د. كوثر محمد مروان تكتب: مواطنون دون وطن

د. كوثر محمد مروان
د. كوثر محمد مروان

أقول قولة حق إن لمصر وشعبها العظيم فضلاً علينا عامة، وعلىَّ بصفة خاصة، فهى كما احتضنت الكثيرين من قبل قد احتضنت كل من وفد إليها من الشعب السورى بكل أطيافه، أما المراكز الأدبية الثقافية المصرية، فقد عملت على دمجنا مع أدبائها، فلا فرق بين مبدع مصرى أو سوري،وعندما كان أستاذنا الفاضل منير عتيبة يتحدث عنى فيقول الأديبة السورية السكندرية، كان لهذا اللقب بالغ الأثر فى نفسي، كان يزيل عنى شعور الاغتراب ويدفعنى إلى الكتابة والإبداع مثلى مثل غيرى من الزملاء الأشقاء.

ومع هذا يا أصدقائى فإن الغربة عن الأهل والوطن هى الموت، هى العذاب الأكبر فالجسم فى غربة والروح فى وطن، لذلك كان حديثى دومًا الصمت، ولقد دخلت فى حالة من الحزن والاكتئاب فى كثير من الأوقات، كنت تائهة بلا هدف، عالقة ذاكرتى بين الماضى والحاضر، تساورنى الآلام والحزن الدائم، فقد ألقت تجربة الغربة ظلالها المقيتة على نفسي، جعلتنى ألوذ بالوحدة والعزلة والشعور بالهشاشة والعجز.

فما أصعب أن يشعر الفرد بأن الحياة لا معنى لها، وأنها تسير وفق منطق غير مفهوم، هزمتنى الغربة وهزمت إصرارى وعزيمتى اللذين عرفت بهما سابقا، كما امتدت ظلال الغربة إلى قلمى فجف نبضه.

وإلى دموعى فأشعلت نيرانها فى صدرى حنينًا وشوقًا إلى وطني، ولكن ما وجدته هنا من دفء المشاعر وصدق النفوس ما جعلنى أسيطر على قلقي، فكان لابد للقلم أن يكتب، وللفؤاد أن يصرخ فى وجه الظلم بعد أن أصبحت الكتابة نداء واجبا فى تصوير معاناتنا فى الداخل والخارج.

واتخذت تيمة الغربة بكل ما تحمله من معان، مثل القهر والخوف، الحزن والكآبة، الموت والخذلان، الضياع موضوعًا أتحدث من خلاله وكما صورت علاقة الأنا بالآخر، وذهبت أبحث عن هويتى شعراً ونثراً، صورت آلام وطنيً برؤية فنية وبإسقاط واقعى مؤثر.

ويعكس مدى المعاناة التى يعانيها أهلنا فى سورية، فى ظل الأزمة الحالية، وقد رسمت عدة شخصيات متباينة فى قصصى تجسد الواقع الذى فرض علينا بالداخل والخارج، مثل الشخصية التى وقعت ضحية واقع اجتماعى أو سياسي، أو كليهما معًا، والشخصية الضحية التى وقع عليها الظلم والقمع بفعل الآخر، والشخصية.

التى كانت بلا إنسانية أو رحمة وقد اتخذت من السجناء وسيلة لتسلق المناصب، فجاءت مجموعتى القصصية «سبديلا» وسيلة من وسائل البحث عن الذات والهوية المفقودة، وتصوير القلق والخوف الذى نعيشه، وبث الحنين والشوق للوطن الذى أمسى مرضًا عضالًا لكل المهاجرين والمهجرين.

وقدمت صورًا مركزة على هذه المعاناة وما فعلته عجلة الحياة فى قلب الموازين، من العيش فى حياة الرخاء والرفاهية إلى ركوب البحر والبحث عن لقمة العيش بأمان بعيدًا عن الرصاص والمتفجرات، كما فى قصة (القارب) فقد كانت البطلة فيها سيدة أرستقراطية تعيش عيشة الأميرات.

تتمتع بالمال والخدم وعندما قامت الحرب قررت الهجرة إلى أوروبا عبر البحر، وقد عالجت القصة كل المخاطر الذى يتعرض لها المهاجرون وكما بينت استغلال لصوص الرحلة من المهربين وتجار الحروب وبالنهاية كان الموت المحقق يتربص بهم. كما رمزت إلى الزمن، وجعلته معادلًا موضوعيًا لقوى الشر التى ترغب أن تستبيح دماء المواطنين وحريتهم، كما فى قصة (أبدية).


 ولاشك أن الشعور بالغربة والبعد عن الوطن، جعل العودة هاجسًا ملحًا على ذاكرة كل مهاجر، وأصبح الوطن بمثابة الفردوس المفقود، والعودة حلم كل مغترب، كما فى قصة (عودة) وبسرد يعزف سمفونية الآلم والفقد.

وبدموع تصب كل آهات الأمهات وسخطهم على الحرب، وبصوت الأم المكلوم الخائف على فلذة كبدها من الغرق، راحت تحلم تلك الأم بعودة الأبناء الذين هاجروا وتركوها وحيدة، لتعيدهم إلى حضنها الدافئى، وهذا ما جاء فى قصة «عودة»، عندما طرق صافى باب البيت على حين غفلة، وعاد إلى حضن الوطن.


