أحمد بهاء الدين شعبان يكتب: فى حضرة مولانا

سيد حجاب
سيد حجاب

سمحت لى الظروف الخاصة والعامة،أن أكون على صلةٍ، بعددٍ غفير من ألمع الكُتَّاب والشعراء والفنانين التشكيليين والمُبدعين المصريين والعرب، على امتداد نصف القرن الماضى، بسبب الدور المتواضع الذى تسنّى لى أداؤه كأحد قادة الحركة الطلابية الوطنية فى السبعينيات، التى انطلقت فى أعقاب نتائج حرب 5 يونيو 1967 الكارثية، مُطالبةً بالحرب لاسترداد الأرض المحتلة، واسترجاع الكرامة الوطنية المُهدرة.


وكان على رأس هؤلاء ثلة من الشعراء النوابغ من شعراء العامية المُتميزين، فى مقدمتهم الكبار: أحمد فؤاد نجم، وعبد الرحمن الأبنودى، وسمير عبد الباقى، وزين العابدين فؤاد، وفؤاد قاعود، والكابتن غزالى وفرقة «أولاد الأرض» وغيرهم.

الذى كان إبداعهم الوطنى، وعطاؤهم الشعرى زاداً ومعيناً لكل فئات المجتمع، فى شد أزرهم لمواجهة المحنة، والصمود فى مواجهة العدوان الصهيونى الأمريكى الغادر، وتأكيد الأمل فى الغد، وتثبيت اليقين فى النصر، وإن كان من سوء طالعى ألّا أفوز بالتعرُّف إلى شيخ الشعراء العظماء، فؤاد حدّاد.


أنا ابن بحر
من بين ألمع عناصر هذه المجموعة النادرة واحد من شعراء العامية الكبار، الشاعر المبدع سيد حجاب.
كان يقف على قمةٍ وحده، مُتفرداً بمساحة مُميزة لا نظير لها، ففضلاً عن أسرته المثقفة ومدرسيه الواعين، فإن بيئته التى قدمته لجمهور القُرّاء لم تكن المدينة بضجيجها وبرود علاقاتها كحال بعضهم، أو الريف بفكره وتقاليده الموروثة من آلاف السنين كوضع كُثرة منهم.

ولا الصعيد بلغته وتراثه المُمتد فى عمق الوجدان المصرى مثل آخرين، وإنما قرية المطرية، ببحيرة المنزلة، بمحافظة الدقهلية «شبه الجزيرة التى تحدها المياه من ثلاث جهات»، (سيد حجاب صياد الحواديت، إبراهيم خطّاب، المجلس الأعلى للثقافة، 2010، ص: 31)، ولذا فإن هذه البيئة، ببؤس أحوال الصيادين فيها.

وبأغانيهم الحزينة التى كانوا يُعَبُّرون من خلالها عن أشجانهم وأمانيهم، طبعت روح أشعاره منذ أوائل قصائده العامية؛ «أنا ابن بحر»: «أنا ابن بحر، ابن النسيم اللى رضع من السما ، رضع حليب النجمة.. حنيّة وفَجَر، وبعدها جه واترمى، فى حضن أبويا وأمى واخواتى الكُتار».

وميَّزت قاموسه اللغوى الخاص، الذى يُشير إليه من أول مقطع للقصيدة، ووسمت إبداعاته منذ ديوانه الأول، «صيّاد وجنيّة»، بصفاته الخاصة التى لا تُخطئها العين، وعَمَّق من أثر هذه الأحاسيس مشاعره الإنسانية والوطنية الجارفة.

التى تجاوبت مع معارك الكفاح الوطنى ضد الاستعمار وتفاعلت مع سياقاتها العامة، وخاصةً معركة طرد الاحتلال البريطانى فى منتصف الخمسينيات، الأمر الذى منح أعماله نكهتها الخاصة التى لا تُخطئها عين ولا تفتقد إيقاعها أذن.


