د. أسامة علام يكتب: السرد خارج حدود الظل

د. أسامة علام
د. أسامة علام

تتمنى لى مضيفة الطائرة الحسناء على باب الطائرة نهارا سعيدا فى الوطن. تقولها بآلية اعتيادية لى وللجميع. كانت طائرتى قادمة من قارة لقارة أخرى عابرة المحيط الذى عبرته عشرات المرات بتكرار مربك. لم أعد أستطيع العد. ولدت فى ليبيا. دخلت الحضانة فى المنصورة بمصر.

وعرفت الطفولة فى مسقط بسلطنة عمان وتخرجت من جامعة الزقازيق. وحصلت على الماجستير من فرنسا والدكتوراه من كندا. وأعمل فى أمريكا. أحمل ثلاث جنسيات وأتحدث نفس العدد من اللغات بالطلاقة نفسها. لكنى أسكن جسدا واحدا. منهك قليلا من فكرة المواطنة.


طلب منى العزيز منير عتيبة أن أكتب عن السرد خارج حدود الوطن. وأنا رجل على حافة الخمسين من العمر. أجلس كشخص على قمة جبل ينظر بهدوء إلى المدى. محاولا استكشاف ما سيحدث للسحاب.

وهكذا يمكننى أن أقدم نفسى للأصدقاء المستمعين لكلمتى. كشخص دارت به الدنيا ودار ببلادها. فلم يعد يكترث كثيرا سوى بالتفاصيل الصغيرة وأسرته والحيوانات والقصص التى تسكن العابرين. 


تستطيع الغربة أن تنزع عنك حميمية اليقين من الأشياء الاعتيادية. المسلمات التى تصنع دوائر أمانك فتجعل حياتنا فى الأوطان أكثر بساطة. فى الغربة أيضا عليك خلق وطنك الخاص.

 

أن تنهمك فى العمل أكثر، أن تصبح مغرما أكثر بالحديث عن الماضى، أن تصبح أكثر تدينا أو إلحادا، أن تتطرف فى تشجيع فريق فى دورى كروى محبط. هذا تماما ما حدث لى بطريقة ما مع الكتابة. 


من المهم أيضا أن أقدم لكم أصدقائى. جهاز الكمبيوتر وسماعات الأذن وطاولتى التى لا أغيرها فى المقهى. فهؤلاء الكائنات جامدة الحركة والاحساس هم طريقى السرى للدخول إلى عالمى السرى. عالم الحكايات السحرية.

وقد تبدو لى كلمة السرد مصطلح علمى يخلع عن الحكايات التى أسكنها كوطن مستديم عطرها السحرى. لكنى لا أريد أن أغضب منير عتيبة. ولا أريد أن أغضب حضراتكم. وأتمنى أن أستطيع أن أنقل لكم ما أريد أن أخبر به.


هنا فى الغرب حيث أعيش لا أحد يعرفنى ككاتب. أستطيع تقديم نفسى كأكاديمى سابق أو طبيب للحيوانات بأريحية أكثر. فلا أحد سيتفهم وضعيتك ككاتب يمارس مهنة أخرى غير الكتابة.

ويحدث ذلك أيضا فى وطنى الأقرب لقلبى مصر. يحب البعض كتبى التى أنشرها فى دار نشر مشهورة ومشتهاة من البعض. لكن بعد فنجان القهوة الأول على المقهى سيسألك أصدقاء الطفولة بخبث « أخبار أمريكا إيه؟.


ومع مرور الوقت اكتشفت أن روعة الكتابة تكمن فى كونها وطنا بديلا. لعبة أخترعها للدخول إلى حيوات أتمنى الحياة فيها. تعجبنى بشدة الروايات التى يعيش كتابها كأبطال على الورق. متحف البراءة لأورهان باموك، العالم لخوان خوسيه مياس، سنة موت ريكاردو ريس لساراماجو، المزحة لكونديرا.

الضوء الأزرق لحسين البرغوثى وهموم شخصية لأوى كنزبورا. تمثل هذه النوعية من الكتابة التجلى الأفضل لما أتمنى كتابته. حيث خلق عالم من الأسئلة الشخصية التى يستحضرها الكاتب عبر مصائر شخصياته.

لا تشغلنى كثيرا فكرة الشهرة والخلود. فالثوابت الاعتيادية مشوشة جدا فى عقول المهاجرين. والمهاجرون من أمثالى قبيلة محكوم عليها بالذوبان وإعادة الذوبان. مرة بالحنين ومرة بالأمل ومرة بمحاولة الحصول على الاعتراف بالنجاح فى التجربة.


السرد خارج حدود الوطن أم السرد خارج حدود الظل؟ هذه هى المعضلة. حيث ظلك لا يحمل سوى انعكاس متخيل لوجودك الحقيقى. ظلك لا يحمل صوتا أو مشاعر حقيقية عنك. ورغم ذلك يظل متشبثا باتباعك كصديق وفى.

وعليك فقط أن تكتب لأن الكتابة تسمح لك بالتوازن النفسى. تتلصص مثلى على أسماء مشاهير الكتابة فى وطن - لا يهتم بك كثيرا- تلمع وتنطفئ. تتابع جوائز تستمع بالفرجة عليها تماما كمباريات كأس العالم التى لا تطمح فيها لفريقك الوطنى سوى بالمشاركة المشرفة.

وتكتب باللغة العربية لأنها الأقرب إلى قلبك. الأكثر قدرة على التعبير عن مشاعرك وأفراحك وانكساراتك. تطوف معارض الكتب فى العواصم الكبرى وأنت تعلم بأن ثقافتك الأحب والأقرب ربما لن تجد منها كتابا واحدا.


السرد خارج حدود الوطن متعة. كأغنية تحبها من أيام الطفولة. ترددها وحيدا منتشيا بذكرياتك ومكتفيا بها. وعليك أن تكون واعيا جدا، بأن صوتك الشجى ليس مطالبا بإطراب الآخرين هنا أو هناك. لكنك رغم كل شئ عليك الامتنان للكتابة كوطن بديل ودائم. قابل لإرضاء كل الأحلام التى تسرقها منك الغربة.

اقرأ ايضاً | د.عبير خالد يحيى تكتب.. ماذا لو لم أكن هنا؟

نقلا عن مجلة الأدب: 
2023-2-18