كنوز| مصطفى أمين يروي: كيف أنقذت أم كلثوم «أخبار اليوم»؟

على ومصطفى أمين يستقبلان أم كلثوم وعبد الوهاب بحضور كامل الشناوى
على ومصطفى أمين يستقبلان أم كلثوم وعبد الوهاب بحضور كامل الشناوى

تمر بنا الذكرى 48 على غياب السيدة أم كلثوم صاحبة الصوت المعجزة التى ورد اسمها منذ أسابيع فى المركز61 بقائمة أعظم 200 مطرب ومطربة عبر التاريخ  فكانت المطربة العربية الوحيدة التى تضمنتها القائمة التى أعلنتها مجلة «رولينج ستون» الأمريكية، وقالت المجلة فى تقريرها إن أم كلثوم ليس لها نظير حقيقى بين المطربين فى الغرب، ولعقود من الزمان مثلت روح العالم العربى، ولا يمكن طمس نوع غنائها أو إنكار قدرتها الصوتية فى التنقل عاطفيًا بشكل مذهل فى الأغانى الصعبة التى من الممكن أن تستمر لساعات بمتعة تنعش النفس وترقى بالوجدان، وفى يوم وداعها، نزل الملايين إلى شوارع القاهرة للتعبير عن حزنهم، لأن تأثيرها تجاوز القارات، ووصفها المغنى الأمريكى «بوب ديلان» بـصاحبة الصوت المعجزة.

من حقنا أن نفخر ونعتز ونحن نحيى ذكرى فاطمة إبراهيم السيد البلتاجى الشهيرة بأم كلثوم التى غابت عنا فى الثالث من فبراير 1975 وخرجت الملايين لتشييعها فى وداع رسمى وشعبى أشبه بالطوفان البشرى الذى سد كل الشوارع المتفرعة من ميدان التحرير بعد خروج النعش من مسجد عمر مكرم، ومن حق الملايين العربية التى كانت تلتف حول المذياع مساء كل خميس من كل شهر أن تفخر أيضا بأن تكون أم كلثوم التى جمعتهم رغم الخلافات السياسية المطربة المصرية العربية الوحيدة المعترف بها ضمن قائمة أعظم مطربى ومطربات التاريخ مع «فرانك سيناترا، وإلتون جون، وبوب مارلى، ومايكل جاكسون، وأديل، وأريثا لويز، وليدى جاجا وبيونسيه وويتنى هيوستن وفريدى ميركورى وإلفيس بريسلى وآخرين».

وفى ذكراها الـ 48 نترك ما كتبه عنها الكاتب الكبير مصطفى أمين من حكايات كثيرة، من أهمها ما يتعلق بأم كلثوم التى أنقذت «أخبار اليوم» فكتب يقول: 
«كانت أم كلثوم متحمسة جداً لإصدار صحيفة مصرية خالصة، وأول نسخة من أخبار اليوم حملتها وذهبت بها إلى بيتها فى الزمالك، كان الوقت منتصف الليل، فرحت جداً وكانت من اللحظات السعيدة فى حياتها وطبعاً فى حياتى، كانت أم كلثوم أول من شجعنا على إصدار أخبار اليوم، وأول من وقفت معنا، وحدث أن خاضت «أخبار اليوم» معارك طاحنة مع إحدى الحكومات التى كانت تصادرها، المظاهرات التى كانوا يحركونها لتضربنا بالطوب، محرروها الذين يزج بهم فى السجون والمعتقلات، والأوامر التى صدرت إلى الشركات والمحال التجارية بعدم نشر إعلانات فى «أخبار اليوم»، ورضخ بعضها للضغط فامتنعت عن نشر الإعلانات، ووقعت «أخبار اليوم» فى ضائقة مالية، بعنا البيت الذى نملكه فى الروضة، ولم يكف سداد المطلوب، بعنا أسهم أبى فى شركة بيع المصنوعات المصرية وابتلعتها الجريدة الجائعة، ذهبنا إلى البنوك نقترض منها وصدرت الأوامر لها بالامتناع عن إقراض «أخبار اليوم»، استنفدنا كل ما نستطيع أن نقترضه من البنك العربى وكان صاحبه الفلسطينى عبد الحميد شومان فتح حساباً لأخبار اليوم على بياض بثلاثين ألف جنيه، لكن الثلاثين ألف جنيه انتهت أيضاً وامتدت أيد كثيرة لتنقذنا.

كنا نخفى هذه الحقيقة عن كل من يعمل معنا، نضحك وقلوبنا تبكى، كنا نكتب ولا نعرف هل سنجد ثمن الورق الذى ستصدر به الجريدة فى اليوم التالى، وذات يوم دق جرس التليفون فى مكتبى وإذا بها أم كلثوم التى قالت إنها تريد أن تقابلنى أنا وعلى أمين فوراً فى بيتها، فذهبنا إليها فقالت إنها علمت أننا فى أزمة خانقة وأن «أخبار اليوم» مهددة بالإفلاس وأنها على استعداد لأن تضع كل مليم تملكه تحت تصرفنا، بهتنا وسألناها من أين عرفت هذا السر فقالت إنها ترفض أن تقول من أين علمت به، أحضرت لنا عشرين ألف جنيه وقالت إنها مستعدة لأن تبيع مصاغها وبيتها وتقدم لنا حتى مائة ألف جنيه، قلنا لها «انت مجنونة.. هذا المبلغ قد يضيع»، قالت: «إن الذى يهمنى هو ألا تموت جريدة مصرية»، فقلنا: «إننا نشك فى أننا نستطيع أن نسدد لك هذا المبلغ قبل سنوات»، قالت: «لا أريد أن تسددوه إلا بعد أن تسددوا آخر دين عليكم للآخرين»، واكتفينا بمبلغ 18 ألف جنيه، وأردنا أن نكتب إيصالاً باستلامنا المبلغ ورفضت أم كلثوم، وكتبنا الإيصال فمزقته ورمته فى وجوهنا!

