الدكتور محمد حقي صوتشين يكتب: الأدب العربي والترجمة والعولمة

اللوحات للفنان: جهاد العامرى
اللوحات للفنان: جهاد العامرى

تضمن النشاط الثقافى المصاحب للدورة الخامسة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية تنظيم ندوة تحت عنوان «الترجمة وآفاق العالمية» تحدث فيها كل من فاروق مردم بك الناشر الفرنسى المتخصص فى نشر الأدب العربى عبر سلسلة«سندباد» فى دار نشر«أكت سود» الفرنسية ، والباحث والمترجم التركى د. محمد حقى صوتشين وننشر هنا ورقتيهما لما فيهما من أفكار  وأسئلة حول واقع الأدب.

وللحديث عن الأبعاد العالمية للترجمة الأدبية العربية، سأتناول القضية من عدة أبعاد: الخلفية النظرية للأدب العالمى، والمحلّيّة والعالمية، مسألة المركز والأطراف، وأخيرًا موقع الأدب العربى فى «جمهورية الأدب العالمى».
ظهرت فكرة الأدب العالمى فى القرن التاسع عشر، ومع ذلك، إذا تم النظر إليها فى إطار أوسع، فهى موجودة كفكرة أو مفهوم فى فترات زمنية سابقة، وإن لم يكن على مستوى النظريّة. بغض النظر عمّا يمثّله الأدب العالمى أو الأدب «العَوْلمَي»، فإن الفهم المسمى بالأدب الوطنى قد تجاوز حدودَ هذا التكوين الثقافى واللغوى منذ البداية. وتختلف حدودُ هذا الانتقال وجرأتُه باختلاف الفهم والأشخاص وظروف الفترات الزمنية.

ربما يكون الشاعر الألمانى جوته هو أوّل من قدّم مفهومَ «الأدب العالمى». وحجر الزاوية لهذا المفهوم هو تعريفُ غُوته للمفهوم الألمانى «weltliteratur» (أى الأدب العالمى). يتضمن فضول جوته أوجُهًا متعدّدةً بما فيه الآداب غير الأوروبية.

وعلى وجه الخصوص الآداب الشرقية والآسيوية. نعلم أنه فى عام 1819 نَشَرَ قصائده تحت اسم West-östlicher Divan أى «ديوان الشرق والغرب»، مستوحِيًا من قصائد حافظ الشيرازى. كان جوته على عِلْمٍ بتداول الأعمال الأدبية عبر الدول من خلال الترجمات. لهذا السبب، تابع جوته أيضًا ترجماتٍ لثقافاتٍ وآدابٍ مختلفة.

يذكرُ يوهان بيتر إيكرمان Johann Peter Eckermann الذى قضى ما يقرب من السنوات العشر الأخيرة من حياته مع جوته، فى كتابه «محادثات مع جوته» أن جوته قرأ له روايات مختلفة مترجمة من عدة لغات.

وعلى الرغم من أن خلفية ثقافة غُوته هى الثقافة اليونانية القديمة والأدب الأوروبى الغربي، إلا أنه يعتقد أن «الأدب الوطني» مصطلح لا معنى له وأنَّ عصرَ الأدب العالمى قد حان وقتُهُ.


ونلاحظ مفهومَ «العالميّة» الذى طرحه جُوته فى نص آخر له أهمية تاريخية وإيديولوجية، ألا وهو البيان الشيوعي، الذى نشره كارل ماركس وفريدريك إنجلز عام 1848. بالتأكيد، لا أقول إنّ البيان الشيوعى قد كُتِبَ لمناقشة الأدب العالمي.

ولكنه ينص على أنّ الآداب سوف تتخلص من الأحادية وضِيق الأفق ليَلِدَ إثرَ ذلك أدبٌ عالمياً. كما نعلم أن ماركس وإنجلز أرادا نشرَ البيان باللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والدنماركية والهولندية وغيرها من اللغات، من أجل الوصول إلى مجتمعات وأمم مختلفة.


