حكايات| رفيق الحريري.. من قاطف ليمون إلى سيد لبنان

رفيق الحريري
رفيق الحريري

الاثنين 14 فبراير عام 2005، بدا يوما عاديا في بيروت، خاليا من أي ترتيبات أو فعاليات، لا توترات لا حراك من أي نوع، قدر لا بأس به من الاستقرار النادر حدوثه في لبنان آنذاك، رئيس الحكومة رفيق الحريري يستقل سيارته نحو البرلمان قاصدا إحدى القاعات حيث كان يُعقد اجتماع خاص بلجان المجلس.

يوم مزدحم لدى الحريري، بدأ منذ السادسة صباحا كعادته، وصل المجلس في تمام العاشرة دخل مبتسما يمازح كل من يقابله ثم قام بمقابلة رئيس البرلمان نبيه بري وحضور الاجتماع المقرر ومن ثم قام بمغادرة المجلس متسائلا عن صحفيين أراد إجراء حوارا معهم على عجالة للتحدث حول قرار 1559 والذي كان البعض يحمله مسؤوليته الكاملة.

قرار 1559، والذي أصدرته الأمم المتحدة وكان مفاده نزع السلاح من كافة الجماعات المسلحة بلبنان كي لا تكون هناك أسلحة أو سلطة غير تلك التي تمتلكها الدولة، حيث رأي الأعضاء أنه لم يعد من الجائز أن يستمر استثناء حزب الله وأعضاء المخيمات الفلسطينية من حل ميليشياتهم ونزع السلاح.

 

 

انتهى اجتماع دولة الرئيس ليغادر المجلس في تمام الواحدة إلا 10 دقائق ظهرا، وبصحبته النائب باسل فليحان السياسي والاقتصادي البارز، والذي جلس بجانب السائق لتنطلق المرسيدس الفارهة سوداء اللون والتي وصفت بالمصفحة حتى أنها غير قابلة للاختراق سوى من قذيفة.

كان أمام موكب الحريري أربع سيارات لقوى الأمن الداخلي وخلفه 3 سيارات، وبمجرد وصول الموكب المهيب لتقاطع فندق «فينيسيا»، بوسط بيروت دوي صوت انفجار هائل حول المشهد في ثوان إلى جحيم، جثث محترقة من بينها جثة الرئيس الحريري، صرخات، سيارات مدمرة، سيارات إسعاف وإطفاء جاءت مسرعة، قنوات إخبارية تنقل المحدث المأساوي تحت عنوان "اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري"، بعبوة تفجيرية تزن 1800 كيلو.

 

اعتاد لبنان -بكل آسف- على انتهاء حياة ساستها بصورة مأساوية، فحوادث الاغتيال ليست بجديدة على تلك الدولة التي تشبه امرأة فائقة الجمال ولكنها بلا حظ، إلا أن اغتيال الحريري كان له وقع سلبي على العديد من الأوساط الاقتصادية والسياسية في الوطن العربي بل في العديد من دول العالم، فالبورصات تأثرت كما أن نظرة اللبنانيون للطرف السوري صارت عدائية كونه المتهم الأول في تلك العملية.

ابن صيدا.. لم أترك بستانا لم أعمل به

ولد الحريري "الملقب بسيد لبنان" في مدينة صيدا الواقعة جنوب لبنان عام 1944، لأسرة متوسطة الحال حيث كان والده بهاء يعمل مزارعا، وأمه هند ربة منزل متدينة، دعواتها لأبنائها الثلاث لا تنقطع.

عاش الحريري مع إخوته شفيق وبهية، حياة بسيطة لم يكن يأخذ إجازة صيفية كباقي الصبية نظرا لعدم توافر إمكانيات مادية لوالديه، الأمر الذي دفعه كي يستغل تلك الصيفية في العمل، قد يتعجب البعض حين يعلمون أن ذلك الملياردير كان يعمل في قطف الليمون والتفاح من البساتين لدرجة أنه حين تحدث عن تلك المرحلة قال نصا "لم أترك بستانا بلبنان لم أعمل به"، كما عمل في أحد محلات بيع الأقمشة. 

