حكايات| الحب في مرايا الإبداع.. من أساطير الشعوب للفنون المعاصرة

لوحة «لقاء العشاق» للألمانى فريدريش بوتيرويك
لوحة «لقاء العشاق» للألمانى فريدريش بوتيرويك

كتب رشيد غمرى

من الأساطير القديمة إلى الأغنيات الشعبية المعاصرة، مرورا بفنون الحضارات الكبرى، وإبداعات أشهر الفنانين، احتل الحب مكانة فريدة كموضوع للإبداع، لا يستثنى من ذلك عصر، ولا ثقافة. وحظى باهتمام خاص فى حقب النهضة، وتألق فى فترات الانفتاح. كما ارتبطت عملية الإبداع فى مجملها بالحب كمحفز، ومصدر للإلهام، وصارت قصصه عنوانا على سيرة حياة الكثير من عباقرة الفن.

ولا عجب إذا كان كلٌ من الحب والفن يقتات على الغذاء نفسه وهو الجمال. لكن كيف تجلت هذه المشاعر بكل تناقضاتها، وجنونها، فى عالم الإبداع؟ وكيف انعكس الحب بكل تقلباته ونعيمه فى مرايا الفن؟

للحب ألف وجه فى خبرات الشعوب، عكستها الأمثال الشعبية كتعبير فنى مبسط عن رؤاها. الفرنسيون رأوا فيه طاقة جبارة تصنع المعجزات. «الحب يعلّم الحمير الرقص».. هكذا عبّروا بسخرية عن السحر الذى يكتنف المحبين. وحول معنى مشابه يقول اليونانيون: الحب لا يُقهر فى أى معركة، وعلى النقيض صورت بعض الأمثال الحب كمرض عضال، ومنها المثل الأيرلندى: لا طبيب ولا دواء للحب. ويلخص المثل اللاتينى الأمر بقوله: العشاق مجانين. ويقول الإنجليز: الحب يجعل العين السليمة حولاء. وهو ما يذكرنا بالمثل المصرى: «مراية الحب عميا». كما تناولت أمثال عديدة علاقة الحب بالمال، فيقول الفرنسيون: يبقى الحب ما بقى المال. ويقول الألمان: الجوع أقوى من الحب. ويقول الإنجليز: الحساء أفضل من الحب. ويقول الهولنديون: لن يثرى المحب ولو أمطرت السماء ذهبا. ويقول المثل الألبانى: الحب مقابل الحب، والجبن مقابل النقود. وهنا يظهر المصريون أكثر رومانسية عندما يقولون: يا واخدة القرد على ماله، يروح المال ويبقى القرد على حاله، وبصلة المحب خروف. لكن ما لا تختلف عليه الشعوب هو عذابات الحب، فيقول الفرنسيون: من أحب كثيرا تعذب كثيرا، ويقول الإنجليز: البعد عن الحب راحة، ويقول البرتغاليون: من أحب تألم، ويقول الهولنديون: من كتب رسائل الغرام نحل جسمه، ومن حملها سمن.

أساطير الحب
عبّر الإنسان عن الحب منذ عصور ما قبل التاريخ من خلال الأساطير، وأشهرها قصة حب إيزيس وأوزوريس التى قرنت الحب بالخير، وجعلته سرا للخلود والأبدية فى مواجهة الشر والطمع. وحيث قامت إيزيس العاشقة بجمع أشلاء حبيبها من بقاع الأرض، وأعادت إحياءه، وأنجبت منه حورس ليكمل مسيرة النماء. وقد اهتم المصرى القديم بتصوير الحب فى أعمال فنية كثيرة. وظهر كلٌ من رمسيس الثانى ونفرتارى فى مشاهد للحب، وكذلك إخناتون ونفرتيتى، وآخرون. ويبدو تصوير حب الملوك ورجال الدولة وقورا، يركز على جوانب المودة والاحترام المتبادل.