ويعتبر جورج براندس Georg Brandes، الناقد والأكاديمى الذى أثر بشكل كبير فى الأدب الاسكندنافى فى مطلع القرن العشرين، من الرواد فى معالجة العديد من القضايا المتعلقة بالأدب العالمى والثقافة الأدبية العالمية وسوق النشر.

وفى مقالته «الأدب العالمي» عام 1899، يلامس براندس الاختلافات والتوترات بين سوق النشر الدولى و«القيمة الأدبية» فى وطنه الدنمارك. الادعاء الرئيسى لبراندز هو أنّ الكُتّاب فى البلدان التى تهيمن على أوروبا سياسياً وثقافياً يتمتعون بميزة على أولئك الذين يتحدثون باللغات الأقل شهرةً وتلك الموجودة فى البلدان «الصغيرة». بعبارة أخرى، فإنّ تداولَ الأدب داخل أوروبا نفسِها ليس بعادلٍ.


ويقول براندس فى كتابة «الأدب العالمي» إن الدول التى تهيمن على السوق الأدبى ثقافيًا وسياسيًا تحدّدُ الظروف والمعايير الأدبية وفقًا لاحتياجاتها الخاصة. يواصل براندس Brandes قائلاً: «إنّ الكاتب من الدرجة السادسة الذى يكتب بلغة شائعة هو أكثرُ شهرةً من كاتب من الدرجة الثانية يكتب بلغة يتحدث بها أقلّ من بضعة ملايين من الناس» (ضمن كتاب: The Princton Sourcebook, p. 63).

وستناقش باسكال كازانوفا Pascale Casanova هذه المسألة فى سياق «المركز والأطراف» فى وقت لاحق، وتدّعى أنّ العلاقات بين الآداب فى البلدان تتغيّر حسب الظروف فى إطارِ عناصرَ سياسية وثقافية واجتماعية ولغوية. 


ومن الممكن التعامل مع مناقشة براندس للأدب العالمى من خلال مثالين: الأول، يتعلق بهانس كريستيان أندرسن Hans Christian Andersen، الذى كتب باللغة الدنماركية. فمؤلفُ حكايات أندرسن The Andersen Tales.

الذى سمع عنه جميعنا، هو المؤلف الوحيد فى الدنمارك الذى أصبح مشهورًا عالميًا. ومع ذلك، لا يُنظر إلى أندرسن على أنه كاتب من الدرجة الأولى أو كاتب من الدرجة الثانية فى موطنه الدنمارك، لا فى وقته ولا بعده.

ومن ناحية أخرى، لم يكن سُورِينْ كيركيغارد Søren Kierkegaard، فيلسوفًا مهمًا معروفًا فى أوروبا الغربية فى ذلك الوقت (قبل مائة وعشرين عامًا). هذا هو السبب فى حديث برانديس عن حقيقة أن الموضة اليومية والسوق الأدبى يُحدُّدهما «الدجالون الكاريزماتيون»، لأن «القيمة الأدبية» الدولية تحددها علاقات القوة غير المتكافئة من شأنها لها علاقة وثيق الصلة بالترجمة واقتصاد السوق.


وأما المثال الثاني، فيتجلّى فى مفهوم آدم كيرش Adam Kirsch عن «الرواية العالمية». تبعًا لهذا المفهوم فإن الرواية العالمية عبارة عن جوّ أدبى متجانس، أحادى المركز، هَرَميّ إلى حدّ كبير ومدفوع بمَطالب صناعة الثقافة.