لست حسودًا

خلال مقابلة شهيرة له مع فضائية المستقبل في 2003، تحدث الحريري من القلب واستعرض طفولته وكيف عاش برضا بالرغم من ضيق ذات اليد، أكد أنه كان يتقرب من الأشخاص الأعلى اجتماعيا ولكن بالعمل، كان طموحا ولكنه ليس حسودا، فلم يكن يحقد على أحد اكتسب محبة الجميع بكفاءته في عمله وحرصه على الالتزام.

 

وعن مرحلة الستينات والتأثر بالفكر الناصري، قال "مرحلة المد القومي تركت بصمتها على جيلي وتأثرت بها كثيرا، واعتبر انضمامي للحركة القومية العربية كان النواة لدخولي معترك السياسة".

وعن الوحدة العربية، كان الحريري يرى أن اتحاد المصالح هو العامل الرئيسي في تحقيق الوحدة العربية، خاصة وان العرب يواجهون مصير واحد ومخاطر واحدة تجمعهم لغة واحدة ولا يختلفون عن بعضهم كثيرا كأوروبا التي قامت ونهضت بعد سنوات من الحروب بفضل اتحاد مصالحها.

أحببت القاهرة.. ولكن 

جاء الحريري إلى القاهرة خلال مرحلة التعليم التوجيهية للحصول على شهادته لكنه لم يستمر بها.

وبسؤاله عن السبب وهل لم تغريه العاصمة المصرية للحياة بها، كان رده بأنه أحب القاهرة كثيرا، وتعلق بها ولكن امكانياته المادية لم تسعفه للعيش بها واستكمال دراسته الأمر الذي دفعه إلى العودة للبنان للدراسة الجامعية، حيث كان إلى جانب دراسته يعمل نهارا في وظيفة محاسب وليلا مصححا بإحدى الصحف.

 

الحريري .. مدرّسًا للرياضيات 

في 1965 ونتيجة سوء وضعه المادي قطع دراسته وانتقل إلى السعودية، وذلك عقب قراءته إحدى الصحف حيث لاحظ اعلان منشور "مطلوب معلمين بالسعودية"، فسارع إلى السفارة لتقديم طلب للالتحاق بالوظيفة وكان اللبناني الوحيد الذي اقدم على تلك الخطوة.

عمل مدرّسًا للرياضيات في مدرسة السعودية الابتدائية في جدة، ثم بحث عن وظيفة إضافية ليجد بعد أسبوعين فقط وظيفة محاسب في شركة هندسية.

 وفي عام 1969 أنشأ شركته الخاصة في مجال المقاولات والتي برز دورها كمشارك رئيسي في عمليات الإعمار المتسارعة التي كانت المملكة تشهدها في تلك الفترة. 

ونمت شركته بسرعة خلال سبعينيات القرن العشرين حيث قامت بتنفيذ عدد من التعاقدات الحكومية لبناء المكاتب والمستشفيات والفنادق والقصور الملكية.

وفي أواخر السبعينيات قام بشراء شركة فرنسية، ودمجها في شركته ، وأصبحت الشركة من أكبر شركات المقاولات في العالم العربي، واتسع نطاق أعماله ليشمل شبكة من البنوك والشركات في لبنان والسعودية، حظي باحترام وثقة الأسرة السعودية الحاكمة وتم منحه الجنسية السعودية في 1978. وفي مطلع الثمانينيات أصبح واحدًا من بين أغنى مائة رجل في العالم.


ساعة بـ100 ليرة.. الحلم الأول

حين بدأ وضع الحريري المادي يتحسن، أراد أن يقتني ساعة فذهب ليختار واحدة كانت قيمتها ١٠٠ ليرة فدفع جزء وقام بتقسيط الباقي، وكانت تلك أمنية لديه منذ الطفولة لم يستطع والده تحقيقها له لصعوبة وضعه المادي.
أما الجانب الخيري، فكان له نصيب أكبر حيث خصص أول مبلغ تبرع لصالح مدرسته التي درس بها في صيدا لتطويرها وكان المبلغ 300 الف ليرة.

