عميد دار علوم القاهرة: مبادرة لتدريب أعضاء البرلمان على التحدث بالفصحى l حوار

الدكتور أحمد بلبولة
الدكتور أحمد بلبولة

حوار: عبدالهادى عباس

فى هذا العام تمر مئة وخمسون عامًا على إنشاء كلية دار العلوم جامعة القاهرة، (أنشئت 1872)، وهو تاريخ ممتد فى جذور الزمان كما هو ممتد فى جذور المعرفة؛ فقد كان هذا المعهد الجامعى مؤثرًا بصورة كبيرة فى الثقافة المصرية والعربية، إذ تخرجت فيه مئات الأجيال من المثقفين المصريين والعرب الذين مثلوا روافد فارقة فى نهر الحياة الإبداعية العربية، سواء فى الجانب الفكرى والفقهى والتاريخى أو فى مجال الدراسات الأدبية والنقدية والأدب المقارن.
تتعدد فروع الحوار مع الدكتور أحمد بلبولة؛ فهو شاعر كبير نال عشرات الجوائز المصرية والعربية وأصدر عدة دضواوين مهمة، وهو عميد الدار العريقة الذى يجلس على كرسى الريادة الأكاديمية الرصينة ويحمل صولجان الآباء المؤسسين؛ ومع هذا فإن له كتبًا عديدة فى النقد الحديث تمتاز بالعمق التراثى والاطلاع الحداثي، وتدمج فى التطبيق ما تدعو إليه دار العلوم فى شعارها: (الأصالة والمعاصرة).. يتشعب الحوار ويمتد، ينقبض وينبسط، وتبقى الثقافة المصرية المبدأ والمُنتهى.. وإلى الحوار:

 ما رأيك فى الوضع الثقافى القائم فى ظل التحديات الحالية.. وهل ترى أن الحداثة خطر على اللغة أم إن العربية قادرة على استيعاب التحولات الثقافية العالمية؟
- هذه التحديات لا تقف أمام الثقافة المصرية فقط، ولا العربية فقط، وإنما أمام الثقافة العالمية عمومًا؛ فالعالم الآن يقع تحت وطأة مزاج ما بعد الحداثة، وهذا المزاج لا يؤمن بالمرجعيات ولا بالمعايير ولا بالنماذج العقلية الرائدة، وإنما يؤمن أن كل فرد يبدأ بنفسه وينتهى إلى نفسه؛ ومن ثم فالعالم مفتوح، والحرية الفردية على مصراعيها؛ ولهذا كلما حاولت الثقافة لملمة ذاتها تفجّرت من داخلها مرة أخرى.

مزاج حداثى

إذن، هل ترى أن هذا المزاج الحداثى مناسبٌ وقابل للتطبيق على آليات الثقافة العربية؟
- لا نستطيع أن نقول إنه مناسب أم لا، لأنه واقعٌ مفروضٌ علينا وليس فيه اختيار، لكن البدائل كثيرة جدا، ونلاحظ الآن أن الدولة مهتمة ببث الدراما الجادة مرة أخرى من خلال قناة "ماسبيرو زمان" أو حتى القنوات الفضائية التى تقوم بإعادة بث الأعمال الرائدة لأسامة أنور عكاشة، وكذلك الأعمال الوطنية مثل: "رأفت الهجان" و"الحفار" و"السقوط فى بئر سبع" و"دموع فى عيون وقحة" وغيرها من الأعمال التى ترسّخ هوية الوطن وبطولات أبنائه فى نفوس الشباب؛ إضافة إلى أعمال درامية رائدة أخرى ونستطيع القول إن إعادة بثّ هذا التراث الدرامى هى حالة من حالات تدخل الدولة لإصلاح ما هو موجود من خلال تقديم فنٍّ راقٍ يرسخ القيم ويدعم الأسرة المصرية فى نضالها لتربية أبنائها.

مرونة وزارية

وكيف ترى ذلك على مستوى وزارة الثقافة باعتبارها المنبر المؤثر فى الثقافة العربية؟
- وزارة الثقافة تحاول جاهدةً المحافظة على مكتسبات مصر الثقافية من خلال معرض الكتاب والفعاليات القليلة للمجلس الأعلى للثقافة؛ كما لا تتأخر عن دعم أى نشاط ثقافى داخل الجامعة، ولدينا فى دار العلوم تجربة رائدة فى هذا المجال، حيث تم التنسيق مع المجلس الأعلى للثقافة ومسرح الهناجر وقصر البارون ومتحف شوقي، وغيرها من الأماكن، وهذا دليل على توافر قدر كبير من المرونة لدى الوزارة لتقديم منتج ثقافى جاد.