وفى بلاد الرافدين ظهرت إلهات للحب وجمعن بين الخصوبة والنماء والجنون مثل إنانا وعشتار، وقصص حبهما لدموزى وتموز. وفى اليونان القديمة اقترنت أساطير الحب بالوقوع فى سحر الجمال، ولم يفرق الحب بين الآلهة والبشر، حيث جرى التزاوج بينهم، كما لا تخلو من قصص الخيانات، والهجر، وإنزال العقاب. وترى الأسطورة اليونانية أن البشر الأوائل لم يكونوا رجالا ولا نساء، ولكن جمعوا بين الاثنين، وبسبب تآمرهم على الآلهة، شطرهم زيوس إلى رجال ونساء، وهو ما ولّد فيهم الرغبة فى الالتحام مجددا. كما تتعدد إلهات الحب الخالص المقترن بالجمال لدى الإغريق والرومان من فينوس وأفروديت إلى أثينا. وقد جسدت الفنون تلك الأساطير من خلال الرسم والنحت، والأدب. ويعتبر كتاب «فن الحب» لأوفيد أحد أهم ما كُتب فى الحب على مر العصور. وكان أوفيد شاعرا عاش فى روما قبل ألفى سنة، وتناول فى الكتاب فنون الحب من معايير اختيار المحبوبة، وكيفية استمالتها، والحفاظ على حبها، ووجه الفصل الأخير للنساء حول فنون الحب والاحتفاظ بوهجه.
ولا يمكن أن ننسى حضارات الشرق القديمة، التى أولت الحب عناية فائقة، حتى أن هناك معابد فى الهند مخصصة لفنون الحب، وهى إبداعات معمارية وتشكيلية. كذلك يعتبر تاج محل أحد الإبداعات المعمارية المعبرة عن الحب. وكتاب «كاما سوترا» الذى ترجع أصوله لأكثر من ألفى سنة، وهو أحد روائع الأدب السينسكريتى حول ما يعرف بعلم الحب.

ملهم العباقرة
وارتبط الحب بالإلهام بالنسبة للفنانين على مر العصور. أحدهم الموسيقار بيتهوفن الذى كان عاشقا متعدد العلاقات، جعل من قصص حبه وقودا لإبداعاته. أشهر حبيباته هى «تيريزا ملفاتى» التى تبادل معها رسائل الحب، وحرمته الطبقية من الارتباط بها، فتزوجت صديقه، وعانى بسببها لوعات الغرام. ورغم تعدد علاقاته، ترك لنا عدة رسائل حب محيرة، كتبها لحبيبة مجهولة عام 1812، واكتُشفت بعد وفاته. ويرجح أنها أعيدت له بعد انتهاء العلاقة، كما كان العرف فى القرن التاسع عشر. ورغم تقلبه بشدة، لكنه كان مرهفا. ويكفى أن نعلم أن سوناتا ضوء القمر التى يعتبرها البعض أكثر المقطوعات رقيا على مر التاريخ، هى من إلهام فتاة عمياء فقيرة، كانت تعزف فى الظلام على بيانو قديم بينما يصلح أخوها على ضوء شمعة زوجا من الأحذية. وقد قاده عزفها ليدخل البيت، وجلس على البيانو وبدأ العزف، وعندها انطفأت الشمعة، ففتح أخوها النافذة، ليدخل ضوء القمر، وحيث ألهم بيتهوفين سوناتاه الشهيرة، التى جعلت الفتاة العمياء تصرخ قائلة: «أنت بيتهوفين».

الموسيقار الروسى تشايكوفسكى صاحب «بحيرة البجع» و«الجمال النائم»، له حكاية مع الحب والإلهام على النقيض من صخب وتقلبات بيتهوفين، لكنها أيضا تنطوى على غرابة؛ إذ قامت على الرسائل طوال ثلاثة عشر عاما. وقد اشترطت حبيبته الأرملة الثرية ألا يلتقيا أبدا حفاظا على المشاعر، فتواصلا عبر أكثر من 1200 رسالة تقطر حبا. بدأت علاقته بملهمته «ناديجدا» عندما كلفته بتأليف أعمال موسيقية، دفعت له مقابلها بسخاء. نشأ الحب، والتزما بالشرط. وضمن لعبة مثيرة، بدأت تقربه منها، مع الحفاظ على ألا يلتقيا، فأسكنته قصرا تملكه، وضعت فيه كل ما يحتاجه بسخاء، ثم أسكنته بيتا فى الشارع حيث تقيم، يبعد عنها فقط 500 متر، ثم أسكنته قصرها فى جناج منفصل فى آخر الحديقة، وخلال كل ذلك وضعا القواعد الصارمة حتى لا يلتقيا، واستمرا بتبادل الرسائل الملتهبة. حتى كان يوم اضطربت فيه المواعيد ووجد العاشق نفسه فى مواجهة حبيبته داخل عربتها عند بوابة القصر. أصابهما اضطراب شديد، وأحنى رأسه تبجيلا لها، وأومأت له برد التحية، وأمرت سائقها بالمواصلة. شعر تشايكوفسكى بالذنب، فكتب لها معتذرا، وردت عليه بأنها فى غاية السعادة لتلك المصادفة التى لم تستطع أمامها أن تحبس دموعها. بعد ذلك حقق تشايكوفسكى نجاحات باهرة، وتم تكريمه من القيصر، وذهب فى جولة فنية لأمريكا، وحظى بكثير من المال. وبعد عودته لم يجد رسائلها، فشعر بالقلق والحزن، حتى أتته رسالة من زوج ابنتها، تخبره بمرضها، وبأنها لن تستطيع الكتابة له مجددا، لإصابتها بالسل. كان فى الحادية والخمسين عندما دخل فى حالة من الحزن الشديد ألف خلالها ما يعرف بالسيمفونية الحزينة، وبعد أربعة أيام من عزفها، شعر بآلام حادة فى معدته، وأخذ يهذى باسمها، حتى فارق الحياة. وهى أيضا ودعت الحياة بعده بشهرين.