وبدلاً من سوق عالمية متوازنة أنشأها كل أدب وطنى من خلال الحفاظ على هويته الخاصة، مع تجاوزه حدودَ الأدب الوطني. فى كتابه «الرواية العالمية: كتابة العالم فى القرن الحادى والعشرين» يناقش كيرش سبعة كُتّاب مشهورين يعتبرهم كُتّابًا عالميّين ويَجد أوجُهَ تشابُهٍ مثيرة بينهم، هم: أورهان باموك من تركيا، هاروكى موراكامى Haruki Murakami من اليابان، روبرتو بولانيو Roberto Bolaño من تشيلي، شيماماندا نغوزى أديتشى Chimamanda Ngozi Adichie من نيجيريا، ومحسن حميد من باكستان، مارجريت أتوود Margaret Atwood من كندا، ميشيل هوليبيك Michel Houellebecq من فرنسا، وإيلينا فيرانتى Elena Ferrante من إيطاليا. يزعم كيرش أنّ هؤلاء الكُتّاب يَبْنُونَ أعمالَهم بصورة قابلة للتلقّى فى المجتمع العالمى فى القرن الحادى والعشرين، وتحرير الرواية من قيود التجربة المحليّة، مع أنهم يظَلّون فى منطقة معينة من المحلّيّة. 


وهذا يعنى أنّ الترجمة واقتصاد السوق، تُحَدِّدُ تداولَ النصوص الأدبية، وبالتالى تَلَقّيها فى مختلف اللغات والثقافات. قد يحدُث ذلك فى شكل المبالغة فى تقدير العمل أحيانًا، وتجاهلِهِ تمامًا أحيانًا أخرى. هنا، يمكننا الحديثُ عن نظام أدبيّ يقوم فيه «المركز» بإخضاع «الأطراف»، ويقوم العالميّة بإخضاع المحلّيّة.


ويُعتبر النظام القائم على المركزية الأوروبية أكبر نظام أدبى يعتمد على نصوص تأسيسية للحضارة الأوروبية التى تستمد إرثها من أعمال مؤلفين مثل هومر وشكسبير ودانتى انطلاقًا من الكتاب المقدّس، بدلاً من الشمولية والتعددية العالمية.

وهناك اختلال كبير فى التوازن بين «المركز» الذى يهيمن عليه نظام المركزية الأوروبية وبين «المحيط» فى الأطراف فيما يتعلق بالتوازن بين تصدير واستيراد الأدب. إذ إنّ الأدب الذى يتخذ أوروبا مركزًا له هو الطرف الأكثر إنتاجًا وأكثر تصديرًا للأدب. أما المحيط فهو دائمًا الطرف الأكثر استهلاكًا واستيرادًا. تؤكّد ذلك، أرقامُ إنتاج الأدب فى المحيط الذى أنتمى إليه -وهو تركيا.


وهناك دراسة للباحث محمد طاهر أونجو وفريقه تحت عنوان «بيبليوجرافيا الترجمة إلى التركية» الذى صدر عام 2017، حيث تقدم لنا فكرة عن حجم الإنتاج الترجمى إلى التركية ولو بصورة عامة، حيث مجموع عدد الكتب المترجمة إلى اللغة التركية من اللغات الغربية كالتالي: الأدب الإنجليزي/الأمريكى 8187. الأدب الفرنسى 3762. الأدب الألمانى 2005. الأدب الإيطالى 763. الأدب الاسبانى 553. الأدب اليونانى 333. الأدب السويدى 183. الأدب النرويجى 135. الأدب المجرى 117. الأدب الدنماركى 94. الأدب الهولندى 81. الأدب البلغارى 74. الأدب البولندى 71. الأدب البرتغالى 57. الأدب التشيكى 48. الأدب الرومانى 45. الأدب الصربى 34. الأدب الفنلندى 28. الأدب الألبانى 23. الأدب البوسنى 22. الأدب الكرواتى 21. الأدب الأيسلندى 19. المجموع 16655.


وأما مجموع عدد الكتب المترجمة إلى اللغة التركية من اللغات الآسيوية بما فيها الروسية على النحو التالي، علمًا بأننى أخذتُ بعين الاعتبار المعطيات التى تتوفر لديَّ فيما يتعلق بالأدب العربي: الأدب الروسى 1348. الأدب العربى 480. الأدب الإيرانى 243. الأدب اليابانى 89. الأدب الأذربيجانى 80. الأدب الأرمنى 44. الأدب الصينى 42. الأدب الهندى 35. الأدب الجورجى 14. الأدب الكورى الجنوبى 12. الأدب الشركسى 2. المجموع 2389.