 لكن هناك مفكرون كثيرون حذروا من التماهى مع أفكار الحداثة وما بعدها لأن الواقع العربى غير مهيأ لاستقبالها.. ما تفسيرك لذلك؟
- لا شك أننا نعيش حالة من الفوضى، فالمغرّد يستطيع أن يكتب ما يشاء فيما يشاء، فالمسألة مفتوحة وهناك حالة من السيولة الكبيرة، ولكن علينا أن نلاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعى ملمح من ملامح ما بعد الحداثة، وبدأت تدخل الآن مؤسسات كبيرة فى هذا الإطار لتحدّ من هذه العشوائية الثقافية، وحتى النخبة المثقفة تقوم بدورها فى تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة التى تنتشر وتشيع على وسائل التواصل، ليس فقط فى الثقافة وإنما فى الشأنين الاقتصادى والديني.

دولة حداثية

 إلى أى الجانبين تميل الحداثة وما بعدها فتنصح أن نندمج فيها أم تراها غريبة علينا فننصرف عنها؟
- المسألة ليست اختيارًا؛ وإنما هو واقع مفروض علينا واجبنا أن نتعامل معه؛ وإذا كنت تتخوف من أن مجتمعاتنا العربية متأخرة عن مواكبة الحداثة فإننى مستبشر لأن الدولة المصرية بمنشآتها الجديدة وتوسعاتها العمرانية فى العاصمة الإدارية وباقى المحافظات أصبحت دولة حداثية؛ وكل ما تراه من خطوط نقل جديدة كالمونوريل وزيادة خطوط المترو والمحاور والطرق، كلها سمات ما بعد حداثية تتوافق مع التطورات العالمية؛ فالقيادة السياسية تسعى بالفعل لنقل أجهزة الدولة إلى المستقبل الحداثى وما بعده.

هل تعتقد أن الثقافة ستأخذ مكانتها القيادية اللائقة فى ظل "الجمهورية الجديدة"؟
- متفائل جدا بقدرة الثقافة على القيادة بالجمهورية الجديدة، ولكن واقع الثقافة الآن يُشبه "الرجل المريض" الذى يحتاج إلى كثير من المساندة والمساعدة والدعم ليقوم بالكثير من الأعباء المنوطة به؛ وأقول إن المرض لا ينبع من داخل هذا المجتمع، وإنما فُرض عليه من الخارج، فإذا كانت الأفكار كلها متاحة الآن، فالواقع يقول إن بعضها يتعارض مع خصوصية وهوية الثقافة المصرية والعربية.

استراتيجية واضحة

طال انتظارنا لرؤية المثقفين فى مقدمة قاطرة المجتمع المصرى اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.. كيف نحقق ذلك؟
- أولًا: لا بد من وجود استراتيجية ثقافية واضحة، بحيث تتحدد الأهداف المطلوب تحقيقها بالضبط. ثانيًا: أن يتم تمكين المثقفين من أداء دورهم فى خدمة الثقافة والوطن، بمعنى أنه عند صدور مجلة ثقافية لا بد من اختيار رئيس التحرير من هذه النخبة المثقفة بعيدًا عن أى توجه شخصي، وما دمنا نتحدث فى الثقافة فالمسألة تكون متاحة للمثقفين. ثالثا: أن يتم النظر إلى الثقافة ليس على اعتبار أنها ثقافة العصر فقط، لأن الثقافة المصرية ممتدة وتدخل فيها عناصر تاريخية ودينية واقتصادية.

 ما مقترحاتك لتحويل الثقافة إلى منتج صناعى من خلال اقتصاديات المعرفة للتخفيف عن كاهل ميزانية الدولة فى أوقات اقتصادية صعبة؟
- لا بد فى البداية أن يكون مصطلح الصناعة الثقافية واضحًا، لأنه يتردد كثيرا دون توضيح كافٍ، فأين السينما والدراما التى تدعمها مؤسسات الدولة الثقافية! ولهذا فلابد من وجود أفكار خارج الصندوق، بمعنى أن دور النشر التى تنتمى إلى مؤسسات الدولة عليها أن تُغير أفكارها وتفكر بالطريقة ذاتها التى تُفكر بها بعض الشركات العالمية التى كانت بالأساس دار نشر، مع استغلال المساحة المترامية للوطن العربى ووحدة اللغة.

