبل. ولكن يبدو الأمر عاديًا إلا أن المرافقة شرحت لنا أن الصعود لجبل آرارات يحتاج تصريحًا أمنيًا من جانب تركيا لكل من أراد تسلقه.

ولكن يبدو أن هناك بعض الأرمن خاضوا المغامرة، فى محاولة منهم إثبات أحقيتهم فى الجبل التاريخي، واصطحبوا بعض الزجاجات سرًا على سفح الجبل والتقطوا الصور، ورجعوا بالزجاجات إلى أرمينيا حتى صارت الزجاجات فى نهاية الأمر جزءًا من المتحف.

وعلى عمق 20 متراً تحت الأرض نزلنا لمخازن الكونياك العتيق، إذ جرى تخزينها بعناية داخل خزانات ضخمة يحمل البعض منها حوالى 1500 لتر من الكونياك المخزن منذ عام 1890، وغيرها من الخزانات الضخمة التى ارتكزت على الجدار الداخلى للقلعة التاريخية لمنع انزلاقها.

ويعود تاريخ تصنيع غالبيتها لأكثر من 100 سنة، وتتراوح سعر الزجاجة الواحدة نحو 4 آلاف دولارً، كما شاهدنا أيضًا خزانات صغيرة لمشاهير العالم وتم حفظ أصناف خاصة بهم من الكونياك والفودكا.

وكان من ضمن هؤلاء رئيس الوزراء الإيطالى السابق سيلفيو بيرلسكونى والذى تم الاحتفاظ له بخزان يحمل كونياك يعود لعام 1936، وآخر لعائلة الملياردير الراحل Gucci «جوتشى».

اقرأ ايضاً | «طاغية ويستغل احتياطي الاتحاد السوفيتي».. الرئيس الأوكراني يهاجم بوتين بشدة

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-2-26