ونلاحظ من الأرقام السابقة أنه من الآداب الغربية بما فيها الأمريكية فقد ترجمت ما مجموعه 16655 عملاً أدبيًا حيث تشكل الآداب الأسيوية نسبة 14.3 بالمائة مقارنة بما تمت ترجمته من الآداب الغربية التى يأتى فى صدارتها الأدب الإنجليزي/الأمريكي، يليه كل من الأدب الفرنسى والألمانى والإيطالى والإسبانى واليوناني. هذه الأرقام تفيد بأن هناك اتجاه الترجمة إلى اللغة التركية إلى الآداب الغربية وليس إلى الآداب الأسيوية.


وأما الأدب العربى فيأتى فى المركز الثانى بعد الأدب الروسى فى الترجمة إلى اللغة التركية يليهما الأدب الإيرانى ليصل مجموع الأعمال المترجمة من اللغات الأسيوية إلى 2389. 

وهناك كتاب لكاتبه جون كارى John Carey تحت عنوان A Little History of Poetry (تاريخ موجَز للشِّعر)، وهو كتاب يتألف من 440 صفحة، يتضمن نصّين فقط من خارج الأدب الأوروبى المركزي: «ملحمة جلجامش» وديوان حافظ الشيرازي. بعبارة أخرى، وفقًا لهذا الكتاب، لا يوجد حيِّزٌ تقريبًا «للآخر» خارج أوروبا فى تاريخ شعر العالم. ونرى نفس النهج فى كتاب «تاريخ موجز للأدب» ألّفه جون سادِرْلند John Sutherland. لذا، من الواضح أنه يجب إعادة كتابة تاريخ الأدب العالمى ليغطّى كلَّ «جُزُرِ» الأدب. 


وهذا الموقف الإقصائى لا ينطبق فقط على الأدب الأوروبى المركزى فحسب، بل على الشعور بالارتباك من حيث الشمولية فى الآداب الوطنية أو المحلية. كما تحتدم النقاشات عمّا إذا أن نسمى الأدب المُنْتَج فى تركيا -مثلا- «أدبَ التُّركِ» أم «أدبَ التركيّة». إن استخدام تعبير «الأدب التركي» من قبل بعض دور النشر اليسارية الليبرالية فى تصنيفات كتبهم يثير غضب الأقسام القومية والمحافظة واليسارية القومية والكمالية.

ووفقًا لهذا، فى أى فئة سنضم كتابًا من أصول عرقية مختلفة مثل الأكراد والأرمن الذين يكتبون باللغة التركية؟ الأدب التركى أم أدب اللغة التركية؟ الباحث أحمد نورى يطرح اسمين: محمد أوزون Mehmet Uzun ودمير أوزلو Demir Özlü، فاللغة الأم لمحمد أوزون هى اللغة الكردية.

وفى حين اللغة الأم لـ دمير أوزلو هى اللغة التركية. كلاهما فى المنفى فى ستوكهولم فى الثمانينيات بسبب أفكارهما. ومع ذلك، بينما يكتب أوزون أيضًا باللغتين التركية والسويدية، فإن دمير أوزلو يكتب باللغة التركية عمومًا، وباللغة السويدية أحيانًا.

وعلى الرغم من أن أعمال كلا المؤلفين لها مفاهيم وأساليب وخصائص نصية مختلفة، وقرّاءهما مختلفون، إلا أنهما يتخيلان عالمًا إنسانيًا ومتعدد الثقافات. من ناحية أخرى، الأديب الكردى يشار كمال الذى كتب جميع أعماله باللغة التركية، هو أيضًا كان يحلم بعالم إنسانى متعدد الثقافات.