أما باقي الأمنيات فقد حققها للغير من خلال بناء مستشفى ومدرسة وجامعة بمدينته ومن ثم قام بشراء بيت للعائلة بعد أن كانوا يسكنون في شقة متواضعة.

زيجاته وأبنائه

تعرف الحريري على السيدة نضال بستاني ذات الأصل العراقي خلال دراسته بالجامعة، وتزوجا وأثمرت تلك الزيجة عن ٣ أبناء، هم بهاء وسعد وحسام "الذي توفي في حادث سير" وتسببت وفاته في صدمة كبيرة لوالده.

 

لكن زيجته تلك لم تستمر لتنتهي بالطلاق ومن ثم يتزوج مرة ثانية من السيدة نازك عودة والتي انجب منها أيمن وفهد وهند، وبقيا معا حتى وفاته.

بالتحدث عن زوجته يقول :"زوجتي نازك امرأة جميلة وعاقلة، ذات أفق وفكر.. نجاح زواجنا قائم على الاحترام وأرى ان مفتاح نجاح أي علاقة هو الاحترام المتبادل بجانب المحبة، الأمر الذي يؤثر بالإيجاب على الأبناء وتربيتهم وهو أمر لا علاقة له بالفقر او الثراء".

واستكمل حديثه قائلا "لا تزال محفورة في ذاكرتي العلاقة بين أبي وأمي وكيف كانت تتسم بالود والاحترام، فأبي كان يعود من عمله متأخرا وكانت أمي ترفض الجلوس على طاولة الطعام من دونه".

وعن علاقته بأبنائه فكانت صداقة أكثر منها علاقة أبوية، فقد تحدث عنهم مؤكدا انه لم يجبرهم على تعلم شيء بعينه بل هم من اختاروا تعليمهم وهم من اختاروا زيجاتهم بعد موافقة الأسرة.

كما أعرب عن رغبته في أن تكون لدى أسرته "سلالة سياسية" أي يرثون منه العمل في السياسة.

 

الغرور مقبرة النجاح 

حين وصلت ثروة الحريري إلى أول مليون وقف أمام المرآه يحدث نفسه غير مصدق، لكنه عاد إلى صوابه بالتأكيد على أنه لم يتغير به شيء سوى أنه أصبح معه الوسيلة لسد احتياجاته.

كان المال بالنسبة له وسيلة وليس غاية، لذا كان يرى غرور المال مقبرة للنجاح، وان الشخص عقب الثراء يظل كما هو نفس ذات الشخص فما الذي تغير كي يصاب بعدم توازن نفسي؟.

الجانب السياسي.. نجاح من نوع آخر

تولى الحريري رئاسة الحكومة اللبنانية الأولى من 1992 وحتى 1998، وقوبل تعيينه آنذاك بتأييد وحماس كبير من غالبية اللبنانيين.

وخلال أيام ارتفعت قيمة العملة اللبنانية بنسبة 15%. ولتحسين الاقتصاد قام بتخفيض الضرائب على الدخل إلى 10% فقط، وقام باقتراض مليارات الدولارات لإعادة تأهيل البنية التحتية والمرافق.

أما فترة توليه رئاسة الحكومة الثانية فكان من 2000 وحتى 2004، وخلال هذه الفترة أدى عمق المشكلات الاقتصادية إلى زيادة الضغوط على الحكومة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعليه تعهد بتخفيض البيروقراطية وخصخصة المؤسسات العامة التي لا تحقق ربحًا. استقال في أكتوبر 2004 بعد خلاف مع الرئيس آنذاك إميل لحود خاصة بعد تعديل الدستور لتمديد فترة رئاسته لثلاث سنوات إضافية.