بعد الانتخابات التونسية.. مشروع قيس سعيد بين التحديات والطموحات

جانب من اجتماع الرئيس التونسي مع القيادات الأمنية والعسكرية
جانب من اجتماع الرئيس التونسي مع القيادات الأمنية والعسكرية

بإعلان النتائج الأخيرة للمرحلة الثانية للانتخابات النيابية للبرلمان التونسى تبدأ تونس عهدًا جديدًا يُجسد مشروع الرئيس قيس سعيد فى جمهورية جديدة مختلفة بشكل شبه كامل عن تلك المرحلة التى شهدتها تونس ما بين قرارات ٢٥ يوليو ٢٠٢١ والثورة التونسية فى ٢٠١١.. القرارات -وفقًا للمراقبين- نالت تأييدًا واسعًا من أوساط الشعب التونسى، وأسهمت فى ارتفاع ملحوظ فى شعبيته، خاصة أنها استهدفت كل الأحزاب والتيارات التى تصدرت المشهد خلال العشرية الماضية وفى القلب منها حركة النهضة، والتى شهدت تأزمًا سياسيًا، وصراعًا بين السلطات مع تدهور اقتصادى.

وخلال تلك الفترة تم تنفيذ خريطة الطريق التى كشف عنها الرئيس قيس ومرت بالعديد من المراحل وشهدت رؤية خاصة للإصلاحات السياسية تم عرضها على الشعب عبر الاستشارات الإلكترونية خلال مارس من العام الماضى، حيث كشفت عن توجه نسبة كبيرة وصلت إلى أكثر من ٨٤ بالمائة من التونسيين سعوا إلى التحول إلى نظام رئاسى وتعزيز سلطة الرئيس وكانت المحطة الثانية الخاصة بإجراء حوار وطنى فى يونيو من العام الماضى، وكانت المرحلة الثالثة من الأهمية بمكان، حيث بالتوازى كانت هناك لجنة تم تشكيلها لوضع دستور جديد للبلاد أنهت أعمالها وجرى الاستفتاء على المشروع الجديد فى يوليو من العام الماضى، وكانت النتائج كبيرة، حيث وافق على مشروع الدستور حوالى ٩٤ بالمائة.

حيث وافق عليه حوالى 2.6 مليون تونسى بينما رفضه 146 ألفًا فقط بنسبة أقل من 6 بالمائة، وكانت المحطة الرابعة هى الانتخابات البرلمانية التى جرت على مرحلتين الأولى فى ديسمبر من العام الماضى، حيث تنافس 262 مرشحاً على 131 مقعدًا ولم تتجاوز نسبة المشاركة فى الدورتين أكثر من 11 بالمائة ولم تنجح الدورة الأولى فى حسم الأمور سوى فى 23 دائرة، بينما ظلت نتائج ١٣١ دائرة معلقة للجولة الثانية مما دفع العديد من المراقبين إلى التساؤل حول أسباب ذلك خاصة مع التأييد الواسع لكل الإجراءات السابقة ونتوقف عند بعض التفسيرات؛ ومنها:


أولًا: معظم المرشحين من المستقلين قليلى الخبرة السياسية ولم يسبق لهم الترشح من قبل ويطرح فاروق أبو عسكر رئيس هيئة الانتخابات أسباب أخرى، لذلك منها تغيير نظام الاقتراع وفقاً لقانون الانتخابات الجديد والذى تم إقراره منذ أشهر وأعاد ترسيم الدوائر واعتمد الترشيحات الفردية وغياب المال السياسى عن الحملات الانتخابية وعمليات شراء الأصوات وتوظيف الإعلام لفائدة الأحزاب السياسية).