فإذا نظرنا إلى الأدب العربى من منظور مماثل، فسنواجه مشاكل مماثلة. لكنه ليس لديّ أيةَ فكرة عن مدى مناقشة هذه القضايا فى العالم العربي. الأسماء التى تتبادر إلى ذهني: رفيق شامي، أمين معلوف، آسيا جبّار، إيتيل عدنان، عبد اللطيف اللعبي، طاهر بنجلّون من جهة، ليلى سليماني، سليم بركات، جان دوست وغيرهم من جهة أخرى.


ويمكن الإكثار من الأمثلة من الكُتّاب والنقّاد والأكاديميين الذين يتعاملون مع الأدب العالمى من أبعاد مختلفة. فى هذا الصدد، فإن نهج طاغور Rabindranath Tagore للأدب العالمى مهم، حيث يَعتبر الأدبَ تراثًا مشتركًا للإنسانية، يتطور باستمرار.

ويقدم التجربة الإنسانية من خلال أدوات جمالية مختلفة. هذه المقالة المهمة لطاغور التى نشرت عام 1907، لم تُتَرجَمْ إلى الإنجليزية إلا فى وقت متأخر، فى عام 2001، مما يوضّح أنّ ظروف إنتاج الترجمة تتبلور فى جوّ غير عادل لتداول النصوص فى عالَم الأدب. 


وعليه، من الممكن أن نوضّح تحوّلَ «الأدب العالمي» من مفهوم إلى تخصّص، بخطوطه العريضة، بثلاثة عوامل رئيسيّة. أوّلُها: تطوّر الفهم الإنسانى فى الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لذلك، التركيز على التاريخ الأدبى والمعرفة الأدبية فيما يتعلق بالحِقَب التاريخية القريبة.


من الضروريّ النظر فى هذا الاتّجاه مع مدرسة «النقد الجديد» التى نشأت اعتبارًا من منتصف الثلاثينيات والتى تقوم على أسلوب القراءة الفاحصة للأدب والنقد. وهو العامل الثانى من العوامل المذكورة. وقد أدت هذه المقاربة الجديدة إلى تصنيف النصوص الأدبية إلى تصنيف حديث ينقسم إلى «كلاسيكيّات» و»كلاسيكيّات حديثة».


وأما العامل الثالث فهو العالمية أو العولمة التى تجاوزت حدود مدرسة النقد الجديد لتكوّن جمهورية عالمية جديدة سمَّتْها باسكال كازانوفا Pascale Casanova بـ جمهورية الأدب العالمية.

وهو عنوان كتابها فى هذا المجال. وتقدّم باسكال فى كتابها، نظرية مكتملة ومتّسِقة لتأصيل الإطار النظرى للأدب العالمي. إذ تقوم بفحص علاقات القوّة غير المتكافئة فى مختلف الثقافات والآداب، حيث تستخدم فكرتين أساسيتين:

أولاً، مفهوم عالِم الاجتماع الشهير بورديو Bourdieu عن «المجال الأدبي». بناءً على هذا المفهوم، تفحص كازانوفا بأمثلة مختلفة شبكةَ العلاقات التى يكتسب من خلالها كاتبٌ أو نصٌّ ما الاستقلالَ الأدبي، ضمن المزايا اللغوية والأدبية للثقافات الإنجليزية والفرنسية فى أوروبا بصورة خاصة.


ثانيًا، طريقة التفكير فى نظرية فرناند بروديل Fernand Braudel عن «الاقتصاد العالمي». وتقدّم كازانوفا بناءً على هذه الفكرة تقييمًا بانوراميًا للتفاعل الأدبي، والتداول والاستقبال، والعلاقة بين المركز والأطراف، وقوّة سوق الأدب والنشر، والناشرين، والقراء كمستهلكين يدفعون، والمكتبات، وقنوات التوزيع المختلفة، وأخيرًا الظروف المادية للإنتاج الأدبي. أما الأسئلة الرئيسية التى تُثيرها هى كما يلي: أيَّ نصوصٍ أدبيّة تُكوّن رأسَ المال الثقافي.

