كنوز | الشمعة 102 لـ«كاريوكا».. وحكايتها مع السادات

تحيّة كاريوكا
تحيّة كاريوكا

فى 19 فبراير1921 انبعثت الصرخة الأولى لطفلة قدّر لها أن تصبح واحدة من أشهر الشخصيات النسائية الفنية المؤثرة، أمها فاطمة الزهراء تزوجت المعلم محمد على النيدانى، ولدتها فى بيت أخيها فى قرية بالمنزلة وكان زوجها غائبا بالسعودية يوم ميلاد ابنته، لكنه عندما عاد أطلق عليها اسم «بدوية» نسبة لمقام السيد البدوى بطنطا، جاءت «بدوية» الى الدنيا وكأنها صورة مصغرة للأب بحسب ما ورد فى سيرتها التى كتبها صالح مرسى، ورثت عنه كل شيء، اليدين الكبيرتين، والقدمين الرشيقتين، والقوة، والشخصية التى لا تعرف الخوف!.

والدها من أصول حجازية، جاء لمصر واستقر فى الإسماعيلية، ووالدتها أيضا، ويقال إن الأب نحرَ عجلاً لابنته «بدوية» حين وُلدت وكانت مدللة عنده، لكن عمله فى البحر والترحال بين الموانئ جعله يترك ابنته عند جدتها لتربيتها وتعليمها، وبعد وفاة والدتها جاء الأخ الأكبر غير الشقيق «أحمد» ليأخذها من أحضان جدتها ليجعل منها خادمة لزوجته ‏المالطية‏ وأخرجها من المدرسة، ‏ فهربت «بدوية» إلى الشارع لكن اخوها غير الشقيق استعادها وأخذ يتفنن فى تعذيبها بالكى والضرب ‏وقصّ الشعر بمشاركة زوجته المالطية، عانت «بدوية» المرار وانتهزت أول فرصة للهرب بملابسها إلى محطة القطار وكانت وقتها قد بلغت الرابعة عشرة حين وصلت إلى القاهرة، ذهبت مباشرة إلى شارع‏ عماد الدين‏ لتبحث عن الراقصة السورية سعاد محاسن التى رأتها فى الإسماعيلية وهى ترقص بين الأطفال فتنبأت لها بمستقبل فى عالم الرقص‏، لكنها لم تعثر عليها بالقاهرة فسافرت إليها بالإسكندرية وعملت بفرقتها بثلاثة جنيهات شهريا.

تمكنت «بدوية» من الرقص على يد أستاذتها السورية، وانتقلت لصالة بديعة مصابنى التى اختارت لها اسم «تحية» بدلا من «بدوية»، طلبت تحية من مصمّم الرقصات الإسبانى «إيزاك‏» أن يصمم لها رقصة خاصّة تتميز بها عن سائر راقصات فرقة بديعة، فصمم لها رقصة «كاريوكا» من التراث الشعبى البرازيلي، واشتهرت تحيّة بهذه الرقصة واطلقت عليها بديعة اسم‏‏ الشهرة تحيّة كاريوكا‏، ولأول مرة تغنى أم كلثوم وأمامها راقصة فى عرس الملك فاروق، والتقيا مرة أخرى فى حفل النادى الأهلى، ويومها قالت لها أم كلثوم «يا تحيّة.. ميزتك أنك بتغنى بخصرك».

وحققت تحية شهرة طاغية فى السينما وأصبح اسمها يتردد بين كل طبقات المجتمع عند انخراطها فى النضال الوطنى وكانت تنقل للفدائيين السلاح فى سيارتها وهى لا تخشى شيئا، وانضمت لمنظمة «حديتو» التى كانت تساند الفدائيين، لم تكن تحية راقصة مثل بقية الراقصات، إنما مناضلة مثل والدها الذى عرف طريق المعتقلات، وعمّها الذى قُتل على يد الإنجليز، وعندما هرب السادات من المعتقل أخذته تحية ليختبأ فى مزرعة عمها بالإسماعيلية، وعندما كرمها السادات عندما أصبح رئيسا لمصر قال لها وهو يصافحها: «فاكرة يا تحية لما ساعدتينى فى الاختباء عند أقاربك.. واشتغلت سائق مع شقيقك»، فقالت له ضاحكة: «ودى تتنسى يا ريس»، وعندما سألها إن كان أحد يضايقها أو لها طلب محدد، حدثته عن الفنانة زينات صدقى التى قل عملها وليس لها معاش، فكرمها الرئيس فى عيد الفن وأمر لها بمعاش استثنائى كما طلبت منه تحية .

كانت تحية قريبة من المثقفين والسياسيين المعارضين والكتّاب اليساريين، وقد خبأت الكاتب صلاح حافظ فى بيتها عندما كان مُطاردًا من المباحث العامة فى الخمسينيات لانتمائه اليسارى، ووقع صلاح حافظ فى هواها وطلب الزواج منها لكنها ابتسمت له وهى تقول: «اذهب يا بنى إلى أصحابك، الدنيا أمامك، لا تلتفت إلى الوراء»، ودفعت المناضلة تحية كاريوكا ثمن شجاعتها بعد 23 يوليو 1952 عندما قالت جملتها الشهيرة «ذهب فاروق وهايِجى بعده فواريق» فتم حبسها مائة يوم بسجن الاستئناف عندما اتُهمت مع زوجها مصطفى كمال صدقى بالانخراط فى تنظيم سياسى يسارى معادٍ للثورة، وكانت تحية موصوفة بالجدعنة، فقد رفضت أن ترقص أمام الزعيم التركى أتاتورك لأنه أهان السفير المصرى أمامها، وفى إحدى المرات تطاول عليها أحد الأشخاص فى كازينو بديعة، فصفعته على وجهه وعندما قيل لها إن هذا أمير من الأسرة المالكة، ردّت متحدية: «وأنا رقّاصة من الأسرة الراقصة».

وفى بدايات عبد الحليم حافظ كانت تحيّة تعمل فى نفس المسرح، وعندما نهره صاحب المسرح لأنه يغنى ما يرفضه الجمهور وهدّده بالطرد، صرخت فى وجهه قائلة: «لو عبد الحليم خرج هاخرج معاه» فلاذ صاحب المسرح بالصمت، ويروى سليمان الحكيم أن تحيّة عندما ذهبت إلى مهرجان «كان» السينمائى الدولى عام 1956، لاحظت تجاهل وسائل الإعلام للوفد المصرى وبعد أن لبست «الملاية اللف» وجذبت الأنظار جلست فى حفل غداء فى جوار الممثلة العالمية سوزان هيوارد.

وعندما فتحت موضوع إسرائيل كادت تحيّة أن تأكلها بأسنانها وعندما حاول الممثل الأمريكى دانى كاى أن يدافع عن زميلته بصقت فى وجهه فأسرع فى الفرار من أمامها، وقد تزعمت تحيّة تظاهرة الفنانين التى توجهت إلى القصر الجمهورى فى عهد الرئيس مبارك للاحتجاج على تعديل القانون 103 الخاص بالنقابات الفنية، وأعلنت وزملاؤها إضرابا عن الطعام لم ينته إلا بعد موافقة الرئيس على مطالبهم.

تربعت تحيّة كاريوكا لعقود على عرش الرقص، وشاركت فى 117 فيلمًا وعددٍ من المسرحيات فى الفرقة التى حملت اسمها، وفى نهاية حياتها اعتكفت للعبادة وعمل الخير ولُقبت بالحاجة تحية وكان لها أيادٍ بيضاء على زملائها وزميلاتها ومن جار عليهم الزمن دون أن تعلن ذلك.