 كثيرًا ما نرى سياسيين وبرلمانيين يُخطئون فى أحاديثهم بالفصحى.. لماذا لا يوجد تعاون بين دار العلوم وهذه المؤسسات لتقويم هذه الأخطاء؟
- لدينا بالفعل مركز للتدريب اللغوى بالكلية يُقدم هذه الخدمات، ونحن بصدد عقد بروتوكول لتدريب أعضاء البرلمان من خلال الجهد الكبير الذى تقوم به النائبة "صبورة السيد"، وهى عضو أيضًا بمجلس الكلية وصاحبة هذه المبادرة، ونحن لا نتأخر عن أى مؤسسة لتقديم هذه الخدمة القومية.

رقمنة اللغة

 150 عامًا على إنشاء دار العلوم.. ما الجديد الذى تستطيع هذه الكلية العريقة تقديمه لخدمة المجتمع الثقافى؟
- الاحتفالية ستنطلق من فكرة أن دار العلوم بعطائها وتاريخها فى التعليم تؤكد أن مصر لديها تاريخ عريق فى التعليم كافٍ للنهوض بها؛ كما أن إنشاء الكلية كان رمانة الميزان بين تيارين متباعدين: تيار مُحافظ وآخر مُنفتح جدا، ولذا كانت هى التى تحفظ فكرة الوسطية؛ ولذلك كان الفضل لها فى إنشاء الطبقة المتوسطة فى مصر وعدّلت من التفاوت الطبقى فى المجتمع.. دار العلوم فى هذه الاحتفالية تتحدث عن طموحاتها فى إحداث نقلة تتعلق بالرقمنة فى اللغة العربية.

 افتقدت الكلية مؤخرًا المهرجانات الشعرية والمؤتمرات الدولية.. ما خطتك لإحياء هذا الوجه الثقافى؟
- منذ أن توليتُ الإدارة التقيتُ بأساتذة الكلية الكبار واتفقنا على فكرة إنشاء المنتدى الثقافى برئاسة الناقد الكبير د. أبواليزيد الشرقاوي، وهذا المنتدى هو المسئول الآن عن تنظيم الاحتفالات الثقافية بالكلية، وقد عقدنا بالتيرم الأول ندوة كبيرة عن الإنشاد الديني، وأسبوعا كاملا عن المناخ وقضاياه تزامنًا مع مؤتمر المناخ، وفى 21 مارس المقبل لدينا مهرجان شعرى ضخم، واحتفالية بذكرى العقاد، مع جدول ثقافى مكتظ.

 يكثر الحديث عن أن مستوى الطالب الجامعى ضحل الثقافة قليل الشغف.. كيف تواجهون ذلك؟
- بطريقتين: الأولى مع الطلاب الذين تخرّجوا أو وصلوا إلى الفرقتين الثالثة والرابعة، وليس أمامنا سوى الترميم مع هؤلاء، فأنشأنا البرنامج التأهيلى الذى يُحاضر به كبار الأساتذة بالمجان، وقمنا بتدريب سبعمئة طالب حتى الآن، مع خطوات مهمة لإصلاح أسلوب التدريس عامة بالكلية؛ ونحن بصدد تعديل اللائحة إلى نظام الساعات المعتمدة، وهذا سيفتح لنا الباب لتدريس مقررات جديدة، مثل: علم اللغة الحاسوبى والسيناريو والفن التشكيلي، وغيرها من المقررات التى تُخرج طالبًا مثقفًا.
قصيدة «مرتدة»!

 مع تباين القصيدة العربية الآن ما بين العمودى والتفعيلة والنثر.. كيف تقرأ مستقبل الشعر العربي؟
- يؤسفنى القول إن القصيدة العربية الآن تعيش حالة من "الرّدة" نتيجة وقوعها تحت ما يُسمّى باستعباد الجوائز، فهناك جوائز كثيرة تُرصد لنمط معين من الكتابة، وكل المواهب تتجه الآن إلى المشاركة فى هذا النمط رغبة فى الربح والمكسب السريع، بدلًا من أن تعمل على نفسها وتتبنى مشروعًا إبداعيا أصيلًا يُضيف إلى تاريخ الشعر العربي، وهذه مسألة تحتاج إلى تنبيه كبير من النقاد وأن يصدعوا بالرأى لإعادة توجيه هذه الجوائز؛ وإذا كان الرهان أن الشعر هو الذى يمنح الأمم المخيلة الصحيحة فنحن الآن نعوق هذه المخيلة لأننا نقصرها على أداء مُحدد ولا نُتيح الفرصة للنماذج الأخرى.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ ٢٢/٢/٢٠٢٣

 

أقرأ أيضأ : فوز عالم آثار مصري بجائزة أفضل رئيس دورية علمية من سنغافورة