الكرامة والمساواة
وإذ انفتح وعيه فى الإسكندرية التى بدأ فيها دراسة الهندسة، والقاهرة، على الفكر التقدمى، والتقى رموز الفكر والثقافة المُنحازة للشعب وطبقاته الشعبية، بدأت أعماله الشعرية تترى، وتحفر لها مقاماً مُمَيزاً عن الآخرين، ولأن القصيدة لم تكن لدى سيد حجاب ترفاً أو وسيلة للنجومية والتكسُّب وتغييب الناس عن مصالحهم وقضاياهم.

وإنما كانت سلاحاً بتّارً للدفاع عن الحق والجمال، والمساواة والكرامة، والعدل والإنصاف، ولتثقيف المجتمع، وكشف عوراته وحثه على النهوض والاندفاع للأمام، وتعرية الفساد والمُفسدين، وأداة من أدوات التوعية السياسية فائقة التأثير، تخاطب الضمير، وتتفاعل مع الوجدان، وتؤثر فى المصائر.

فقد كان طبيعياً أن يناله ما نال كل صاحب مبدأ، وكل مُدافع عن قضية، حين أُلقى به مع عدد من المثقفين اليساريين الشباب (صلاح عيسى، وجمال الغيطانى، وسيد خميس، وأحمد الخميسى وغيرهم)، إلى غياهب السجون.


ولأن غاية سيد حجاب التى وضعها نصب عينيه، كانت دائماً الوصول إلى الناس والارتباط بهم، كما كان دائم القول، والتعبير عن همومهم وأشواقهم، فقد اقترب بشدّة من هذا التوجُّه، بصورة خاصةٍ، حينما واتته الفرصة لاستخدام وسائل الاتصال الحديثة.

والاستفادة منها فى توصيل رؤاه للجموع الغفيرة، من شتى فئات وطبقات المجتمع، ومن مُختلف مستوياته الثقافية والفكرية، فاتحدت أعماله فى مُقدمات المُسلسلات التليفزيونية مع عبقريات موسيقية وتلحينية من مقام بليغ حمدي، وعمّار الشريعى وياسر عبد الرحمن وميشيل المصرى وغيرهم، وأصوات من مستوى على الحجّار وزملائه. 


الحق والحرية
مَن منا لم يهتز انفعالاً وتأثراً وهو يستمع لكلمات وألحان وغناء تترات المسلسلات المصرية الخالدة: «الوسية، أرابيسك، المال والبنون، الأيام، ليالى الحلمية، الشهد والدموع، بوابة الحلوانى، ليلة القبض على فاطمة»، وغيرها من روائع الإبداع المصرى فى عصر «القوة الناعمة» ذات الحول والطول فى المنطقة العربية بأكملها.

ويكفى أن نتمعن التفكير فى جمال وعُمق هذه النماذج الدالة من مُقدمات بعض هذه الأعمال الدرامية والوطنية الخالدة، وأن نستعيد قوة العمل الفنى تمثيلاً وإخراجاً وتصويراً، ومونتاجاً، لكى ندرك أهمية ما قدّمه سيد حجاب ورفاقه للفن والروح والشخصية والهوية المصرية:


«مين قال الدنيا دى وسِيّة ، فيها عبيد مناكيد وفيها السِيد ، سَوّانا رب الناس سَواسيّة ، لا حد فينا يزيد ولا يخس إيد» «الحق والحريّة روح الوجود ، همّا جناحين النهوض والصعود ، ينداسوا.. يتساوى الوجود والعدم.

وان سادوا. سدنا الدنيا والخير يسود» -«من عتمة الليل.. النهار راجع ، ومهما طال الليل.. ييجى نهار، مهما تكون فى عتمة ومواجع ، العتمه سور.. ييجى النهار تنهار»  «باحلم وافتّح عينيا ، على جنّه للإنسانية، والناس سوا بيعيشوها ، بطيبه.. وبصفو نيّه»  «دنياك سكك حافظ على مسلكك ، وامسك ف نفسك لا العلل تمسكك، وتقع ف خيّه تملكك تهلكك، أهلك يا تهلك دانت بالناس تكون».


ولقد تحددت منذ تباكير عمر الشاعر الكبير سيد حجاب ملامح تجربته الشعرية، التى تأكدت بمرور الوقت، هذه الملامح شديدة الخصوصية والتميُّز التى جعلت الشاعر الكبير صلاح جاهين يُدرك مُبكراً عبقرية هذه الموهبة المُتفتحة.