حكايات كاتبنا الكبير مصطفى أمين كثيرة ولا تنتهى وفى حكاية أخرى يقول: 

دخلت السجن، ووضعونى تحت الحراسة، وصادروا أموالى فى البنك، وكان القرار أن أموت جوعًا، وسدوا علىّ جميع المساعى حتى لا يصلنى قرش واحد من أخى «على» الموجود فى لندن، كنت أعرف أن كثيرين من أصدقائى سوف يقبلون أن يقرضونى فى هذه المحنة، ولكننى رفضت أن أحرجهم لأننى أعرف أنهم كانوا يقبضون على كل من يمد يده لمساعدة مسجون سياسى، وفكرت أن ألجأ إلى أم كلثوم وقلت لها: إننى محتاج فورًا إلى مائتى جنيه، وأحب أن أنبهها أن هذا المبلغ سوف يُعرضها لتوضع أموالها كلها تحت الحراسة، وقلت لها إننى لن أتضايق إذا رفضت أن تدفع هذا المبلغ، وأن الظروف لا تسمح لها بأن تقرضنى هذا المبلغ، وقلت فى ختام رسالتى «إننى قد لا أستطيع أن أرد المبلغ قبل عشر سنوات، وقد لا أستطيع أن أرده لها أبدًا»، وأرسلت لى أم كلثوم خمسمائة جنيه، وقالت إنها مستعدة أن ترسل لى خمسة آلاف!

وحدث أثناء سجنى أن جلست أم كلثوم مع الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر والموسيقار محمد عبد الوهاب يتناولون العشاء على مائدة فى نادى الضباط فى مساء يوم ٢٣ يوليو سنة ١٩٦٥، وكان هذا عقب القبض علىّ بيومين، وقال عبد الناصر لعبد الوهاب طبعًا أنت زعلان علشان قبضت على مصطفى؟ وقال عبد الوهاب «أبدًا يا افندم.. المسىء يلقى جزاءه»، والتفت عبد الناصر إلى أم كلثوم وسألها رأيها هامسًا فقالت «أعرف مصطفى طول حياته وأعرف وطنيته، وأعرف كيف دخل كل مليم فى أخبار اليوم»، وأشاح عبد الناصر بوجهه فاستمرت تدافع عنى، وسعت لدى المشير عبد الحكيم عامر للإفراج عنى وفشلت، وذات يوم كنت فى زنزانتى بليمان طرة وجاء عسكرى يقول لى الدكتور عبد القادر إسماعيل كبير أطباء السجن يريدك فوراً، ذهبت إليه فنظر إلىّ شذراً وفوجئت به يقول لى: «اخلع الجاكتة»، دهشت من الغطرسة التى يعطينى بها الأمر، فقد كان رجلاً وديعاً ومؤدباً، وتضايقت لأنه يكلمنى بهذا الجفاء أمام المسجونين الآخرين الذين يملأون العيادة، خلعت الجاكيت وإذا به يقول لى بنفس اللهجة القاسية: «أرقد على مائدة الكشف»، نمت فوجدته يضع سماعته على جسمى العارى وهو ينحنى ليقول لى هامساً «أم كلثوم بتقول لك اسمعها يوم الخميس القادم لأنها ستغنى قصيدة فيها بيتان أو ثلاثة توجههم لك». 

جلست فى زنزانتى أنتظر قصيدة أم كلثوم والأبيات الثلاثة، وفى مساء الخميس غنت أم كلثوم قصيدة «الأطلال»، وكانت إذاعة السجن تذيع الحفلة كلها على الهواء بناء على إلحاح المسجونين وفجأة سمعت أم كلثوم تغنى «اعطنى حريتى.. أطلق يديا.. إننى أعطيت ما استبقيت شيئاً»، انتفضت فى فراشى وأنا أسمع هذه الأبيات، أحسست أننى أتلقى من أم كلثوم رسالة تقتحم أسوار السجن، ولم تتوقف أم كلثوم عن المطالبة بالإفراج عنى، ذات يوم صحبت ابنتى رتيبة وابنتى صفية إلى بيت الرئيس أنور السادات وقابلت معهما السيدة جيهان السادات وتلقت وعداً من السادات بأنه سيفرج عنى بعد المعركة مباشرة وأنه يعرف أننى مظلوم.

من كتاب «مسائل شخصية»

إقرأ أيضاً|«فلانتين» للفرجه فقط| عيد حُب بكلمة وابتسامة وتمنيات السلامة