وكيف وبأيّ طريقة؟ كيف يتم تعريف النصوص الأدبية الرئيسية والاعتراف بها؟ كيف ولأى غرض يتم إنتاج «القيمة الأدبية» لهذه النصوص؟ فى أى نوع من العلاقات يتم الإنتاج؟ كيف يتم تلقى بعض النصوص والمؤلفين بهذه الطريقة؟ ما هو تأثير الظروف الوطنية وعَبْر-وطنية فى كل هذه المراحل المعقَّدة والمتشابكة؟ كيف يعمل التراث اللغوى والأدبى والثقافى فى عملية التقييم؟ ليس من السهل العثور على إجابات سهلة وعامة لكل هذه الأسئلة المعقَّدة.


وتتعامل جمهورية الأدب العالمية بشكل أساسى مع مبادئ تكوين استقلالية النص الأدبى وتدَّعى أن هذه المبادئ هى نتيجةٌ لعلاقةِ قوّة غير متكافئة بين اللغات والآداب المختلفة. تركز كازانوفا على الآداب واللغات وشبكة العلاقات التى أصبحت أكثر تعقيدًا مع الفكرة القومية، خاصة فى أوروبا.

ويتصور هذا التركيزُ، على سبيل المَجاز، الأدبَ كعالَم له طريقته فى التفكير. ومع ذلك، فإن هذا العالم ليس عالمًا يُنظر إليه فى سياق جغرافي. إنها رؤية لعالَمٍ بقطبَيْن أساسيَيْن متعارضَيْن وشبكة معقدة من العلاقات: هناك ساحات أوروبية معينة تتمتع بأقصى قدر من الاستقلالية: على سبيل المثال لا الحصر، الآداب الإنجليزية والفرنسية.

وهذه الآداب تستمد استقلاليَّتَها من التقاليد الأدبية والنصوص الكلاسيكية التى تكوّنت فى فترات سابقة. فى نهاية المطاف، ينتج عن هذا التراكُم رأسَ المال الأدبى والثقافي. وهناك أيضًا قطب آخر هو مجالات شبه مستقلة، مثل آداب أمريكا اللاتينية، الأدب البلغارى أو الصربي، الأدب العربى أو التركى وغيره.


وتُسمّى كازانوفا مجمل التوترات والعلاقات بين مجالين مستقلين مختلفين على أنهما «المجال الأدبى العالمي». وتوضّح هذا المجال بمثالَيْ «ستوكهولم» و»غرينتش». المثال الأوّل هو «ستوكهولم».

وهى تمثيل للأكاديمية السويدية التى تمنح جائزة نوبل فى الأدب، أرقى جائزة أدبية على المستوى العالمي، رغم أنها مثيرة للجدل من نواح كثيرة. لها دبلوماسية خاصة بها، ليس لها توجّهٌ موضوعيٌّ خالٍ من التحيّزات السياسية، والأوضاع الأدبية والجمالية المعيّنة. ومع ذلك، فإن جائزة نوبل فى الأدب، بأى شكل من الأشكال، هى مرجِع لا يمكن إنكارُ قوّتِها وتأثيرها. وهى إحدى الوسائل لتكوين «قيمة أدبية» وإضافة قيمة للمؤلّفين أو النصوص.


المثال الثانى ضمن المجال الأدبى العالمي، هو «غرينتش». الجميع يعرف «غرينتش» بأنها اسم المرصد والبلدة حيث يقع خطَّ الطول الأول الذى يمر عبره خطُّ الزوال الرئيسي. تَعتبر كازانوفا «غرينتش» باعتبارها استعارة أدبية، المكانَ الذى يُقاس فيه «الآن» كزمنٍ أدبي، تستخدمها كازانوفا لتقييم الحداثة الجَمالية وتحديد معايير تقييمها.