ومنذ أول قصيدة يقرأها له، وهو فى الحادية والعشرين من عمره، ودفعته لأن يكتب مُبشراً بموهبته اللافتة: «اسمه سيد حجاب، تذكّروا هذا الاسم، فإنه سيعيش طويلاً فى حياتنا المُقبلة، وسيكون له شأن عظيم».. وقد كان.


للعدل والمواطنة
برز اسم سيد حجاب، هذه المرّة ليس على صفحات دواوين الشعر، أو شاشات التليفزيون، وإنما عام 2013، بعد أن اختطفت جماعة الإخوان ثمار 25 يناير 2011، وضمن كوكبة من ألمع المثقفين والمُبدعين الوطنيين، (منهم المسرحية الراحلة فتحية العسّال، والأساتذة جلال الشرقاوى، ومحمد فاضل، وسامح الصريطى، وسهير المرشدى، وسلوى بكر، وغيرهم)، حيث تصدّوا بقوة لمحاولة جماعة الإخوان اختطاف المركز العصبى للثقافة المصرية، بتعيينهم وزيراً للثقافة، يُمَكِّنَهُم من السيطرة عليها وعلى ثقافة المصريين. 


وكان الراحل الكبير على موعد مع القدر، وفى تجلٍ جديد للكبرياء والعظمة، حينما اختير لكى يصيغ بقلمه الذهبى ديباجة دستور 2014، الذى سيذكره التاريخ باعتباره أكثر دساتير مصر تقدُّماً.


«وهذا دستور ثورتنا: مصر هبة النيل للمصريين، وهبة المصريين للإنسانية.. مصر مهد الدين، وراية مجد الأديان السماوية.. هذه مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا.. هذه الثورة إشارة وبشارة، إشارة إلى ماضٍ ما زال حاضراً، وبشارة بمستقبلٍ تتطلع إليه الإنسانية كلها.

ونحن نؤمن أننا قادرون أن نستلهم الماضى وأن نستنهض الحاضر، وأن نشق الطريق إلى المستقبل.. قادرون أن ننهض بالوطن وينهض بنا.. نكتب دستوراً يصون حرياتنا، ويحمى الوطن من كل ما يهدده أو يهدد وحدتنا الوطنية.. نحن المواطنات والمواطنين، نحن الشعب المصرى، السيد فى الوطن السيد، هذه إرادتنا، وهذا دستور ثورتنا».


المتمرد الأبدى
واعتدنا فى مقر الحزب الاشتراكى المصرى، أن نحتفى مع تلامذة ومُحبى ورفاق «العم سيد» وأسرته، بذكرى ميلاده السعيد فى سبتمبر من كل عام، وكان آخر احتفال بذكرى ميلاده الخامسة والسبعين، فى سبتمبر 2015، قبل أن يحرمنا المرض من هذه العادة الطيبة.

وحينما منعه المرض الخبيث من لقاء مُحبيه، شرّفنا باستضافتنا فى محرابه للاحتفال معه ومع زوجته الوفية، السيدة ميرفت الجسرى بهذه المناسبة المُهمة فى نفس التوقيت عام 2016، وفى 25 يناير الماضى، مرّت ذكرى رحيل «السيد»: (23 سبتمبر 1940  25 يناير 2017).

المتمرد الأبدى، الذى يقول عن حق أن «المثقف على يسار أى سلطة»،.. ويقول مُخاطباً رفاقه من أهل الفكر والثقافة والفكر والنضال: «أنا معكم حتى تصلوا إلى السلطة، وبعد ذلك سأكون على شمالكم مرةً أخرى.

وسأكون مُتمرداً حتى على سُلطتكم، لأنى أؤمن بحُريّة تفوق أى تنظيم سياسى، وأى فكر سياسى، وأؤمن بديمقراطية أكثر اتساعاً من أى تنظيم شمولى».
إنه صوت الحرية يُرفرف عالياً، ويعلو فوق كل قيد، ويسمو على كل اعتبار.

اقرأ ايضاً | وزيرة الثقافة تبحث ترتيبات احتفالية ختام القاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية

نقلا عن مجلة الادب :

202302012