ثانيًا: عدم اهتمام التونسيين بمؤسسة البرلمان وهو ما ذهب إليه الرئيس التونسى قيس سعيد (نحو ٩٠ بالمائة لم يشاركوا فى التصويت لأن البرلمان لم يعد يعنِ شيئًا لهم، فخلال العشر سنوات الماضية عبثت البرلمانات بالدولة ولم يعد التونسيون يثقون فى هذه المؤسسات) وكان الرئيس قد أشار قبل الانتخابات إلى مخططات لإفشال الدور الثانى من الانتخابات من خلال توزيع أموال من الخارج على التونسيين لدفعهم إلى مقاطعة التصويت مع سعيهم لتأجيج الأوضاع وضرب استقرار الدولة التونسية.
وبعد فإن المرحلة القادمة ستكون هى الأهم فى تحديد مسار الدولة التونسية وستكشف مدى قدرة الحكومة على إنجاح مشروع تونس الجديد ويتوقف ذلك على عاملين فى غاية الأهمية:
الأول: قدرة الحكومة على ضبط الأوضاع ومعالجة الأزمة على الصعيد السياسى واستثمار قوة أنصار قيس سعيد فى الشارع التونسى، حيث يتمتع الرئيس بدعم عدد من الأحزاب التونسية، انطلاقاً من خصومتها السياسية والأيديولوجية مع التيار الإسلامى الذى تمثله «حركة النهضة»، واستثمار أزمة المعارضة المنقسمة على نفسها، فرغم أنها تجمعت تحت راية جبهة الخلاص، فعلى الرغم من أنها تضم قيادات مثل ناجى الشابى وجوهر بن مبارك، وأحزاباً وائتلافات متنوعة، لكن هيمنة «حركة النهضة» على الجبهة تدفع عدداً من المواطنين غير المسيّسين إلى الانصراف عنها، خاصة أن الحركة قد أدارت الأمور فى البلاد لفترات عديدة بعد ٢٠١١، حيث كان هناك ثمانية رؤساء للحكومة وتعديلات وزارية عديدة واعتقاد لدى قطاع عريض بأن حركة النهضة لا تناضل من أجل مضامين اقتصادية أو اجتماعية، بل إنّ غايتها الأساسية هى الوصول إلى السلطة، وأنها أدارت البلاد لنحو عقدٍ كامل فأدخلت المجتمع فى دوامة من التناحر والانقسام، فضلاً عن اتهامات الفساد المالى والتورط فى الصراعات خارج الحدود، ولعل ذلك يفسر غياب التجاوب مع الاحتجاجات التى تعلن عنها «جبهة الخلاص» أو الهيئات المحسوبة عليها محدوداً للغاية، نتيجة ملل الشارع التونسى من الاحتجاجات منذ أحداث «الربيع العربى»، وشعور المواطن بعدم جدوى تلك الوسيلة للتغيير.

من المهم بمكان التعاطى الإيجابى من الحكومة مع طروحات الاتحاد التونسى للشغل باعتباره أهم تنظيم نقابى وعدد أعضائه مليون شخص وكان واحدًا من أكبر الداعمين لقرارات الرئيس سعيد ولكن موقف الاتحاد تغير تمامًا، فلم يكتف بالمقاطعة، ولكنه دعا إلى سلسلة احتجاجات اجتماعية بدءًا من أمس السبت إلى الرابع من مارس القادم موعد الإعلان عن التشكيل النهائى للبرلمان التونسى القادم تشمل 20 محافظة، ومؤخرًا حذر الأمين العام للاتحاد الوطنى للشغل نور الدين الطبوبى من طوفان اجتماعى غير معرف التداعيات واحتجاجات حاشدة سينظمها الاتحاد لاحتلال الشوارع والدفاع عن خيارات ومصالح الشعب.


الثانى: سرعة معالجة الأزمة الاقتصادية التى يعانى منها الشعب التونسى، بسرعة إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولى الذى تم التوصل فى أكتوبر الماضى إلى مذكرة تفاهم على مستوى الموظفين يسمح لها بقرض جديد بقيمة مليار ونصف المليار، ولكن تم سحب الملف وتأجيل البت فى الاتفاق ومثل هذا الاتفاق يسمح لها باقتراض أكثر من ٤ مليارات دولار من الخارج لسد العجز فى الموازنة العامة للدولة، ولعل تشكيل البرلمان الجديد قد يشجع المانحين الدوليين والصناديق المالية الدولية على بدء برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى قد يتضمن إجراءات قاسية منها خفض الدعم وقيمة العملة وتقليل أعداد الموظفين الحكوميين، ومن المهم أن يتصدر الملف الاقتصادى أجندة الحكومة التى يطالب البعض بأن تكون حكومة طوارئ تشارك البرلمان الجديد مهمة إيجاد علاج للأزمة الاقتصادية بحلول غير تقليدية.


وبعد فإن تونس تحتاج إلى الاستقرار على الصعيدين السياسى والاقتصادى من البحث عن مبادرة إنقاذ وطنى مع عدد من منظمات المجتمع المدنى مثل نقابة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان تستهدف التوصل إلى آلية لإنهاء الخلافات بين الطبقة السياسية والحكومة والمشاركة فى حل الأزمة الاقتصادية.