وفى تحليل كازانوفا تُعتبَر «باريس» خطَّ الطول الرئيسى للأدب. من أجل أن يكون الكُتّاب معروفين فى جميع أنحاء العالم ويكتسبوا مكانة أدبية، يحتاجون إلى وضع أنفسهم وفقًا للمعايير الأدبية الموضوعة فى باريس، لا سيما بالنظر إلى اللغات والآداب التى تتميز ببعدها عن هذا المركز باعتبارها الطرف (أو الدولة). بالطبع، لا تقتصر شبكة العلاقات هذه، على الكُتّاب الأوروبيين فقط.


و«الفضاء الأدبى العالمي» الذى تُصوِّره كازانوفا هو فى الأساس محتوًى مجازيٍّ تم إنشاؤه بواسطة الكُتّابِ والمراجِعين والنُّقّادِ الدوليين، وكذلك الأدبِ الوطني. مع ذلك، فإنّ تأثيرَ كلُّ كاتب وممثل وكيفية تموضعهم على المستوى الوطنى يختلفان عن بعضهما البعض.

ولذلك، لكل كاتب موقف مزدوج. الأول: على المستوى الوطنى - وهو لا يقتصر على الأدب الوطني. ثانياً: مكانة المؤلف فى المجال الأدبى العالمى إن وجد. فى هذه الحالة، لا يتم تصوُّرُ العالَم على أساس جغرافى أو بناءً على البلدان والمناطق وأحواضها الثقافية واللغوية. يُنظر إلى الأدباء، والكُتّاب، والأكاديميين، والمحكّمين، والنقاد، والمترجمين على أنهم مجموعاتٌ فئوية وعالَمٌ توجد فيه علاقات هرمية معقَّدة.


ولا تخلو هذه العلاقات من أشكال الهيمنة بما فى ذلك اللغة والأدب والعناصر السياسية، التى أسفرت عن «عولمة أدبيّة» من حيث الأنواع والأشكال والموضوعات. يُشبِه طارق على الكتبَ التى تُقرأ بسرعة بالوجبات السريعة (ليس من الخطأ اعتبارها مستهلكة!).

وينتقد هذه العملية على أنها «قراءة روايات الوجبات السريعة». على عكس علي، يدافع آدم كيرش Adam Kirsch عن وجود تكوين أدبى يشمَل المجتمع العالمى للقرن الحادى والعشرين.

ومن خلال النصوص الأدبية «المؤهَّلة» لمؤلفين مثل أورهان باموك، وهاروكى موراكامي، وروبرتو بولانو، وشيماندا نغوزى أديتشى ومارجريت أتوود، حيث يسعى إلى بناء نوع من النظرية «الكَوْنيّة» للرواية. 


ومن ناحية أخرى، هناك تفاعل متعدد الطبقات والأوجه فى تكوين القيم الأدبية الدولية، يحتاج إلى فك شفرته بدلاً من تأثير فرديّ وأحاديّ الاتجاه. وفحصُ أداءِ هذا التفاعل بنهج يركّز على الآداب الأوروبية فقط، مع أنه مفيدٌ لكنه غير مُكتَمَلٍ.

وإذا نظرنا إلى المسألة من منظور الأدب العربي، فإن التفكير فى العلاقات الأدبية بين القاهرة وبيروت ودول الخليج وغيرها من المراكز القديمة والجديدة، والبحثُ جنبًا إلى جنب مع عناصر متعدّدة مثل الشكل والمحتوى والنوع وظروف السوق والترجمة والاتجاهات القومية، قد يساعدنا فى الحصول على أفكار واستنتاجات جديدة حول الأدب العربى والنظرية الأدبية و»القيم» الإنسانية.


والموضوع يحتاج إلى فحص متعمّق أكثر. ختامًا، أقول إن الأدب أكثر الوسائل تأثيرًا باعتباره قوة ناعمة تُقرّب بين الذات والآخر فى زمن يتصاعد فيه أصوات عنصرية فى كل أنحاء العالَم.

اقرأ ايضاً | معرض القاهرة للكتاب .. «قصور الثقافة» تحتفى باليونان بطباعة الكلاسيكيات

نقلا عن مجلة الأدب: 

2023-2-18