الحب فى فنون العرب
أما الشعر العربى فهو حافل بألوان الغزل وصنوف الحب. وأشهر عشاق العرب على مدى التاريخ هم من الشعراء، وأغلبهم خاض قصص حب، لم تتوج بالوصل، بسبب العادات والتقاليد. خاض عنترة بن شداد الأهوال ليفوز بحبيبته عبلة التى فرق بينهما اعتبارات اللون والنسب. وحُرم قيس من ليلى بسبب تناوله لها فى أشعاره. أما جميل وبثينة، فحبهما العذرى وقف الأهل فى طريقه. وبالمثل «كُثير» وعزة، حيث عوقب لتناولها فى أشعاره أيضا. وبين الحب والصد والجنون دارت قصة أبى العتاهية و»عتبة». لكن فى «ألف ليلة وليلة»، يظهر الحب على النقيض مكللا بالوصل، وإن كان بعد عذابات، وأهوال قصة أنس الوجود والورد فى الأكمام التى تبدأ فى الليلة الأربعمائة، هى مثال على ذلك. فالحب يصيب القلبين من النظرة الأولى، وإن كانت الفتاة هى التى لفتت انتباهه لها، خارجة على تعقلها المعهود. تتعقد القصة بسبب خوف أهلها من عواقب الحب، ويتم وضع الفتاة فى قصر على جزيرة بعيدة. ويصاب الحبيبان بلوعة الفراق، ولكن يرق حال الوحوش، وتخرج الطبيعة عن طبيعتها، فيرشد الأسد الحبيب العاشق إلى الطريق بدلا من أن يفترسه، ويبكى العابد الناسك فى مغارته، ويخبره بمسار موكب حبيبته فى البحر. ويخاطر الفتى بنفسه، ويصل إلى الجزيرة، لكن الفتاة تكون قد تمكنت من الهرب، لتتصاعد الدراما قبل أن تتدخل المصادفات وتجمع شمل الحبيبين.. بعض أهم ما كُتب فى الحب والهوى فى العصور الإسلامية هو مما كتبه فقهاء مشهورون، وأهمهم الإمام ابن حزم الظاهرى الأندلسى، فى كتابه «طوق الحمامة» عن الحب، وعلاماته، وأسبابه، ولغة العيون ورسائل الغرام، وحتى الموت حبا. ويتضمن خاتمة حول تجنب الوقوع فى المعاصى.

الصوفية والحب
واقترنت الصوفية بالحب على اختلاف تجلياته. يلقب ابن الفارض بسلطان العاشقين، وبلغ الشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربى مرتبة لا يدانيه فيها أحد فيما يتعلق بالحب. وله قصة عشق شهيرة بطلتها «نظام» ابنة أستاذه ومعلمه الشيخ الأصفهانى التى كتب فيها «ترجمان الأشواق» وقد عاب البعض عليه ذلك؛ وهو صاحب «الفتوحات المكية»، لكن البعض رأى فيه إشارات لعشق إلهى. وهى منطقة تماس لدى الصوفية، لا يفهمها الكثيرون، إذ إن الحب عندهم واحد، ومكابداته واحدة، والفرق فى الدرجة.