وبذلك يكون فعل الفعل الكتابة تعبيرًا عن وطن غائب، وتشكيلا لوطن متخيل، فكان السرد خارج الوطن صلة وصل بين الماضى والحاضر، رحت أجوب من خلاله ذكريات جميلة حملت عبق الوطن، وأنتظر حاضرًا مجهول الهوية.

وأتمنى أن يحمل الأمل، وهذا ما تناولته فى قصة (استدعاء) فهناك اتصال يأتى للبطلة فى ليلة العيد، يستدعونها إلى الفندق، تتدفق الذكريات ذات الربيع الأخضر. وتتمنى عودة والديها، عندما زاراها فى العيد الماضي.


وكما أن السرد خارج الوطن أصبح يمثل بالنسبة لى وجودى وهويتي، كنت أشعر عندما أحكى قصص الأمهات والجدات، وأتحدث عن عادات وتقاليد وطني، وأبث أشواقى لحياة حملتها بأفراحها وأتراحها فى نبضي، فكنت كأنما أحمل وطنى بداخلي.

وها هى قصة الصبية المدللة التى كانت تطلب مهرها القمر وأبواها يحلمان أن يزوجانها بعريس غني. وكان هذا فى إحدى القصص التى حملت عنوان (القمر الجديد) نقلت عبر القصة التمايز والاختلاف بين جيلين فى سياق ثقافى اجتماعى ترسب فى طبقات اللاوعي.

فقد كان للسرد خارج الوطن مهمة تسجيل لحظات مضت بتوصيف دقيق وتسجيل حاضر يحمل بين طياته المجهول، فكان لابد من البحث عن وطن بديل لخلق نوع من التوازن النفسي، وهكذا وجدته بطلة قصة (وطن) فى شخص أحبته فى بلد المهجر فقالت للحبيب:


قلبك وطني، هل يمكننى السكنى فيه؟
وعندما يصبح فعل الاغتراب من حيث هو انفصال عن الذات والعالم، أو من حيث هو قطيعة مع أشكال التواصل كافة، ذهبت أرسم بالكلمات فى ديوانى الشعرى (فى قلبك سيدي) معاناة الذات وغربتها، أنقل مشاعرى إلى من حولي، أبحث عن عالم جديد يحل بديلًا عن عالم مضى بدفئه وجماله، فقلت فى قصيدة غريبان:
كن عالمى 
 احتمى بك وقت الشدائد 
 كن أبى 
 كن أخى
كن طفلى 
وانثر الربيع على ذرا أحلامى 
ورحت أحمل القضية بين أضلعى وأشدو بقلب دامع:
 نركض خلف الأرض والجبال القرمزية 
ننتظر ملفات القضية 
أو رصاصة بندقية 
وعندما كنت أسير فى شوارع الإسكندرية وأحيائها، كنت أنظر فى وجوه الأمهات أتمثل فيهن أمى فقلت فى قصيدة ثقب همي:
ناديت فى سكون الليل 
 فى الوادى الكئيب
 ردوا لى جبين أمى
وعندما عدت بالذاكرة إلى تاريخ الأجداد، وقرأت عن إنجازاتهم فى أرض مصر أثناء نزوحهم فى أواخر القرن التاسع عشر، بسبب بطش العثمانيين، تمردت على واقع الغربة، وراح التمرد يأخذ أشكالًا وتجليات مختلفة فكان كتابى المعنون «الصحافة النسائية فى مصر» تحدثت فيه عن ولادة الصحافة النسائية على أرض مصر.

على يد شاميات سوريات مسيحيات، بقيادة بارونة الصحافة النسائية «الكسندرة افرينوه» وبينت مساهمة الآدباء والشعراء والمفكرين فى بلاد الشام ومصر الحبيبة، فى إثراء مادتها التحريرية فانسابت على صفحات المجلة ينابيع المعرفة والعلوم.

وقد أسفر أيضاً السرد خارج الوطن كتابًا نقديًا آخر، كان بعنوان السيرة الذاتية فى العصر الحديث، وقد اتخذت من سيرة المفكر والأديب الكبير ميخائيل نعيمة مثالًا يحتذى به فى النجاحات الكبيرة التى حققها والذى صنعها أثناء هجرته إلى روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان أحد أعمدة الرابطة القلمية التى أنشأها جبران خليل جبران، إذ كانت تدعو الى التجديد والتخلص من الأساليب القديمة للأدب بشكل عام.


وكان هذا بعضًا من معاناة عشناها وذقنا مرارتها فى غربتنا، وخفف عنها وجودنا وسط اخوة وأهل هنا فى مصر الحبيبة منحونا دفء القرب وصدق المودة.


أخيرا أقول: اذا كانت الاضطرابات الدامية قد أبعدتنا عن موطننا ظاهرياً فإننا فى الحقيقة لم نغادره لحظة، فالوطن مسكون فى داخلنا، نتنفس هواءه نعيش همومه تؤرقنا هواجسه وآلامه، نسمع أنينه بأرواحنا قبل آذاننا. 


والوطن نحن ومادام هناك سورى أو سورية يمتلك الفكر والإحساس فسوف تظل هناك سوريا، لن تغيب ولن تنحن هامتها مهما كانت قسوة اللحظات ومهما كان تحجر قلوب الظالمين.


 دمتم ودامت أرض الكنانة حضن العرب، ومئول الأحرار أبد الدهر، دامت مصرنا الحبيبة وأهلها زاهرة بالسلام والأمان.

اقرأ ايضاً | وليد علاء الدين يكتب: تجليات الذات الساردة

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-2-18